سرّت تطورات البحرين السياسية الأخيرة الناظرين، لما شهدته من توسع في
جملة من دعائم الانفتاح على النظام الديمقراطي، كان تأسيس أطر سياسية في جنح
جمعيات أهلية معترف بها من قبل الجهات الرسمية البحرينية ذات العلاقة، من ابرز
العناصر والآليات المتقدمة نحو تعزيز هذه التطورات والتحولات المتسارعة جدا.
بيد أن هذا السرور قد حفز بعض سياسي ومثقفي المنطقة الخليجية إلى دراسة ملامح
هذه التجربة وإرجاعها إلي عواملها السياسية والاجتماعية التقليدية، وما يميز
هذه النشأة الجديدة من عزيمة على التحول عن نظام القبيلة المنشدة إلى جذورها
وأصولها، إلى نظام الدولة القومية، المرتكزة على مفهوم ديمقراطي خاص، مقيد
بسلسلة من خصوصيات تقليدية وعرفية تفتقد إلى أسس الاندماج الداخلي، وغير منسجم
مع حداثة الدولة من جهة التركيب العضوي بين قمة الهرم السياسي وقاعدته
الاجتماعية.
وبطبيعة الحال، ان التجربة البحرينية الحديثة لم تكن ناشئة عن ذاك التحول
القبلي البسيط نحو الحداثة والمعاصرة، أو على سبيل نظرية التدرج والانسياب
الهادئ في مؤسسات المجتمع الأهلي إلى مراحل انتقالية تأخذ بالدولة إلى تطور
طبيعي رصين على مستوى القمة والقاعدة. إنما كان التحول الحديث هذا قد نشأ نتيجة
سياق سياسي نضالي تاريخي دام مدة زمنية تزيد على القرن.
وكانت الظاهرة المميزة والخطيرة في نفس الوقت في هذه التجربة، هو ذاك الموقف
السياسي الأهلي المتخلي عن حصته التاريخية الكبرى في صناعة عوامل وأسباب هذا
التحول، لصالح موقف رسمي يبدو في ظاهره تحول بسيط، متدرج من عهد نظام
القبيلة التقليدي إلى نظام الدولة المعاصرة، مستثمر لفرص توافر عدد من معطيات
الاستقرار السياسي، من نحو وصول المعارضة البحرينية العريقة إلى درجة من اليأس
خطير كنتيجة طبيعية لسنوات الاستنزاف السياسي طويل المدى، وقيام أقطاب جديدة
لحركة من التوازنات في مجلس العائلة الحاكمة نشأت مع وفاة الأمير السابق الشيخ
عيسى آل خليفة ،تزامنا مع مستجدات مُرضية اكتنفت قضية الصراع الحدودي مع الجارة
دولة قطر، المرفوعة الى المحكمة الدولية.
وهذه الظاهرة، بمقدار ما ساهمت بشكل كبير وجلي في جعل السنة الاولى من هذا
القرن سنة التحول نحو تكاملية في التنمية البحرينية بمختلف وجوهها، وبما تشتمل
عليه من نمو ديمقراطي مساهم في تنفيس الاحتقانات السياسية التي وصلت إلى اوجها
على مدى السنوات الخمس الماضية. فإن الظاهرة هذه ستحضى بالنصيب الأكبر من
المساهمة في تعزيز الهوان والضعف في بنية مؤسسات المجتمع الأهلي، ورجحان
استحالتها إلى لون خاص من المؤسسات ذات الطبيعة المنسجمة تماما مع تقليدية
القبيلة اكثر منها انسجاما مع متطلبات الحداثة والمعاصرة في المجتمع الأهلي
الحديث الذي تغلبه روح من الاستقلالية والشفافية والمصارحة وتبادل للنقد والنقد
الذاتي ومقابلة عز لعز .
