عندما اطلقت وزيرة الخارجية الامريكية، هيلاري كلينتون، تصريحها الاسبوع
الماضي حول ضرورة التعجيل بالاصلاح السياسي في الدول العربية خصوصا السعودية
والبحرين، هل كانت حقا تعتقد ان ذلك امر ممكن في ظل النظامين المذكورين؟ لا
يمكن ان يكون الجواب على ذلك بالايجاب الا اذا كان الاصلاح في نظر المسؤولة
الامريكية ينحصر بطرح مشاريع هامشية وممارسات شكلية في شكل 'انتخابات' و'مجالس
شورى' يروج لما تقوم به إعلام مركزي موجه يظهرها على غير حقيقتها.
وهذا ما فعلته وسائل الاعلام البحرينية قبل عشرة اعوام عندما وصفت النظام
الملكي في البحرين بانه 'يوازي اعرق الممالك الدستورية في العالم'. وفي ظل
هيمنة المال النفطي اصبح افراغ المصطلحات من مضامينها ممارسة يومية، خصوصا مع
وجود شركات غربية كبيرة متخصصة في العلاقات العامة وتلميع صور الانظمة
الديكتاتورية ذات السيولة المالية غير المحدودة. فعندما يتجاوز سعر برميل النفط
110 دولارات يصبح المال سلاحا بايدي هذه الانظمة اكثر فاعلية من وسائل القمع
والتعذيب والتضليل الاخرى.
وما تزال الذاكرة تختزن مشاهد اللقاءات التي جمعت بين مسؤولين غربيين كبار، من
بينهم توني بلير، والعقيد المقتول، معمر القذافي، عندما كان ديكتاتورا مطلقا.
مع ذلك استطاع هذا الاعلام نفسه ان يغير صورة 'الحاكم التائب من ذنوبه' الى
صورة 'الديكتاتور الذي يجب الاطاحة به' في غضون فترة قصيرة. وفي زمن الوقاحة
السياسية وخيانة المبادىء والتخلي عن القيم، بالاضافة الى مقولات 'نسبية
العدالة' و'خصوصية حقوق الانسان والديمقراطية' والهيمنة المطلقة على وسائل
الاعلام التي هي الاخرى انتقائية وحزبية ومؤدلجة ومنتمية، تختفي وسائل التعبير
التي تنقل الحقيقة وتعكس الواقع بموضوعية. وقد كشف خطاب هيلاري كلينتون الاخير
امام 'المعهد الوطني للديمقراطية' صراعا داخليا في نفس الوزيرة، وهو انعكاس
للوضع النفسي لدى قوة تشعر بعجزها عن مواكبة الزمن وبدأت تتقهقر على صعدان شتى:
'ان الثورات ليست ملكا لنا، ولسنا الذين حركناها، وليست لنا او علينا، ولكن
لدينا دورا (يجب ان نقوم به)'. مضيفة: 'بشكل جوهري هناك جانب صحيح من التاريخ،
نريد ان نكون ضمنه. وبدون استثناء نريد من حلفائنا ان يقوموا بالاصلاح لكي نكون
جميعا جزءا منه'. كلمات تؤكد غياب الوضوح في التوجه والموقف والهدف، ستظل اسيرة
لظروفها وبعيدة عن واقع الشارع العربي الثائر.
السيدة كلينتون التي ما فتئت تجتمع بأعتى الطغاة، وتغير مواقفها وفقا للمتغيرات
السياسية والمصلحية، قادرة، كما هم بقية الساسة وحماة المصالح اعداء المبادىء،
لا تعجز عن اختيار الكلمات التي تناسب اهدافها، وان تتلون لتستطيع العيش في كل
بيئة مهما اختلفت الوانها. هذه السيدة كانت اول الداعمين للاحتلال السعودي
للبحرين، وما الصعوبة في ذلك وهي التي تصرح في السر والعلن بالتزام بلادها
بحماية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. هذه السياسة التي تدير علاقات امريكا
الخارجية لا تجد صعوبة او تناقضا في الموقف عندما تدعو العالم لاستهداف المشروع
النووي الايراني، وتغض الطرف تماما عن المشروع النووي الاسرائيلي وتغض الطرف عن
الدعوات المطالبة باخضاعه للرقابة الدولية او التخلي عن تصنيعه العسكري، ولم
تقف يوما مع اطروحة اخلاء الشرق الاوسط من اسلحة الدمار الشامل. ولذلك فثمة
غرابة اصبحت تتحدى العقل العربي (ان كان ما يزال على قيد الحياة) ازاء ظاهرة
'ربيع الثورات' حول توجه الانتفاضات الشعبية والجهات الداعمة لها ومدى شمولية
ذلك الربيع للدول الاكثر استبدادا في عالمنا العربي. الدعوة الامريكية للسعودية
والبحرين لممارسة اصلاح سياسي محاولة اعلامية هشة للتظاهر بالانسجام مع مقولة
ترويج الديمقراطية. ويمكن القول ان قضية البحرين كشفت انتقائية السياسة
الامريكية اكثر من اية قضية اخرى. فحتى هذه اللحظة لا تبدو واشنطن قادرة او
مستعدة لاتخاذ موقف تاريخي باحداث تغييرات حقيقية في البنى السياسية لدول مجلس
التعاون الخليجي الذي مضى على تأسيسه ثلاثون عاما.
