السفير اللبنانية
لئن انطلقنا من مفاعيل العقل النمطي كمدخل تعريفي، سنجد بأنه يؤول في أي
بيئة نشأ فيها وعمل إلى عواقب شبه متطابقة، لأنه يصدر عن جهات ذات سمات شمولية
متماثلة. ليس سراً، أن يبدأ ربيع العرب بانقلاب على منظومة التصورات النمطية
المسؤولة عن توفير كل مبررات إدامة السلطة المستبدّة. فالعقل النمطي، في
حقيقته، فعّال في تنشئة وترسيخ مسبّقات ذهنية، فلا يكف عن توليد أحكام عامة،
تستند غالباً على مزاعم أكثر منها على حقائق..ولذلك، فهو ينتج متماثلين ذهنياً،
وهذا يسبغ عليه مشروعية خادعة، تقوم على توارث التصوّرات النمطية، وتحويلها الى
نهج سلوكي.
العقل النمطي بطبيعته جمعي ووراثي، ولكّن ليس على سبيل تحويل الوراثي الى جزء
من الحتميات التاريخية، لأن كثيراً من الموروثات جرى تجاوزها أو تعديلها كيما
تخدم حركات التغيير في التاريخ، ولكن المشكلة تكمن في قدرة أولئك الذين يريدون
تحويل السلطة امتيازاً خاصاً على تحويل وتخليد ما هو وراثي الى نمطي.
ما يراد من العقل النمطي في السياسة، كما في الفكر، هو حماية السلطة، بالمفهوم
الفوكوي، لأنه وحده القادر على إدامة أمد الاختلال في ميزان القوى، وتالياً
الضابط لنسق حكم شمولي تحت تأثير التصوّرات النمطية المتناسلة.
لسنا بصدد قراءة إتنوغرافية جامدة، ولكن ما يلزم الإشارة إليه أن العقل النمطي
من شأنه خلق توافقات اجتماعية تجعل الأفراد يفكّرون ويتصرفون بطريقة متماثلة،
وتالياً تخليد النظام الشمولي. فكثير من التصوّرات النمطية عن نظام سياسي ما
ساهم في إحباط العزائم عن الخروج عليه، لمجرد شياع وهم القوة الافتراضية التي
يتمتّع بها، بحسب عمل العقل النمطي.
العقل النمطي قد يتعزّز أيضاً عبر استعارة تعاليم دينية تحظر الخروج على
الحاكم، وتجعل مجرد التفكير في معارضته إثماً عظيماً وخطيئة كبرى بالمعنى
الديني التام. في العقود الخمسّة الماضية، كانت الحكومة السعوّدية تستعمل
اتّهامات ذات طبيعة فقهية/قضائية ضد معارضيها من قبيل (الإفساد في الأرض)،
و(محاربة الله ورسوله)، و(الخروج على ولي الأمر) و(التحريض على الفتنة). كان
العقل النمطي مصمّماً للتسليم باتهامات من هذا القبيل لتطابقها مع «الإعدادات»
اللاهوتية التي أرادها النظام حصناً حصيناً أمام اي نشاط احتجاجي ضده. فإسباغ
المعاني المتعالية على النظام السعودي جزء من لعبة المقدّس، التي تجعل من العقل
النمطي وعاءً أميناً لأفكار متصالحة مع المستبدّين.
ولأن العقل النمطي يأبى الأفكار الجديدة، أو مزاولة النقد الذاتي ضد ما يندرج
في خانة «المسلّمات»، فإنه يحيط نفسه بنظام حماية من نوع عقدي أو ثقافي.
فالمهمة المنوطة بالشيخ، وإمام المسجد، والخطيب الديني تتلخّص في إنتاج خطاب
تهويلي مطعّم بكل آيات الوعد والوعيد من مناجزة (ظل الله في الأرض)، عن طريق
تنظيم أو الخروج في تظاهرات شعبية ضد النظام، أو حتى المطالبة بحقوق سياسية
واجتماعية، وبالتالي رفع منسوب التابو الديني الى ذرى قصوى.
كل الذين تحرّروا، أو هم في طريقهم إلى التحرر، جزئياً أو كلياً، من سلطة العقل
النمطي، يتعرّضون لحملات ترويع دائمة من أهل دعوتهم السابقين، بهدف إبقائهم ضمن
دائرة نفوذ هذا العقل المأزوم الذي ترعاه الدولة الشمولية حق الرعاية..هؤلاء
الخارجون عن الصف، كما يصفهم حرّاس العقل النمطي، يغادرون مواقعهم بطريقة
التمرّد. ولا غرابة في ذلك، لأن الوعي الجديد، بمعنى ما، حالة تمرّد على
الخداع، وهذا ما يجعل الانفصال عن مجال تأثير العقل النمطي مدوّياً، على طريقة
عبد الله القصيمي، الذي بدأ سلفياً كما في كتابه (الصراع بين الإسلام
والوثنيّة) وختم ملحداً كما في كتابه (الكون يحاكم الإله)، وقد شهدت المملكة
عشرات الحالات المماثلة في العقدين الأخيرين.