هاجسا الواقع والمستقبل
وعلى ذلك، ربما يعتري التجربة البحرينية الجديدة بعض من عناصر التباعد بين ما
يمثل فكر النهوض والإصلاح على أسس ديمقراطية متكاملة من حيث الاستقلال المطلق
لقوى التنفيذ والتشريع والقضاء، ولقوى المجتمع الأهلي وأطروحتها النظرية
والعملية، تحت سقف عقد اجتماعي مصدق تشريعيا، وبين ما يمثل فكر النهوض والإصلاح
على خليط من أسس الديمقراطية التقليدية القبلية، مقيدة بضغوط هاجسين أساسيين :
الهاجس الأول : بالنتائج التي ستنهي إليه الحركة المجتمعية الراهنة، المتوثبة
لكسب المزيد من عناصر الانفتاح الديمقراطي. وهي حركة عامة وجادة وعزيزة، لا
يمكن بأي حال من الأحوال طيها في ملفات سياسية قديمة جامدة، كملف الطائفية .
فلهذه الحركة تكوين أصيل متفاعل مع ثقافة محلية عميقة الجذور، لها تواصل وتناغم
مميز مع الثقافات الإقليمية والدولية المتطورة والمتسارعة في الانتشار والتأثير
لتوافر وسائل الاتصال المتقدم. فضلا عن أنها عامة وليست نخبوية محصورة في فئة
من الناس .
إضافة إلى ذلك، أن خطوات الإصلاح التي قادها أمير البحرين نحو إعادة
تشكيل قوى الارتكاز الثلاث للدولة وتطعيمها بعناصر تأثير وبناء جديدة، وفي ظل
وضع اقتصادي واجتماعي مشرف على الانهيار، ستتطلب الكثير من الخطط التنموية وعلى
مدى زمني ليس بالقصير. وهذا الأمر بطبيعة الحال، لا يخلق رنينا مثيرا للمواطن
العادي أو جذبا واستقطابا أو تزيينا بغية المصابرة بعد نكد من عيش جثم على صدر
البلاد على مدى ثلاثة من العقود العجاف، إلا في حدود زمنية ضيقة للغاية .
وإن الخطوات الأولى من حركة الإصلاح المشتملة على حزمة من الخطوات الإيجابية
لرفع الآثار الأمنية السيئة للعهد القديم، وما رافق ذلك من خطاب سياسي ودي
أبوي. لم تحض بذاك الاعتداد والاحتساب الكامل، في مجتمع أوردت الإحصاءات معيشة
فقر ضنكا، لازال يعانيها اكثر من 120 الف مواطن منذ مطلع عقد الثمانينات،
وبطالة وسط القوى الوطنية الفاعلة اقتصاديا قدرت بأكثر من 20%. وتقسيم
قبلي وطائفي حاد جدا لوزارات الدولة ومؤسساتها، وصل الى خلو 11 وزارة من اي
عنصر ينتمي للطائفة الشيعية، وعلى مستوى ثلاث درجات من المناصب، شملت الوزراء
والوكلاء والمدراء، ، من بين 16 وزارة تتشكل منهم الحكومة، بينما يتقاسم السنة
والشيعة الخمس وزارت الخدمية الاخرى .، في بلد غير متكافئ طائفيا. اذ يشكل
الشيعة نسبة 75% من التعداد السكاني حسب التقارير الدولية.
وعلى درجة قصوى من الضرورة، تستدعي هذه الأمور من السلطات العليا، كسب استحسان
الحركة المجتمعية وقواها المؤثرة، وخلق حالة من الاندماج وثيق معها، وإعطائها
مجالا حيويا فسيحا للانخراط في مباني مؤسسات المجتمع الأهلي بشكل مستقل ونزيه،
مع رفع كامل للهواجس المجتمعية بخطوات إصلاحية أساسية ملموسة .
فهذه الحركة المجتمعية تستطيع لعب دور كبير في تنمية ثقة المواطن في
السلطة، وبالتالي الاستطاعة والتمكن من تثقيفه نظريا وعمليا بمتطلبات الإصلاح
الراهنة، وبموجبات التفاعل والصبر حتى بلوغ التنمية الشاملة مراميها ومقاصدها.