واذا كانت الولايات المتحدة تتبنى في السابق مقولة ان 'اسرائيل' هي الحامية
الاقليمية لمصالحها، فانها كانت وما تزال تعتقد بان السعودية، بنظامها القائم،
حامية مصالح امريكا في منطقة الخليج. واذا كان مبدأ نيكسون ذي العمادين قد
تداعى بسقوط شاه ايران في 1979 فقد استبدل العمادان بعمادين آخرين: احدهما
يتمثل بمجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي أنشىء في 1981 لمواجهة ما يسمى
النفوذ الايراني، والآخر بالكيان الاسرائيلي. من هنا يأتي الاستغراب من تصريحات
كلينتون وما اذا كانت جادة في مطالبتها السعودية والبحرين باصلاحات سياسية غير
محددة. الامر المؤكد ان هذه الدعوة جاءت من منطلق الحرص على حماية النظامين من
السقوط المحتوم في حال استمرار سياساتهما المفرطة في الاستبداد والفساد.
بعد صدور التقرير الاخير عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية اصبحت ايران هي
الشغل الشاغل للدبلوماسية الامريكية التي ما تزال تعتقد ان مصالحها سوف تحمى من
قبل الكيان الاسرائيلي ومجلس التعاون. ولذلك ففي الوقت الذي لا تمارس واشنطن
فيه اي ضغط حقيقي على 'اسرائيل' للامتثال للقرارات الدولية الكثيرة التي صدرت
منذ العام 1948، ولا تصر عليها حتى لوقف بناء المستوطنات، فانها تلتزم موقفا
مشابها ازاء مجلس التعاون الخليجي. وموقفها الذي لا يمكن وصفه الا بالعداء
لثورة شعب البحرين، يعبر بشكل جلي عن جوهر السياسة الامريكية ازاء ثورات الربيع
العربي. هذا الموقف تنسجم معه كافة المواقف الاخرى، ومنها تدخل الناتو لاسقاط
نظام القذافي او الدعوة الامريكية الاخيرة للمعارضة السورية لعدم الاستجابة
للعرض الحكومي بالمصالحة والقاء السلاح والاستعدادات المتواصلة للتدخل العسكري
(على عكس موقفها الضاغط على المعارضة البحرانية للتحاور مع العائلة الحاكمة).
فالنظام السوري استبدادي كما النظامان السعودي والبحريني، فلماذا ازدواجية
السياسة الامريكية حيال هذه الانظمة الثلاثة؟ ويؤكد هذا الموقف التدخلات
العلنية والسرية لاجهاض بقية الثورات، خصوصا في مصر التي ما تزال حظوظها من
النجاح متأرجحة مع استمرار القبضة شبه الحديدية من قبل المجلس العسكري. انه
صراع مع الزمن بين طرفين: الشعوب العربية ممثلة بثوارها الباحثة عن الحرية
والديمقراطية والكرامة، وقوى الثورة المضادة التي تبذل قصارى جهدها لمنع حدوث
تغيير جذري في المنطقة. هذا الصراع سوف يتواصل خصوصا ازاء ثورتي اليمن والبحرين
اللتين ترى السعودية انهما تؤثران سلبا على اوضاعها الداخلية ونفوذها الاقليمي.
وبرغم تدخلها في البحرين فهناك شعور عام بانها اضعف من حماية الدول الاعضاء
بمجلس التعاون، خصوصا بعد فشلها الذريع في صد الاجتياح العراقي للكويت في العام
1990. ونجم عن ذلك استدعاء السعودية قوات اجنبيه بزعامة الولايات المتحدة
لاخراج القوات العراقية من الكويت. واستنتجت شعوب الخليج يومها ان الانفاق
الهائل على صفقات التسلح العملاقة مع دول الغرب لا يوفر ضمانا لامنها من اي
تهديد خارجي. ولذلك فالتدخل السعودي في البحرين انما لهو لقمع التطلعات الشعبية
لتطوير الاوضاع السياسية الداخلية واحداث تغيير حقيقي يضع حدا للديكتاتورية
والاستبداد.
