gulfissueslogo
الخيارات الدولية الديكتاتورية أو الارهاب الخيار الثالث
عبدالله الراشد

 أثارت  تصريحات الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش وعدد كبير من قادة الدول الاوروبية مخاوف من عودة لغة الحروب التقليدية التي عاشتها الولايات المتحدة مع خصومها التقليديين. فالحديث حول مكافحة الارهاب وملاحقة الجماعات والدول المصنفة  بحسب المعايير الاميركية في قائمة الارهاب او الراعية للارهاب يثير قلقاً بالغاً لدى الكثير من المتطلعين نحو ارساء دعائم دولة القانون، والحريات الفردية، والحقوق السياسية وتالياً اخراج الدولة القطرية من أزمتها الحالية المتمثلة في غياب التمثيل السياسي الحقيقي والشرعية المنبعثة من الارادة الشعبية والاستتباع القهري للخارج على حساب مصالح الافراد والجماعات المنضوية داخل هذه الدولة.
 
المخاوف من عودة ما يمكن تسميته بالديكتاتورية الدولية القائمة على مبرر مكافحة الارهاب لها ما يبررها لدى كثير من المراقبين والمهتمين بالتنمية السياسية في منطقة الخليج. فدول المنطقة المصنفة  بحسب وصف المفكر العربي برهان غليون "حقل صيد" للولايات المتحدة كانت تلتزم الاخيرة ازاءها موقفاً متشدداً ازاء أي تحول ديمقراطي فيها على اعتبار أن الديمقراطية قد تمهد الطريق  في هذه المناطق، كما في مناطق اخرى من العالم العربي والاسلامي، للتيارات الاصولية للانقضاض على السلطة بما يمثل تهديداً خطيراًَ للمصالح القومية للولايات المتحدة وللغرب بصورة عامة.
 
وكان الرأي المتداول بين النخب السياسية والاكاديمية في الغرب والولايات المتحدة يقوم على أساس ان النظم الديكتاتورية في العالم العربي وفي منطقة الخليج بوجه خاص باعتبارها المنطقة الحاضنة للنصيب الاكبر من المصالح الاستراتيجية الغربية، وحدها الكفيلة بقمع واخماد جذوة التطرف من خلال استخدام سياسة قهرية وشراء الذمم واغماس عدد كبير من افراد هذه التيارات في طاحونة السوق وربطها بسياسات الدولة الريعية. وتبين ان الدولة القطرية بنزوعها الديكتاتوري كانت مولداً قوياً لتيارات متشددة ناشئة من سنخ الدولة ذاتها وتعبيراً عن طبيعتها. فالحركات الدينية ذات التوجهات الراديكالية هي وليدة بيئات سياسية متشددة ولا يمكن، والحال هذه، امتصاص هذا المخزون الراديكالي عبر تضييق الخناق داخلياً وتوفير المزيد من الدعم للانظمة الديكتاتورية التي تآكلت مشروعيتها بدرجة خطيرة قد تنذر باضطرابات سياسية واسعة النطاق قد تفضي الى انهيار النظام السياسي في بعض هذه الدول.
 
 
 
لقد اسفرت التوجهات السياسية المتشددة في بعض دول الخليج عن انفجار الاوضاع الداخلية ونشوء تيارات متطرفة عابرة للحدود تركت تأثيراتها ليس على الاوضاع الداخلية التي نشأت فيها هذه التيارات بل اخذت في التوسع لتشمل مناطق مختلفة من العالم. وللاسف الشديد ان ما يغذي هذه التيارات ليس سوى هذه الرؤية المعلولة القائمة على دعوى ان الدولة الدكتاتورية وحدها القادرة على خنق التشدد الداخلي واطفاء النزوعات الراديكالية بين الافراد والجماعات. والحال ان الدول الدكتاتورية اضافة الى كونها مثلت الموتور المحرك للتشدد عجزت بعد فترة من الزمن عن قدرتها على ضبط او محاصرة آثار التشدد الناجمة عن سياساتها القهرية. فالتجارب السياسية البعيدة والقريبة العهد تؤكد مكرراً بأن مفعول الانفتاح السياسي الداخلي يفوق بأضعاف مفعول ادوات القهر في امتصاص التوترات الامنية. فاشاعة الحريات العامة، وتشجيع المؤسسات الاهلية، واطلاق حرية التعبير والتجمع وبناء دولة القانون مثلت دائماً الوصفات السحرية لمجتمعات كانت على وشك الخوض في حرب اهلية داخلية وكانت هذه الوصفة وحدها القادرة على تسوية أزمة الشرعية، والالتحام العنيف بين المجتمع والدولة.
 