هذا الهاجس، وفي جميع الأحوال، سيتقمص دور الكابح في مراحل لاحقة. وسيعزز من
الحدود الفاصلة بين الشعب كمصدر للسلطات جميعا، وبين الحكومة، كمصدر لسن
القوانين قبل تشريعها، وبين السلطة العليا التي تجتمع عندها كل السلطات إطلاقا
أو تقييدا .
الهاجس الثاني : بالنسيج السياسي القائم في دول المنطقة، العريقة في بطئها
الشديد جدا في تنمية قضايا المشاركة والتحديث السياسي. وبالصيغة السياسية
الجامدة التي تجيز في حدود ضيقة للغاية بتحول أمني إيجابي ومؤقت في مناطق
التوتر، لأغراض تنفيسية مدروسة بدقة، تنتهي إلى مؤثرات شد وجذب باتجاه لون
تقليدي موحد من النظم السياسية المتشابهة، والمتعاضدة على سبيل رفع القصور في
القدرات الأمنية والعسكرية .
هذا النسيج القائم على جدل القوة والمنعة والحماية وملئ الفراغ، قد فرض لونا
واحدا من التنمية اعرج، مفتقد إلى قوى التحريك والوثاقة، ولا ينسجم مع طبيعة
مجتمعات المنطقة من حيث المستويات الثقافية والتلاوين المذهبية ودرجات الكثافة
السكانية، ولا يتعادل مع حجم الثروة المتوافرة ومخزونها الاحتياطي.
فمجتمع البحرين يعد من اكثر مجتمعات المنطقة إدراكا لمتطلبات التنمية بمختلف
أشكالها، واكثر عراقة في النظم المجتمعية والثقافية، واكثر تحررا من القيود
التقليدية الكامنة وراء جدر السلطة الصلبة. وربما يرجع الأمر في ذلك، إلى طبيعة
المجتمع الزراعي الديني القديم الأكثر قبولا وشغفا بالاندماج المدني الحضاري.
ويشير إلى ذلك، ظاهرة نشوء الحركة التعليمية وانتشار المنتديات الثقافية وتأسيس
بعض جهات المجتمع المدني، في حياض القطاع الأهلي عند مطلع العقد الثاني من
القرن الماضي، قبل خضوع السلطة على مدارج الحركة السياسية البحرينية الداعية
الى بناء سلطة اكثر تحررا من قيود القبلية، واكثر قبولا وانسجاما مع قوى
التحريك والنماء السياسي والاجتماعي والثقافي.
وعلى غير اعتبارات القبلية في المنطقة، والمرشحة لأداء دور كبير في بقاء بعض
دول الخليج على جمودها. فان البحرين قد توافرت على كل عناصر الوعي والإدراك
السياسي المحفزة على بناء نظام سياسي خال من مقاتل القبلية الحادة في تقاليدها
وأعرافها. ولازالت ذاكرة البحرينيين تختزن الكثير من مظاهر تلك العناصر التي
صنعت قرن كامل من النضال المستحق لكل تمجيد واجلال وتخليد. فهناك اكثر من
انتفاضة شعبية، واكثر من حركة عصيان شعبي، واكثر من حركة شعبية معارضة ومنظمة.
وفي الجهة الأخرى، هناك الكثير من الهيئات والجمعيات الأهلية التي أثبتت لها
وجودا بعد معاناة شديدة ومخاض عسير وعزيز، وصمدت لعقود أمام ذلك الانحسار
الكبير لمستوى الحريات المدنية، حفاظا على كيانها ومكتسباتها.
