gulfissueslogo
تقرير لجنة تقصي الحقائق أكد ضرورة التغيير
د.سعيد الشهابي

29-11-2011
اثيرت ضجة كبرى حول التقرير الذي اصدرته لجنة حقوقية تم تكليفها التحقيق في ما جرى في البحرين بعد اندلاع ثورتها في 14 فبراير الماضي. جاء ذلك بعد ظهور مؤشرات لاحتمال مطالبة الجهات الحقوقية التابعة للامم المتحدة بارسال لجنة دولية مستقلة لتقصي الحقائق، بعد تواتر التقارير حول اساءة معاملة المعتقلين وإطلاق النار على المتظاهرين وقتل العشرات منهم. قطاع كبير من المعارضة رفض اللجنة منذ الاعلان عن تشكيلها، نظرا لعدم استقلالها ولارتباطها المباشر بنظام الحكم البحريني.
فالحاكم هو الذي قام بتشكيلها، واختار اعضاءها، وقام بتمويل عملها. ولكن المؤسسات الحقوقية عموما تعتقد بعدم جواز ارتباط اية لجنة تحقق في ما قامت به السلطات بالجهات الحكومية، لأسباب عديدة من بينها تضارب مصالح اعضائها، واستحالة التجرد والموضوعية عن الجهة الممولة.
ولكن كان للولايات المتحدة وحلفائها رأي آخر، مفاده ان من الضروري الاسراع بالتحقيق الذي يظهرها راغبة في التعاطي مع التجاوزات، وانها لا تمارس ازدواجية في المعايير والمواقف. ولا بد من الاشارة الى ان الموقف الغربي الداعم لانظمة الاستبداد خصوصا في دول مجلس التعاون الخليجي توازيه مواقف اعلامية ليبرالية تدعو الى سياسات متوازنة ومتشابهة ازاء جميع الثورات العربية، وما اكثر المقالات والتغطيات الاعلامية التي انتقدت بوضوح حالة الازدواجية والتمييز في السياسات الخارجية للولايات المتحدة وحلف الناتو، خصوصا ازاء ثورتي البحرين واليمن. وبعد رحيل علي عبد الله صالح اصبحت ثورة البحرين الوحيدة التي تعامل بشكل مختلف عن بقية الثورات. وجاء مشروع لجنة بسيوني ليبعد الانظار عن مرتكبي الجرائم الحقيقيين وليوفر للولايات المتحدة وبريطانيا مخرجا لعدم اتخاذ موقف حاسم ازاء استمرار نظام يطالب الشعب باسقاطه، وليختزل القضية في انتهاكات حقوقية وليس في استبداد سياسي عتيد.
اشكالية التداخل بين الشأن السياسي والموضوع الحقوقي اصبحت وسيلة للتلاعب بالثورات العربية ومصائر الشعوب. فتارة تتحول القضية الحقوقية الى قضية مفصلية، توفر للقوى الكبرى ذريعة التدخل في البلدان الاخرى، وتصبح الخطوة الاولى للعمل المتواصل لاسقاط ذلك النظام لانه يختلف في ايديولوجيته وسياساته عن تلك الدول. وتارة يتم اختزال ازمة سياسية وثورة شعبية الى مسألة حقوق وسجناء، فيتوفر للدول الصديقة للنظام مدخل يتظاهر بالضغط على تلك الدول لتحسين اوضاع حقوق الانسان، مع التغاضي عن الحقوق السياسية المنتهكة. ويمكن تصنيف تقرير اللجنة شبه الرسمية لتقصي الحقائق في البحرين ضمن الصنف الثاني من التوجهات. وهنا لا بد من طرح عدد من الملاحظات: اولها ان لجنة التحقيق جاءت بعد ضغوط من مجلس حقوق الانسان ومفوضية حقوق الانسان برئاسة السيدة نافي بيلاي، والبرلمان الاوروبي ومنظمات حقوقية دولية عديدة تطالب بتحقيق دولي في ما جرى في الشهور التي اعقبت 14 فبراير، وهو اليوم الذي انطلقت فيه ثورة البحرين.