وبالعودة الى سياق الكلام الاصلي، فأن التوجه العالمي الجديد الذي بدأت الادارة الاميركية الجديدة ترسي بعض معالمه وتتلقفه بعض العواصم الاوروبية والعالمية والمتمثل في مكافحة الارهاب واعلان حرب على التيارات المتطرفة، يبعث على القلق من تبلور نظام عالمي جديد يتمحور حول فكرة الديكتاتورية الدولية والذي يبرر اضافة الى الحضور العسكري الدائم والمنتشر للاقطاب الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، فإنه قد يتمخض عن تعزيز التحالف مع النظم السياسية القمعية في منطقة الشرق الاوسط وفي منطقة الخليج بصورة خاصة. يضاف الى ذلك، إن التعريف المعمى لمفهوم الارهاب يفتح  قائمة كبيرة لافراد وجماعات مرشحة لأن ينالها العقاب الدولي باسم الجماعات الارهابية، خاصة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان كل ما يصور بوصفه غير منسجم مع المصالح القومية الاميركية والى حد أقل الغربية قد يزج به في قائمة الارهاب. فالديمقراطية نفسها التي طالما وصفت باعتبارها بضاعة غير مرغوبة من قبل قادة دول مجلس التعاون او غير قابلة للتصدير الى منطقة الخليج بحسب عدد من المنظرين السياسيين الاميركيين باعتبارها قد تؤول الى وصول جماعات اصولية الى السلطة وبالتالي تهديد المصالح القومية الاميركية،  ستكون، أي الديمقراطية ودعاتها مصنفين في قائمة الارهابيين وبالتالي ستفتح التوجهات الدولية الجديدة جبهة التشدد كيما تستوعب أناس آخرين ومناطق اخرى.
 
ورغم ان هذا التوجه الاميركي والى حد اقل الاوروبي مازال أسيراً للعواطف المتفجرة اثر زلزال الحادي عشر من سبتمبر في واشنطن ونيويورك، والرغبة الجامحة الى اعادة الهيبة الاميركية، ورغم تنامي الاعتراض ضد توجه غير عقلاني كهذا سواء داخل الولايات المتحدة واوروبا ومناطق عديدة من العالم الا أن الحديث عنه والسعي الى تجريبه يعتبر تدشيناً لمرحلة بالغة الخطورة. ففي حديث الرئيس الاميركي جورج بوش في الحادي والعشرين من سبتمبر امام الكونغرس الاميركي ما يستحق التأمل فتقسيم العالم الى حسب قوله "من هم معنا أو مع الارهابيين" يلغي خياراً ثالثاً تنتمي اليه الاغلبية الساحقة من شعوب ودول العالم. وهو خيار يرى بأن الارهاب هو رد فعل على اوضاع محلية ودولية مختلة،  وان مكافحة الارهاب تتطلب اعادة تقييم شامل للسياسة الخارجية وشبكة التحالفات وقواعد السياسة الدولية التي انهكت شعوب العالم ووسعت الهوة بين الفقراء والاغنياء والكبار والصغار.
 
تناضل المنظمات الحقوقية والسياسية في العالم من اجل اعادة تفعيل مبادىء حقوق الانسان والالحاح على ايجاد حلول جذرية للتوترات السياسية والامنية التي تشهدها مناطق عديدة من العالم، وفي مقدمتها اعادة تأسيس العلاقة بين المجتمع والدولة وفق قواعد صحيحة تكفل الاستقرار السياسي الداخلي وتضمن حقوق الافراد والجماعات في المشاركة السياسية وفي صناعة القرار وتوفر بيئات صالحة لنشوء مؤسسات مدنية قادرة على استيعاب حاجة الافراد والجماعات للتعبير عن نفسها بصورة سلمية وقانونية والانخراط في العملية التنموية الشاملة وتخفيف قبضة السلطة على مقدرات الدولة.
 
إن الانجرار نحو استعمال ادوات الارهاب، أي بمعنى آخر مكافحة الارهاب بالارهاب نفسه كما عبر عن ذلك بعض الساسة الاميركيين لا يعني سوى توفير مبررات العنف المضاد، أي الابقاء على جذر المشكلة، وبالتالي الانحباس داخل دائرة الازمة التي طالما انتجت فعلاً ورد فعل مضاد دون الاستناد على رؤية استراتيجية عميقة تسهم في استكشاف جذور الازمة وتقدم تصورات الحل المفترضة. وهذا الخيار ـ أي اللجوء الى استعمال الارهاب لمكافحة الارهاب ـ ليس جديداً فهو الاصل المعمول به داخل الدولة القطرية، وهو ذاته السبب الرئيسي في نشوء تيارات راديكالية فما هو اذن الجديد في الاستراتيجية الاميركية؟
 