لقد كان حوبا كبيرا حينما قضت الأمور لصالح جعل هذا الهاجس جاثما على صدر هذه
الجزيرة المتميزة في تاريخها وتركيبها السكاني. لا سيما وان هنالك بعض المؤشرات
على دور خطير سيلعبه هذا الهاجس في تحديد قسري للون مؤسسات المجتمع الأهلي
البحريني في ظل هذه الإصلاحات، من حيث قربها او بعدها عن الحداثة السياسية
والانفتاح الديمقراطي، تبعا لضغوط وافدة من قبل بعض دول الجوار. وقد تأخذ
هذه الضغوط مداها الواسع في تناسب طردي مع ضغوط أخرى داخلية مطالبة بإصلاحات
اقتصادية في أوقات قياسية.
وقد لمحت القيادة السياسية للبحرين إلى هذين الهاجسين في غير مرة، وعبرت عنها
بـصيغ توجس وخيفة، تراوحت بين " الخطوط الحمراء" الممتدة بين ما هو محلي وما هو
خليجي. و " الالتزام بالثوابت والخصوصية البحرينية " المؤكدة على الجمع بين
تقليدية نظام الحكم ومنهجية تحديث وتطوير مؤسسات الدولة باتجاه استيعابي لكل
الضرورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المشتملة على كل قوى النفوذ
والتأثير، سواء تمثلت هذه القوى في كتلة الهيمنة على السوق التجاري، او تمثلت
في قوى فئات الضغط المعارض بأشكاله وألوانه، أو تمثلت في عناصر التحريك
الاجتماعي والثقافي .
وبالنظر إلى هذه الضرورات وما تعانيه البحرين في الوقت الراهن من آثار كارثية
ناجمة عن قرن من الاستبداد السياسي المستطير، خلال حقبة الاستعمار حتى مطلع
السبعينات، والمستمر تحت مآخذ بقانون ملئ الفراغ وتعزيز الخبرات الوطنية
الأمنية البديلة حتى عقد الثمانينات، والمتنامي على مائدة محرمة لمفهوم حماية
الشرعية التقليدية المستهدفة حتى نهاية عقد التسعينات المنتهي بموت مفاجئ
للأمير الشيخ عيسى آل خليفة. وبالنظر الى كل ذلك، يكاد الناظر السياسي يصل إلى
استشراف مستقبلي غير مؤكد العواقب والنتائج الا في حدود ضيقة.
فالأمور في واقع الحال كلها مرهونة بعزيمة السلطة التقليدية ومرادها أولا وقبل
كل شيء، لكونها مركز الاستقطاب والاحتضان والتبني الأول لتجربة الإصلاح التنموي
السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، خارج سياق التجربة النضالية
التاريخية التي بددتها مقولة ( العفو عما سلف) . كما إنها ستكون في الدرجة
الثانية مرهونة بالواقع السياسي والاجتماعي الجديد الذي افرزته مثيرات التركيب
الطائفي وأجلته تلاوين المعارضة السياسية المتعددة في مشاربها الفكرية .
النموذج التوفيقي المثير
منذ إعلان البحرين عن استقلالها في الرابع عشر من أغسطس 1971م، أطبقت هذه
الجزيرة على مخاض سياسي عسير، كانت ابرز واخطر مظاهره، ذلك الصدام
المباشر بين مؤثرات التنمية البشرية المستقلة التي تكرست بثبات الحركة الثقافية
الممتدة بجذورها إلى عمق القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وما
لحق ذلك الثبات من تحول إيجابي متمثل في حركة تعليمية حديثة ومنتظمة، أسست بعد
عشر سنوات من نشوء التعليم الأهلي المستقل، علاوة على ذلك، حركة التحول والتنقل
المرافقة للتوزيع الإداري لبعض وظائف الدولة، من جهة. وبين مؤثرات الجمود لقوى
ونفوذ السلطة التقليدية التي حاولت قسرا اختلاق نموذج توفيقي متزاوج بين ألوان
مثيرة من القبلية السياسية ذات السلطة المطلقة القائمة على رأس نظم دولة حديثة،
قادرة على التعاطي بمركزية شديدة مع القضايا الملحة، المتعلقة بصراعات الحدود
مع كل من إيران بادعاءاتها بملكية جزيرة البحرين، ثم قطر بادعاءاتها بملكية جزر
حوار، فضلا عن القضايا الشائكة المتعلقة أيضا بصراعات النفوذ بين بريطانيا
والولايات المتحدة ودول المنظومة الاشتراكية وأطماعها في المياه الدافئة ،
إضافة إلى ظروف الوضع الداخلي المعقد سياسيا وطائفيا، من جهة أخرى.