ومن اجل الالتفاف على حتمية ارسال لجنة دولية مستقلة، اقترحت واشنطن ولندن على العائلة الحاكمة في البحرين ان تتبنى تشكيل لجنة خاصة بها للقيام بذلك. وهذا ما حدث. صحيح ان اللجنة ضمت في عضويتها عددا من الرموز الحقوقية الدولية المرموقة، مثل نايجل رودلي، المقرر الخاص السابق للامم المتحدة حول التعذيب، ولكن تركيبتها وتمويلها واحتياجاتها البشرية والمهنية تم توفيرها من قبل حكومة البحرين. وهنا تطرح التساؤلات حول مدى قدرة اللجنة على العمل باستقلال تام.
ثانيها: ان اية لجنة حقوقية دولية مستقلة تبحث عادة عن ادلة لادانة النظام ورموزه، وفي حالة لجنة بسيوني، يستحيل ذلك لان من غير المنطق ان تدين اللجنة الجهة التي مولتها ووفرت لها كافة التسهيلات. ولذلك جاء تقرير اللجنة باهتا، يتحدث بعموميات بدون ان يلقي اللوم على رموز النظام.
ثالثا: ان رئيس اللجنة، منذ الايام الاولى ادلى بتصريحات كشفت عدم حياده او مهنيته، وانحيازه لرموز الحكم، فعبر عن ثقته بهم وانهم يمتلكون عقلية ديمقراطية. رابعا: ان تشكيل اللجنة كان يهدف لحرف مسار الثورة وتحويلها من قضية سياسية تهدف لتغيير النظام، على غرار ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، الى حركة احتجاجية تهدف لتحسين اوضاع حقوق الانسان، وشيئا فشيئا تتلاشى شعاراتها السياسية وتصبح اكثر توجها نحو القضايا الحقوقية.
خامسا: ان مهمات اللجنة واطر عملها خضعت للتغيير مع استمرار التحقيق، وفي النهاية اصدرت تقريرا لا يحدد مرتكبي جرائم التعذيب والجرائم ضد الانسانية، بل يؤكد ما هو معروف عن وجود انتهاكات حقوقية ومقتل العشرات خارج الاطر القانونية، وممارسة التعذيب على نطاق واسع. هذه الحقائق كانت معروفة منذ سنوات. وفي العام الماضي اصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش الامريكية تقريرا مهما بعنوان 'العودة الى ممارسة التعذيب' واصدرت الهيئة الاسلامية لحقوق الانسان تقريرا مماثلا بعنوان 'الوعود المكسورة' وكلها تؤكد وجود تعذيب ممنهج يمارس على نطاق واسع بعد ان تم تقنينه عمليا بالقانون رقم 56 الذي اصدره الحاكم في 2002 والذي يوفر للمعذبين حصانة ضد المقاضاة والمحاسبة.
سادسها، ان فترة الانتهاكات التي حددت للجنة اختصرت بالشهور الستة التي اعقبت اندلاع الثورة وتدخل القوات السعودية، وهذا يعني ان النظام وحلفاءه يأملون اسدال الستار على السنوات الثلاثين الماضية التي تواصلت الانتهاكات خلالها الى مستويات غير مسبوقة. وربما ليس هناك دولة عربية اخرى توفرت ضد حكومتها ادلة على انتهاكات ممنهجة ومستمرة لحقوق الانسان كما هو الحال مع البحرين، الامر الذي من شأنه ان يسبب احراجا شديدا لحلفاء النظام واصدقائه. سابعا: انها المرة الاولى التي تحتفي بها حكومة بتقرير يفترض ان يحتوي ادانات لها، فيدعى الاعلاميون من كل مكان، وتبث اجواء البهرجة، الامر الذي يثير شبهات كثيرة حول حقيقة ما دار في الكواليس بين اصحاب التقرير ورموز الحكم.
