تمر هذه الأيام ذكرى إقرار الدستور الكويتي في الحادي عشر من تشرين
الثاني/نوفمبر 1962 ومازال ينتاب الكويتيين أسئلة محيرة عن ما جرى في تلك
الأيام، فهل كانت تلك الخطوة قناعة ذاتية فرضتها الوقائع السائدة، أو أنها نتاج
تطور تاريخي يمتد إلى فترات أطول ولم يعد بالإمكان تجاهل ترجمته إلى نصوص
دستورية تنظم عمل الدولة الجديدة، أم أن كل ماجرى صدفة تاريخية محضة؟.
قبل محاولة فهم ما جرى في تلك الأيام لابد من الإعتراف أن جمود التجربة
الديمقراطية في الكويت وعدم تطورها طوال السنوات الماضية أفقدها أهميــــتها
خاصة على الصعيد الخليجي وسلبها إمـــكانية تحولها إلى نموذج وطني لكل دولة على
حدة ومن يراجع الحراك في كل تلك الـــدول سيجد أن مضامينه أكبر بكثير مما توفره
النصوص التي يضمها الدستور الكويتي حاليا، فالنشطاء في دول الخليج يتحدثون عن
ملكيات دستورية ونحن لازلنا في أجواء المشاركة في إتخاذ القرار.
هناك من يقول أن الدستور الكويتي ليس سوى 'نصيحة' بريطانية هدفها الحفاظ على
الدولة الجديدة من إبتلاع جيرانها لها، خاصة وأنها دولة صغيرة في مساحتها بين
ثلاثة عمالقة إقليميين هم إيران والمملكة العربية السعودية والعراق الأمر الذي
يغري على تلك الخطوة خاصة من الأخيرين وهناك شواهد تاريخية تقوي هذا الطرح.
هناك أيضا من يقول أن الدستور ثمرة نضال وطني إمتد منذ عشرينيات القرن الماضي
وكانت هناك تجارب لإنشاء مجالس وطنية بعضها نجح وبعضها فشل، وخلف تلك التجارب
مقومات نجاح ومسببات فشل خضعت لمعايير صارمة من الدراسة والتمحيص وكانت ثمرة
تلك المراجعة دستور 1962 ولم يكن أبدا نصيحة من أحد، ولولا ذلك النضال الوطني
وإستلهام التجارب المحلية والدولية لما كنا اليوم في وضع أفضل بكثير من محيطنا
الإقليمي.
ويعتقد البعض أن إقرار دستور بالصيغة الحالية إنما هو صدفة تاريخية نتجت عن
تولي الشيخ عبدالله السالم الصباح وهو شخصية لديها نزعة للحرية مقاليد الحكم في
نفس فترة إستقلال الكويت من الوصاية البريطانية ولولا ذلك لمرت تلك المناسبة
دون أية تطورات تذكر كما حدث في بقية دول الخليج العربية، ويرى أولئك أن
التطورات اللاحقة تثبت أن التطور السياسي الذي مرت به البلاد أثناء فترة تولي
الشيخ عبدالله السالم توقفت بعد رحيله.
في مراجعة لما جرى خلال السنوات التي تلت إقرار الدستور سنجد أنها تعطي مؤشرا
إلى أن خلفاء الشيخ عبدالله السالم لم يكونوا يشعرون بإرتياح بوجود نصوص
دستورية تعطي كل تلك الصلاحيات للبرلمان وتجعل منه ندا للأسرة الحاكمة وشريكا
في الحكم، وهم في ذلك يستوحون التجربة الخليجية المحيطة بهم لذا عملوا بكل ما
أوتوا من قوة على جعل النصوص الدستورية مادة للصراع بدلا من أن تكون رافعة
للتطور والتنمية رغبة منهم أن يتوقف السقف السياسي عند هذا الحد إذا مافشلوا في
خفضه.
قبل الإنتخابات المقررة لأول مجلس تشريعي عمل بعض أقطاب الأٍسرة الحاكمة في ذلك
الوقت على توفير أغلبية برلمانية من خلال الدعم المالي والمعنوية لمرشحين
بعينهم بهدف السيطرة على البرلمان الوليد وتوجيهه الوجهة التي يريدونها وكان
لهم ما أرادوا حيث تدخلوا من خلال تلك الأغلبية لإصدار ثلاثة قوانين تحد من
حرية العمل السياسي خاصة لكل من يعملون في القطاع الحكومي وقد فشل ممثلي التيار
القومي آنذاك وقد كانوا أقلية نشطة رغم الحصار الحكومي لها في منع إقرار تلك
القوانين.
وفي المجلس الثاني عام 1967 جرى تزوير نتائج الإنتخابات في مسرحية مكشوفة خوفا
من نجاح مرشحي التيار القومي وهو التيار الفاعل على الساحة السياسية في ذلك
الوقت وشهد ذلك المجلس الكثير من الإستقالات إحتجاجا على جريمة تزوير الإرادة
الشعبية وأغلب المستقيلين كان من التيار القومي لكن ذلك المجلس 'المزور' إستمر
في عمله حتى عام 1971 عندما إنتخب مجلس جديد بدا واضحا في نتائجه تجاوز السلطة
الحاكمة لأخطائها في المجلس السابق من خلال حصولها على أغلبية كافية دون تزوير.
أظهرت نتائج إنتخابات مجلس الأمة الرابع عام 1975 وصول عدد كبير من نواب
المعارضة إلى مقاعـــــد البرلمان فيما يبدو انه رد شعبي على التدخلات الحكومية
في الإنتخابات، الأمر الذي جعل السلطة تتخذ إجراءا لم تشــــهده الساحة
السياسية من قبل وهو حل مجلس الأمة وتعلــــيق بعض مواد الدستور رغم أنه لـــم
يكن لتلك الإجراءات مايسعفها من النصوص الدستورية، وقد فتح ذلك الباب لإجراءات
مشابهة في عام 1986، ثم تطور ثالث في عام 1990 تمثل في إنشاء مجلس وطني خارج
إطار الدستور.
رغم كل تلك الإجراءات ومحاولات التفرد بالسلطة إلا ان الشعب الكويتي ظل متمسكا
بالدستور كمكسب وطني وأفشل كل تلك المحاولات من أجل تعديل مواده عندما شكلت
لجنة لهذا الغرض وعرضت نتائجها على مجلس 1981 وقد كان الشارع هو ساحة الحسم
وليس البرلمان بعدما تمكنت الحكومة من توفير الأغلبية البرلمانية اللازمة
لهدفها ذاك، ومازالت أجواء الشارع تعتبر الدستور خطا أحمر لا يجوز المساس به
تحت أية مبررات مما يبقى الصراع بين السلطة من جهة وبين الشعب الكويتي من جهة
أخرى على جذوته.
أجواء الصراع تلك تتحمل مسؤوليتها السلطة الحاكمة في الكويت لكــــونها فوتت
فرصة تاريخية على الشعب الكويتي في الحفاظ على أجواء الإنفتاح السياسي والثقافي
التي مـــيزت هذا البلد في فترة كانت بلدان الخليـــج الأخرى عاجــــزة عن
تقـــديم نموذج مشــــابه، كما يتحمل جزء آخر من المســـؤولية التيار الإسلامي
وخاصة تيار الأخـــوان المسلمين، حينما أعطى مؤشرات خاطئة إســتفادت منها
السلطة خلال الفترة الماضية في إضعاف الديمقراطية.
القدس العربي