وقد أسفر ذلك الصدام المباشر عن انتكاسة لأول تجربة ديمقراطية خاضتها البحرين
بعد مرور سنتان على إعلانها الاستقلال عن بريطانيا. ففي ديسمبر عام 1972 م بدء
المجلس التأسيسي المؤلف من أعضاء نصفهم منتخب ونصف آخر معين من قبل السلطات،
بمناقشة مسودة دستور للبلاد. وبعد مداولات دامت ستة شهور، خلصت إلى التصديق على
الدستور من قبل أمير البلاد الشيخ عيسى آل خليفة، ليصبح أول دستور جرت وفق
نصوصه في 1 ديسمبر 1973م انتخابات عامة لمجلس وطني دشن أولى جلساته في 16ديسمبر
1973م.
وبعد مضي اقل من ثلاث سنوات من عمر المجلس الوطني ضاقت الحكومة ذرعا بالمجلس
والفعاليات السياسية الشعبية المعاضدة له. وفي 23 أغسطس 1975م بالتحديد، تقدم
رئيس الوزراء إلى الأمير باستقالة حكومته، ثم اتبع قبول هذه الاستقالة بممارسة
الأمير حقه الدستوري. فاصدر مرسوما في 26 أغسطس 1975، قضى بحل هذا المجلس، بعد
صيف اجتمعت فيه الكتل النيابية على رفض قانون أمن الدولة (الطوارئ) المقدم من
قبل الحكومة. وكانت اكثر مبررات الحل المعلنة من قبل الحكومة، قد دلت بوضوح على
عمق حالة الانفصام بين مؤثرات التنمية البشرية الطموحة، وبين مؤثرات
القبلية الجامدة على عضوية العلاقة بين السيادة الحادة للأمير وسيادة القرار
الديمقراطي، ورفض تفكيكها أو إحالتها إلى مفاصل فاعلة لنصوص دستورية.
من جهتها شككت الحكومة في كفاءة المجلس الوطني المنتخب، وتأسفت في أغسطس 1974م
"للفئات والنوعيات التي وصلت إلى مقاعد المجلس" وإنها "لم تكن هي النوعيات التي
من المفروض أن تتحمل مسؤولية التجربة " وإنها " غير ناضجة سياسيا وديمقراطيا"
!.
وعلى النقيض من ذلك التشكيك غير المبرر حجة بحجة، اعترفت الحكومة في مكان آخر
إن تسييس المجتمع في ظل الحياة الديمقراطية، هو من الأمور غير السويةّ!. وأبدت
امتعاضها وتهكمها على المجلس الوطني، ولم تُجوّز للمواطن – حسب تصريحاتها- " أن
نخلط الأشياء، فنشتغل بالسياسة في أفران صهر الألمونيوم أو حجرات الدراسة
للطلبة او برج المراقبة في المطار أو المستشفيات ...". وحرمت أي لون من التعبير
السياسي، وصادرت حق النواب في إطلاقهم التصريحات للصحافة المحلية والإقليمية
والدولية. ثم جمدت المادة الدستورية رقم (65) القاضية بوجوب إعادة المجلس
الوطني في انتخابات جديدة او يعود المجلس المنحل الى عقد جلساته إذا أخفقت
الدولة في إجراء انتخابات تشريعية بعد مضى شهرين على الحل الأول للبرلمان. ووفق
ذلك، ظلت الحياة الديمقراطية معطلة ستة وعشرين عاما.