كان واضحا منذ صدور قرار تشكيل اللجنة ان قوى المعارضة خصوصا شباب 14 فبراير، الذين فجروا الثورة، معترضون عليها ولا يؤمنون بانها سوف تجري تحقيقا محايدا ما دامت اللجنة ممولة من قبل النظام. ولذلك تواصلت فعاليات الثورة بدون توقف طوال تلك الشهور، ويمكن القول انه لم يمر يوم واحد بدون حراك شعبي، خصوصا خارج العاصمة. وثمة سعي متواصل لحصر الازمة في البحرين بالبعد الحقوقي مع انها قضية سياسية عميقة الجذور، شارك فيها المناضلون من كافة الاتجاهات الايديولوجية والمذهبية على ارضية وطنية، بعيدا عن املاءات الخارج، كما تسعى الحكومة لترويجه، بل ان تقرير اللجنة شبه الحكومية اكد عدم وجود دليل على اي تدخل ايراني في الثورة، الامر الذي سعى الحاكم لتفنيده في خطابه الذي القاه بعد عرض التقرير من قبل الدكتور محمود شريف بسيوني. ولكن تبرئة ايران من التدخل صاحبه تبرئة الجيش السعودي من التدخل في الشأن الداخلي البحراني، وذكر التقرير ان الجيش السعودي، وفق الرواية الرسمية، وجد لحماية المنشآت الحيوية، ولكنه لم يذكر مصادر تهديد تلك المنشآت. فاذا كانت ايران هي مصدر التهديد فعلى الجيش السعودي الانسحاب فورا، لان التقرير الغى مقولة وجود ايراني. المعارضة تقول ان المشرفين على التقرير تصرفوا كالمحامين الذين يدافعون عن شخص متهم بالقتل، فهم يعلمون انه قاتل، ولكنهم يسعون لخلق تشكيك لدى القاضي وهيئة المحلفين لمنع تثبيت التهمة، واذا ما ثبتت التهمة توجهوا للسعي لتخفيف الحكم وطرح الاعذار والتبريرات لارتكاب الجريمة. لم يتصرف الدكتور بسيوني كمحقق مستقل، بل حاول ابعاد التهم عن الرموز الكبيرة. وفيما يحاكم الرئيس المصري حسني مبارك بتهم عديدة، من بينها اصدار الاوامر باطلاق النار على المتظاهرين، فان حاكم البحرين لم يخف دوره يوما في اصدار قانون الطوارئ الذي اطلق عليه 'قانون السلامة الوطنية' ولم يتردد في شكر القوات المسلحة وقوات الامن على جهودهما لما يسميه 'الحفاظ على الامن والاستقرار'.
السؤال هنا: هل يمكن لانظمة الاستبداد ان تسمح بالحريات وتحترم حقوق الانسان؟ نستطيع القول بكل جزم ان ذلك أمر يقترب من الاستحالة. فاحترام حرية التعبير تعني نشر الوعي التغييري في قطاعات المجتمع. وهذا يؤدي الى تحريك الجماهير على طريق التغيير. فتنتشر المقالات وتخرج المظاهرات والاحتجاجات. وهنا يصبح الحاكم بين امرين: فاما القمع او السماح باستمرار التموج السياسي. في الدولة الديمقراطية يؤدي هذا الحراك الى تغير طوعي، كأن يتنازل الحاكم، او يتحرك البرلمان للتصويت ضده. اما النظام القمعي فتتحرك اجهزته لقمع القوى المعارضة، ويبدأ بذلك مسلسل انتهاكات حقوق الانسان. فقبل اسبوعين عبرت وزيرة الخارجية الامريكية، هيلاري كلينتون، عن استيائها من القمع في البحرين وطالبت السلطات بالسماح بالتظاهر والافراج عن المعتقلين بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم.