وبرغم تدخلاتها في شؤون الثورات العربية بهدف اجهاضها او احتواء نتائجها، فان
السعودية تعاني من اوضاع داخلية واقليمية لا تحقق لها الاستقرار. فبعد وفاة
وزير الدفاع، سلطان بن عبد العزيز، وتولي اخيه نايف الوزارة وولاية العهد اصبحت
مسألة الاستخلاف أشد حدة خصوصا مع رغبة الجيل الثالث في استلام زمام الامور.
هذا الصراع الداخلي الذي تحرص العائلة السعودية على اخفائه بلغ في بعض مراحله
مرحلة التصفية الجسدية كما حدث للملك فيصل بن عبد العزيز في 1975. انه امر يقلق
كبار افراد العائلة خصوصا بعد ان وصلت مسألة الاستخلاف الى حالة الجمود القاتل
بسبب غياب التجديد من جهة وتعدد الافخاذ المتنافسة على الزعامة من جهة اخرى.
يوازي ذلك تنام طبيعي في مستوى الوعي الشعبي الذي ما يزال ممنوعا من الظهور الى
العلن في شكل مسيرات او احتجاجات. واذا كانت المؤسسة الدينية قد لعبت حتى الآن
دورا كبيرا في تحييد القطاعات الشبابية المتطلعة للتغيير من خلال الفتاوى التي
تحرم الاحتجاج والتظاهر وتدعو الى اطاعة الحكام، فان حالة الجمود السياسي وفشل
النظام في احداث اي تطوير سياسي يمنح المواطنين قدرا من الشراكة السياسية سوف
يؤدي حتما الى حركة تغييرية ضد النظام. والواضح ان النظام السعودي عاجز عن
مواكبة مستلزمات الدولة الحديثة، وحتى عندما سمح بانتخابات لمجالس بلدية عديمة
الصلاحية، توقفت الممارسة الانتخابية عدة سنوات بسبب الخشية من انعكاس تلك
الممارسة على رغبة المواطنين في التطوير. وعندما اجريت هذا العام لم تحظ
باهتمام كبير بعد اكتشاف عدم جدواها. وما يزال السجال في الجزيرة العربية
المترامية الاطراف متواصلا حول الدور السياسي والاجتماعي للمرأة، فبعد ضغوط
محلية وخارجية كثيرة اعلنت الرياض عزمها على منح المرأة حق التصويت والترشيح في
المجالس المحلية في الانتخابات المستقبلية التي لم يحدد موعدها بعد. اما مجلس
الشورى، الذي بقي هو الآخر هامشيا وغير ذي شأن، فما تزال سياسة تعيين افراده هي
الطابع العام، الامر الذي يثير تساؤلات جدية حول مدى امكان اصلاح النظام
السعودي من داخله، كما تروج هيلاري كلينتون.
وفي ظل السياسة الامريكية الحالية فمن الصعب الاعتقاد بان يكون لخطاب وزيرة
الخارجية أثر حقيقي على النظام السعودي الذي يفتقد القدرة، بطبيعته، للتطوير
الذاتي، كما هو حال بقية الانظمة الملكية التي تعتبر فكرتها الاساسية مناقضة
لمفاهيم الانتخاب الحر القائم على اساس حق الشعوب في تقرير المصير والحكم
والشراكة السياسية. ان بلدا لا يحكم وفق دستور مكتوب سيظل رهينة لاوامر الحكام
ونواهيهم. ويزداد الوضع تعقيدا عندما يكون الحكم قبليا كما هو الحال في
السعودية. كان بامكان ادارة الرئيس اوباما ان تترك بصماتها على التغيير
الديمقراطي في الدول العربية، ولكن تحالفها التقليدي مع انظمة الاستبداد حرمها
فرصة اصلاح الاعوجاج في السياسة الامريكية ازاء الديمقراطية في الشرق الاوسط،
وهو اعوجاج تساهم فيه السياسة الامريكية العمياء الساعية للحفاظ على التفوق
الاستراتيجي الاسرائيلي على العرب. هذا الاعوجاج من بين اسباب فشل الدبلوماسية
الامريكية في احتواء 'الظاهرة الايرانية' في جوانبها الثلاثة: الثورية
والايديولوجية والتكنولوجية. فالثورة ليست خيارا امريكيا لان واشنطن لم تؤمن
يوما بالتغيير السياسي من خلال الثورة، بل ان تدخلاتها تؤدي عادة الى تغليب