إن كل حوادث وانتفاضات الخمسينات والستينات والسبعينات، كانت تعبيرا صارخا عن
إرادة مجتمعية تبتغي بناء مستقبل واعد على أسس من الحريات بشتى ألوانها. ولم
يكن أحد يصدق أن هناك عزما لدى السلطات التقليدية البحرينية بتتويج تلك الحوادث
والانتفاضات بانتخابات دستورية تدشن سلطات ديمقراطية شرعية عادلة في ظل أجواء
انفتاح سياسي نسبي رائع.
وفي بادئ الأمر، رسخت تلك الفترة الديمقراطية بنظرياتها وتطبيقاتها
مفهوما حديثا للتوازن بين قبلية السلطات العليا بتقاليدها وأعرافها، وبين مجتمع
الدولة الحديثة وتنميتها على مختلف الصعد. وفي هذا الصدد، كانت المادة
الأولى من الدستور ومواد أخرى قد أطلقت للسلطات التقليدية العليا حرية
اتخاذ القرارات المناسبة، ولم تمس أي من سماتها القانونية، وصلاحياتها التي
مارستها خلال عقود مضت، تعويلا على تحول حقيقي في تلك السلطة نحو فكر مدني
خالص. لكن مسار العملية السياسية برمتها لم يصل إلى حد الإقناع والتأثير واخراج
ذلك التعويل إلى واقع عملي، كما لم تتوافر لدى السلطة العليا قدرات استيعابية
لهذا النمط من التحول السياسي والمشاطرة في قرارات الدولة المصيرية في ظل أجواء
سلم مستقرة.
وكان من أهم مثيرات الاستغراب الممزوج بالتهكم، إن جهاز الأمن والمخابرات
المطعم بخبرات بريطانية حديثة تمهيدا لمرحلة الانسحاب من البحرين والتحول نحو
ميزات الدولة الحديثة، لم يستطع الوصول إلى درجة تؤهله مهنيا وعلميا وثقافيا
وسياسيا للتعاطي مع مستجدات البلاد. ورأينا انه جبل على التعاطي بعنف وقمع
شديدين برفقة جهل مطبق لأبسط معارف أمن الدولة الحديثة ومبانيها الديمقراطية.
ولم يجد المواطن البحريني أي اختلاف بين صلاحيات وممارسات جهاز الأمن
والمخابرات خلال مرحلة الانفتاح الديمقراطي وحقبة الاستعمار السابقة .
من جهتها، فشلت الحكومة في إيجاد آلية مناسبة لضبط علاقة الوزارات بالكتل
النيابية والتجمعات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تقف خلفها صفا مرصوصا
بما أشاعته من إضرابات واعتصامات ووسائط ووسائل ضغط إعلامي شعبي. فأسقطت
الحكومة فشلها هذا على التجربة الديمقراطية من رأسها الى أخمص قدمها. ووصفت
التجربة بأنها " فاشلة في تطبيقاتها العملية " وان " الوسيلة الديمقراطية
أثبتت عدم فعاليتها" وأنها " جاءت باستعجال من الأمر دون استعداد " وأنها "
أضحت عائقا أمام استصدار الحكومة للتشريعات اللازمة".
مقايضات عنيفة
كانت هواجس السلطة إزاء التحول نحو الدولة الحديثة بزعامة مؤثرات قوى المجتمع
الأهلي المتناثرة في العاصمة المنامة على غير هدى، ضاربة في عمق الدولة
ومؤسساتها الرسمية. الأمر الذي أفشى للسلطة العليا أن بناء الدولة الحديثة
والمقتدرة سيتطلب الكثير من الإجراءات المفككة لكل مظاهر دولة القبيلة
ومركزيتها الحادة والخانقة. وعلى ذلك لم تستطع الحكومة تسخير سبل النجاح لتحقيق
الوعود المضروبة للشعب بعد حلها للمجلس الوطني. كما أخفقت في وضع حد للتضخم
وتخفيض قيمة السلع الاستهلاكية بما يتناسب ودخل المواطن برغم تلك الوفرة
المالية الناشئة عن ارتفاع قيمة برميل النفط في العالم. وظلت أزمة الإسكان
متفاقمة نسبة للحاجات المتزيدة نتيجة للانخفاض المستمر في دخل المواطن. وأمست
الخدمات الأخرى على حالة يرثى لها.