إن الدخول في مواجهة عسكرية مع ما يسمى بؤر الارهاب في العالم قد ينظر اليه باعتباره خياراً هروبياً يحاول المدعي اسقاط مسئوليته في تأسيس او تفجر هذه البؤر. بمعنى آخر ان الارهاب كظاهرة عالمية لم تنشأ في فراغ وبمعزل عن المؤثرات السياسية والاقتصادية والفكرية المحيطة بها، بل ـ وبحسب التجارب الراهنة ـ هناك من الدلائل الدامغة ـ ما يؤكد دور الدولة والنظام العالمي في رعاية هذه الظاهرة وتغذيتها. فلجوء الدول  الى وسائل قمعية واتكاءها على مؤسسات أمنية في تحقيق الاستقرار السياسي ممثلاً في بقاء السلطة، يضاف اليه الدعم العلني وغير المحدود من قبل القوى الكبرى المستفيدة من هذه الدول لضمان مصالحها الحيوية، وتأمين تدفق بضائعها الى اسواق هذه الدول دون النظر الى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها هذه الدول، والاتجاهات المتنامية نحو المطالبة باعادة تشكيل علاقة المجتمع بالدولة وتحقيق توازان جديد للحقوق والواجبات في ضوء التحولات العميقة التي شهدتها هذه الدول ساهم كل ذلك في اتساع الفجوة بين المجتمع والدولة. ومنذ بدأت القطيعة بينهما اصبح هناك مصادر للانشقاق تتغذى خارج مجال الدولة وفي بعض الاحيان تفيد من امكانيات الدولة ذاتها للخروج عليها وعلى النظام العالمي نفسه الذي يسندها.
 
فالعمليات الارهابية التي شهدتها واشنطن ونيويورك هي تعبيرات ذات دلالات سياسية وثقافية عميقة وخطيرة، وهي تمظهر لأزمة النظام العالمي نفسه، بما يتطلب اعلان حالة طوارىء لاخراج هذا النظام من ازمته عبر تقديم صياغات متوازنة للعلاقات الدولية وارساء اسس جديدة لعلاقات الدول مع بعضها وعلاقاتها مع شعوبها في ضوء المعايير الانسانية المتفق عليها والقائمة على اساس الاحترام المتبادل وحق تقرير المصير ومبادىء حقوق الانسان. 
 
ان الخيار الثالث الذي نقترحه كمخرج من نفق الازمة الراهنة في دول الخليج شانها شأن دول عديدة في العالم يتمثل في تشجيع الديمقراطية، وهذا يتطلب من الدول الكبرى استعمال نفوذها السياسي لارساء دولة القانون وصياغة دساتير فاعلة تضمن حقوق الافراد والجماعات وتنمي المؤسسات الاهلية القادرة على امتصاص الفائض الاجتماعي الداخلي، وتغيير النظرة الى دول الخليج باعتبارها "حقول صيد" الى دول تحتضن مجتمعات عاقلة تحمل تطلعات مشتركة مع مجتمعات العالم الغربي نفسه، وتأمل في ان تنعم بالامن والحرية والسلام الاهلي أي النظر اليها باعتبارها مجتمعات  تحتضن طاقات قادرة على المشاركة في صنع القرار السياسي وفي تمثيل شعوبها داخلياً ودولياً.
 
هذا الخيار يتأسس على حقيقة أن الاستقرار السياسي الداخلي لا تنتجه النظم السياسية في الخليج بصيغها الحالية بل على الضد من ذلك فهذه النظم وبسبب سلوكها السياسي العام يسهم بدرجة كبيرة في تغذية مبررات العنف والحرب الاهلية الداخلية، وبالتالي فان الاستقرار الداخلي يتحقق اولاً واخيراً من خلال اشراك كافة القوى الاجتماعية في العملية السياسية والدخول في العملية الديمقراطية لتحقيق مفهوم الشراكة الكاملة التي تكفل حق الافراد والجماعات كما تفرض عليها الامتثال لمقتضيات العملية الديمقراطية والاجماع العام.
 
ورغم ان خيار الدمقرطة في ضوء الاتجاه العالمي الحثيث نحو مكافحة الارهاب بأشكاله المختلفة كمخرج للازمة الدولية الراهنة يبدو مستبعداً، الا أن هذا الخيار سيفرض نفسه بقوة بمرور الوقت بوصفه خياراًَ عالمياً من شأنه اعادة الهدوء والاستقرار في مناطق التوتر الراهنة وعلى مستوى العالم ايضاً.
 
وهذا يتطلب من كافة القوى السياسية في منطقة الخليج الاضطلاع بدور اكبر وتحمل مسئوليتها التاريخية في اعانة دولها على ايقاف محركات العنف الداخلية السياسية والاقتصادية والفكرية، كما يتطلب من النخب الفكرية في منطقة الخليج والتي طالما عزلت نفسها عن الواقع السياسي وتشاغلت بنقد الواقع من خلال مجالس مغلقة الخروج من عزلتها والتعبير عن نفسها في الهواء الطلق والانخراط في عملية التغيير السياسي السلمي، كما يتطلب ايضاً من دول الخليج توفير اجواء ايجابية لنشوء مؤسسات اهلية قادرة على تعميم ثقافة السلم الاهلي وتقديم صياغات قانونية متطورة قادرة على توفير ضمانات صلبة فيما يتعلق بحرية التعبير والتمثيل السياسي وحقوق الانسان في ابعادها السياسية والاقتصادية والفكرية.
 
 

copy_r