الخيار العسكري والامني على الخيار الشعبي. وعلى الصعيد الايديولوجي لا تستطيع
واشنطن انكار حقيقة مهمة وهي ان كافة الثورات العربية تعتبر أقرب الى المنطق
الثوري الايراني من واشنطن المضادة للثورة. وبغض النظر عن ايديولوجية هذه
الثورات فان ما تقوم به يفرض واقعا جديدا ليس على المنطقة فحسب بل على العالم،
مؤداه ان التغيير الديمقراطي الشامل لا يحدث بقرارات او تدخلات دولية التي يؤدي
تدخلها عادة الى حرف مسار الثورة وطبيعتها وقد تحولها الى حرب اهلية او اقتتال
داخلي او انقلابات عسكرية. اما الصعيد الثالث فان التكنولوجيا بعد آخر تستحوذ
عليه قوى الثورة المضادة، ولا تسمح للآخرين باقتنائه. ولذلك جاء التصعيد الغربي
ضد المشروع النووي الايراني، مع اعتراف الغربيين، بمن فيهم مسؤولو الوكالة
الدولية للطاقة الذرية بعدم وجود تصنيع عسكري نووي. الا ان واشنطن، ومعها اغلب
الدول الاوروبية، مقنتعة بمنع انتقال التكنولوجيا الحديثة الى منطقة الشرق
الغنية بالوقود الطبيعي. فلو توفر لهذه المنطقة فرص للتصنيع الحقيقي، على غرار
التطور الايراني فلن تكون أقل قدرة على التطوير الذاتي في مجالات العلم
والتكنولوجيا، خصوصا اذا توفرت انظمة مستقلة تختارها الشعوب وتلعب فيها دورا
رياديا بعيدا عن الاملاءات الاجنبية التي تسعى لمنعها من التطور والتقدم.
امريكا تدرك تماما ان النظام السعودي سوف يكون اول المتأثرين بما يحدث في اليمن
والبحرين، بسبب القرب الجغرافي والترابط الثقافي والديني (برغم التباينات
المذهبية). ولذلك كان معروفا منذ البداية ان الاحتلال السعودي للبحرين لم يكن
من اجل مواجهة 'التهديدات الخارجية' في اشارة الى ايران، بل لمنع انتصار الثورة
وما يمثله ذلك من أثر نفسي وسياسي على الوضع الداخلي في الجزيرة العربية. وقد
وقفت امريكا مع الخيار السعودي الهادف لوقف الثورات جميعا، خصوصا في اليمن
والبحرين، ولكنها اكتشفت الآن عددا من الحقائق: اولها ان التدخل السعودي في
البحرين لم يحسم الموقف ضد الثورة التي لم تتوقف بل تزداد رسوخا واصرارا.
ثانيها: ان نظامي السعودية والبحرين أثبتا استحالة اصلاحهما، فلم يقوما بخطوة
حقيقية واحدة باتجاه الاصلاح، بل اقتصرت سياستهما على تكثيف القمع واستهداف
النشطاء والقضاء على الثورة. ثالثها: ان العالم بدأ يصحو على حقيقة مرة مفادها
ان امريكا أقرت تدخل بلد لقمع ثورة شعب بلد آخر، وانها تمارس دور الاحتلال،
الامر الذي اصبح تحديا للضمير الانساني خصوصا المنظمات المناهضة للهيمنة
الرأسمالية والعولمة. رابعها: ان الموقف الامريكي يمثل تحديا للثوار، واعاد الى
الاذهان موقف واشنطن خلال ثورة ايران، حيث كان يدعم نظام الشاه ويرفض التغيير،
فلما سقط اصبحت امريكا تمثل 'الشيطان الاكبر' في عيون الشعب الايراني، واصبح
على واشنطن دفع فاتورة كبيرة لتلك السياسة. خامسها: ان حق تقرير المصير اصبح
امرا واقعا يفرض نفسه على العالم، وان الشعوب العربية تستوعب هذا الحق وتعمل من
اجله. هذا يعني ان الثورة في السعودية مؤجلة، وانها عندما تحدث ستكون وبالا على
المصالح الامريكية في المنطقة. امام هذه الحقائق اصبح على المسؤولين الامريكيين
ان يعيدوا حساباتهم مجددا ليقرروا الاجابة على سؤال جوهري واحد: اي الموقفين
يضع امريكا في الجانب الصحيح من التاريخ؟ أهو دعم انظمة الاستبداد ام ثورات
الشعوب؟