في المقابل، ينتاب بعض المتحرّرين بصورة تامة من مفاعيل العقل النمطي عميق أسى،
لأن من بين المتآزرين معهم ظاهرياً في المعترك الإصلاحي، يتموّضعون، في حالة
ردّة مباغتة، داخل الإطارات البدائية ـ ما قبل الحداثة، فيصبح الحداثي طائفياً،
والقومي قبلياً، والأممي إقليمياً أو مناطقياً، لا سيما حين يحرّض النظام
السعودي الشبكة الغرائزية لأغراضه الخاصة، فيعود هؤلاء إلى حيث انتماءاتهم
الفرعية القبلية والمذهبية والمناطقية.
الصراع بين العقل النمطي ونقيضه المتحرر، حاسم لجهة تحديد مصير النظام السائد،
سياسياً كان أم فكرياً. ولكن، في السياسة، حين تنغلق الآفاق يصبح التمحوّر على
الذات البدائية قانوناً عاماً، كما تتحوّل المصالح الفردية والفئوية فريضة.
ما يبقي النظام السعودي متماسكاً ليس الإجماع الشعبي، فمطلب كهذا لم يتحقّق،
ولا يراد تحقيقه، لأن مجرد وجود «إجماع شعبي» يبطن قلقاً من نوع آخر، حتى وإن
كان منتجاً شرعياً للعقل النمطي. ينزع النظام السعودي إلى تكثير التصوّرات
النمطيّة التي تحول دون الاصطدام به. وليس إنجاب إجماع قد يتحوّل في لحظات
تاريخية أخرى إلى قوة تغيير جبّارة.. بكلمات أخرى، يتوخى النظام السعودي البقاء
في ظل عقل نمطي مأزوم، بحيث يتقاسم الأفراد تصوّرات محدّدة وعقيمة عن النظام
السياسي الحاكم، بما يجعلهم غير قادرين على التواصل واللقاء، ومراجعة تصوّراتهم
وصولاً الى الإنقلاب عليها وعلى صانعها.
في ظل الربيع العربي، يراد تفعيل العقل النمطي بأقصى طاقته كي يعمل لحماية
النظام السعودي من تأثيراته. وفي كل مرة يخضع النظام لاختبار المصداقية، كما في
كل الحروب السابقة، ومن بينها (حرب الكويت 1990 ـ1991، حرب العراق 2003، الحرب
على لبنان في صيف 2006، والحرب على غزّة في خريف 2008)، تلجأ العائلة المالكة
الى العقل النمطي كي ينتج خطاب الحماية، وكيما يبدع فتاوى مثل جواز استقدام
القوات الأميركية (الكافرة، بحسب الأدبيات السلفية السعودية)، وحكاية المؤامرة
التاريخية بين الشيعة واليهود والنصارى على احتلال العراق، والمؤامرة الإيرانية
لسرقة القضية الفلسطينية. العقل النمطي نفسه من يحيك رواية التواطؤ بين الكيان
الاسرائيلي وحزب الله على تدمير الضاحية الجنوبية وقرى البقاع والجنوب كيما
يتكفّل (أهل السنة والجماعة) بإعادة إعمارها، وما ينوء العقل النمطي بحمله قبول
فكرة انتصار حزب الله الشيعي على الكيان الإسرائيلي، إذ أن الحتمية النمطية
تفرض نقيض ذلك تماماً، حينئذ يصبح المخرج الآمن، كما يحلو للعقل النمطي
المجذوم، هو التواطؤ المفضي إلى تقديم طبق الانتصار إلى حزب الله مكافأة له
لحماية الحدود الإسرائيلية!
محاولات تصعيد الخطاب الطائفي في شكله الغرائزي والصبياني أحياناً كما يظهر هذه
الأيام في بعض مقالات الصحف السعودية الرسمية والمقرّبة من كبار الأمراء أو
المموّلة سعودياً، هي جزء من مهمة العقل النمطي، الأمين على (حفظ النظام).
مثيرة للشفقة تلك المقالات المأزومة التي تبتغي صوغ رأي عام خرج منذ زمن من
عباءة السلطة.
ما هو مستغرب في كل مكان آخر، لا يبدو كذلك في السعودية، إذ حين تعلو الاصوات
المطالبة بالتغيير والإصلاحات السياسية فإن الرد يكون بالتهويل الطائفي،
والعمالة للخارج، والتخابر مع دولة أجنبية..فكل من ينادي بالمساواة يواجه بطلب
آخر: تقديم أوراق ثبوتية بالولاء للوطن (=للعائلة المالكة). العقل النمطي يرى،
أيضاً، أن المطالبة بقيادة المرأة للسيارة ومشاركتها في الانتخابات البلدية
ومجلس الشورى، وكذلك المطالبة بالملكية الدستورية، ودولة القانون، والفصل بين
السلطات، ومراجعة منهج التعليم الديني الرسمي المحرّض على الكراهية، كلها
مؤامرة خارجية يشارك فيها الليبراليون والعلمانيون والروافض والمنافقون
والكفّار (ملخّص لطائفة محاضرات دينية لمشايخ سلفيين).