انها تعلم ان ذلك لن يتحقق. وكذلك الامر عندما تحدثت بعد صدور توصيات تقرير اللجنة شبه الرسمية التي تطالب بالتحقيق المستقل في قضايا التعذيب ومحاسبة مرتكبي تلك الجريمة، والسماح بحرية التعبير. وأكد وزير الخارجية البريطاني تحميله السلطات البحرينية مسؤولية تنفيذ تلك التوصيات. هذا مع علمهم ان ذلك لن يتحقق لان النظام يعلم ان السماح بحرية التعبير وضمان حق التظاهر سوف يدفع الثوار للتوجه الى دوار اللؤلؤة والتخندق فيه كما يفعل ثوار مصر في الوقت الحاضر. وسوف يؤدي ذلك الى عودة الزخم الثوري الذي يطالب باسقاط النظام. هذه هي النتائج المتوقعة في ما لو تم الالتزام بادنى مستلزمات الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان، ولكن ذلك لا يتناسب مع طبيعة الاستبداد والعقلية الديكتاتورية. وبالتالي سوف يظل الوضع المضطرب والمتوتر كما هو عليه، ولن يحدث تغير حقيقي على الساحة. وهذا يعني ان التقرير لا يعني الكثير، ولن يختلف عما سبقه من تقارير اصدرتها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
الثوار من جانبهم يدركون هذه الحقائق، ولا يعتقدون ان التغيير سوف يحدث نتيجة صدور قرار هنا وآخر هناك، بل ان الحضور الميداني هو الطريق الاقصر لتحقيق المطالب. الشعوب العربية تعلمت درسا من التجربة الفلسطينية المعاصرة. فعشرون عاما من المفاوضات اوصلت الوضع الى طريق مسدود، وادت الى تضييق الخناق على الفلسطينيين، واصبحت طروحات المجموعات المقاومة اقرب الى الواقعية لانها حققت بعض الانجازات، وآخرها اطلاق سراح آلاف الفلسطينيين من السجون الاسرائيلية في مقابل اطلاق سراح العسكري الاسرائيلي جلعاد شليط. وسبق ذلك ما فعله حزب الله في 2006 عندما قام بأسر جنديين اسرائيليين، لاستعمالهما في التفاوض لاطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين واللبنانيين، وقد تحقق ذلك. الشعوب العربية تدرك ان مفاوضات الغرف المغلقة والمساومات السرية انما تقوي الاستبداد والديكتاتورية ولا تحقق للشعوب مطالبها. وما حدث في مصر مؤخرا يؤكد ذلك، اذ استغل العسكريون حالة الهدوء لبسط سيطرتهم على الامور والتفاوض مع قوى الثورة المضادة لاجهاض الثورة ومنع سقوط النظام السابق نهائيا. وشهد الربيع العربي محاولات كثيرة لاجهاض الثورات تارة بعنوان الحوار، واخرى بالتدخل العسكري الغربي، وثالثة بالوعود وتأجيل الحلول. واكتشف الثوار عدم جدوى تلك الاساليب في الوصول الى احداث تغيير حقيقي في بنى الانظمة، ولذلك عادوا الى الميدان لاكمال مشوار الثورة. وشعب البحرين هو الآخر يواصل ثورته رغم تثبيط البعض بدعوى خطر مواجهة الوجود العسكري السعودي على الارض، او ان امريكا ترفض التغيير، او ان التحالف الاقليمي المتثل بمجلس التعاون الخليجي لن يسمح بالتغيير. ويرد الثوار على ذلك بان هذه الانظمة مهددة هي الاخرى من داخلها، كما هو نظام الحكم في البحرين. ويشيرون الى ما يجري في السعودية من تصاعد بطيء في الحراك الشعبي الداخلي، خصوصا بعد سقوط اربعة شهداء برصاص القوات السعودية بمنطقة القطيف. وكانت دهشة كبرى قراءة ما ينشر على صفحات التويتر من تعاطف من القطاعات المجتمعية السعودية مع المتظاهرين في المنطقة الشرقية. وربما يشير ذلك الى بداية انطلاق حراك شعبي يهدف للتغيير في الجزيرة العربية. كما ان ما شهدته الكويت مؤخرا من اقتحام مجلس الامة والمطالبة باستقالة رئيس الوزراء، بعث رسالة قوية للقوى الداعمة لانظمة الحكم الخليجية بان قضية الاصلاح السياسي اصبحت حاجة ملحة رغم تجاهل الغربيين. وهذه هي الرسالة التي بعثها صمود اهل البحرين في نضالهم من اجل الحرية وحق تقرير المصير للقوى التي ما تزال تدعم انظمة الحكم البالية. الامر المؤكد ان تقرير بسيوني ليس الاول ولن يكون الاخير في مسلسل كسر العظم بين الشعب والعائلة الحاكمة، ولذلك تجاهله الثوار وقرروا مواصلة المشوار... حتى يتحقق التغيير.

القدس العربي

copy_r