هكذا يعمل العقل النمطي، الخصم التكويني للوعي الحر، ولذلك فهو حبيس أوهام
يسوّقها في هيئة (اكتشافات) مبكّرة. فالسطحية الفكرية، والسذاجة السياسية،
والنزوع الغرائزي المتفجّر بمثابة خلايا دهنية تعيش وتسبح فيها الديكتاتورية
السعودية.. لم يكن عبثاً إصرار الأمير نايف، ولي العهد الجديد، على تأكيد سلفية
الدولة السعودية، فهذا التصريح لا يصعق التجانس الشعبي سياسياً وفكرياً فحسب،
بل يشي بالعقل النمطي الذي تتوسّل به العائلة المالكة لحفظ الكيان.
والسؤال الافتراضي: ماهو إذاً الخطاب الخلاصي؟
لا شك أن الانعتاق من ربقة العقل النمطي لا يتحقق سوى بتقويض مكوّنات هذا العقل
المسؤول عن الانقسام الاجتماعي، والتوّترات الفكرية والطائفية، والاستبداد
السياسي. من بشائر ربيع العرب أن العقل النمطي يفقد زخمه بوتيرة متسارعة، وأن
فقدان الدولة السعودية عبر مؤسساتها الدينية والإعلامية والثقافية زمام السيطرة
على توجيه الرأي العام، أفضى إلى ولادة تيّارات موازيّة لا تخضع تحت تأثير
إملاءات العقل النمطي، فهذه التيارات السياسية والاجتماعية تتعرّض لحزم كثيقة
وهائلة من التوجيهات الثقافية والسياسية من وسائل الاتصال الحديثة وعبر قنوات
التواصل الاجتماعي، ما يجعل النمطي شاذاً وشائناً.
وفي ذلك إشارة أخرى لافتة إلى أن العقل النمطي يقترب من لحظة نضوبه التام، بعد
أن تآكلت قدرته على صنع قاعدة زبائنية تتلاشى بفعل: زيادة منسوب الوعي السياسي
لدى الفئات الجديدة نتيجة انكسار احتكار النظام السعودي لمصادر التوجيه، وزيادة
وتيرة النشاطات الشعبيّة المطلبية، في مقابل الضجيج العقيم الذي يصدره سدنة
العقل النمطي، والأهم هو عجز الأخير عن المواكبة، فاعتصامه بمقولات معلّبة بلغة
خشبية أدّت الى عزلته، لأن من يتحدّثون، على سبيل الأمثلة، عن (حوارات مع
الجن)، و(فك السحر وطلاسمه)، وقصص وهمية عن تحوّل مئات الأوروبيين إلى الإسلام
يومياً، إثر جلسة خاطفة وربما سلام عابر في أحد المطارات، وفيض من الموضوعات
التي تبعث على التندّر، لم تعد بضاعة صالحة في زمن انفجار المناهج العلمية
الرصينة، فضلاً عن التوهين عن سابق بلاهة وعناد.
عمّا قليل من السنوات، إن بقي الحال كما هو عليه، سيواجه النظام السعودي أزمة
خطيرة، يمكن تلخيصها في القطيعة شبه التامّة مع الأغلبية الساحقة من السكّان،
لأن أفول مؤثّرات العقل النمطي لتحقيق الاصطفاف الشعبي خلف السلطة يعني أن مصدر
مشروعيتها واستقرارها قد تعرّض لهزّة عنيفة، فهذا العقل غير قابل للتجديد أو
التعويض، فحين يتجدّد لا يعود نمطياً، وحين يعوّض يصبح الحديث عن كائن آخر.
كل المعطيات تفيد بأن ثمة تغييرات جوهرية حصلت في نظرة الأغلبية السكّانيّة
إزاء العائلة المالكة، مصحوبة بتبدّلات في الرؤية العامة للدولة المنشودة
والشكل المأمول للحكومة، وقائمة الحقوق والحريات المطلوبة. ولذلك، فإن حرّاس
العقل النمطي يجدون صعوبة بالغة في وقف عقارب الزمن، ومشاغلة الجمهور بحكايات
عقيمة، لا صلة لها بحاجات الناس ومطالبها.
في المملكة، حتى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية ستواجه أزمة
مماثلة إن قبلت الرهان على السلطة والخضوع تحت تأثير العقل النمطي بهدف الحفاظ
على المصالح. هناك من قرّر المواكبة، والتحق بالمجموعات الشبابيّة التي تجاوزت
التابوات السياسية والأيديولوجية واختارت أن تكون في صدارة حركة التغيير، وهذا
ما يزيد في أزمة العقل النمطي.
وكلمة في الختام: إن ثمة إشراقة للعقل النمطي في الخارج، حيث يعمل بطريقة
محدّدة، فللغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، تصوّرات نمطية عن السعودية،
في ظل قرع طبول الحرب حالياً في المشرق العربي، إذ يصوّر السعودية على أنها
مجرد جهاز صرّاف آلي ضخم، لتمويل حروب الناتو، جنباً إلى جنب دول خليجية أخرى
مثل الكويت، وقطر، والإمارات.