كل ذلك جرى في صفقة مقايضة إجبارية غير عادلة في مقابل حجب الحق السياسي
للمواطن، وانتزاع غير شرعي لإفادة منه بعدم جدوى وكفاءة الحياة النيابية
لجزيرته التي تشدها رغبة عارمة في تحقيق تنمية متسارعة أمام حركة التنافس
الخليجي العمراني المجنون. وقد صرحت الحكومة في هذا الصدد " بأنها ستتولى الأمر
بنفسها، وستشكل لجانا للمتابعة، وستحقق نماء عاما في شهور عشرة بعمل يفوق وعود
المجلس النيابي خلال خمس سنوات"!.
لقد حسمت الحكومة الأمر لصالح السلطة التقليدية العليا، لكنها أخفقت في مصاحبة
إجراءات الحسم هذه باستقطاب سياسي هادئ يستهوي المعارضة أو يضمها إلى حزمة
المشاريع التنموية العامة. وظلت الأجواء كلها ملبدة بغيوم لا غيث فيها ولا قطر،
حتى ديسمبر من العام 1992م الذي شهد تعيين أعضاء لمجلس شورى مخيب للآمال
المعقودة على دروس مستخلصة من نتائج تجربة الاجتياح العراقي لدولة الكويت، في
ظل ظروف أمنية داخلية شديدة التوتر.
ومنذ ذلك الحين ودولة البحرين تتقاذفها هواجس السلطة التقليدية بحدة وعنف
شديدين للغاية. وتشابهت كل مراحل الانفتاح الديمقراطي، نشوء وسقوطا، دون حدوث
قفزة نوعية أو مقاربة مدغدغة لمخيلة الاتجاهات المعارضة. ويمكننا قراءة ذلك
التشابه، من خلال محجة المطابقة بين فعاليات السلطة ومبررات الإقدام على حل
المجلس الوطني، وبين فعالياتها ومبررات الإقدام على تعيين المجالس
البلدية من بعد الانتخاب في عام 1952م.
ففي عام 1919م دخلت البحرين أول تجربة انتخابية للبلديات، متميزة بذلك عن باقي
دول الخليج. وبعد انتهائها إلى عشر مراحل انتخابية، قويت شوكة المتنادين إلى
تفكيك المركزية الحادة في الدولة، والى وجوب أخضاعها الى عقد اجتماعي ملزم.
فأدركت السلطات على اثر ذلك التنادي، إن تقسيم الدوائر الانتخابية على
أساس من التمثيل الطائفي سيراكم المطالب السياسية المفككة للسلطات التقليدية
المطلقة. يضاف إلى ذلك، ان شيوع مفهوم المشاركة الشعبية في المجالس البلدية في
بيئة شديدة التفاعل مع الأحداث القومية والدولية، سيضيف الكثير من الوعي
بمتطلبات دولة القانون الحديثة على أرضية رأت السلطة العليا بأنها غير صلبة
القواعد، تغيب عنها كل مؤهلات واستعدادات ومسوغات السلطة الشعبية الشرعية!.
وتأسيسا على ذلك، بادرت السلطات إلى التدخل في الشأن القانوني للمجالس البلدية
مباشرة، عبر مراحل ثلاث. كانت الأولى تعديلا على المادة العاشرة من قانون
البلديات الصادر خلال المرحلة الانتخابية الأولى، لتشمل الانتخاب على أساس وطني
وليس طائفي. وكانت الثانية قد اتخذت من إلغاء الانتخابات وتعين أعضاء المجالس
البلدية سبيلا بعد المرحلة الانتخابية الأخيرة في العام 1952م. وهكذا قضي الامر
في مبررات حل للمجالس البلدية منذ 49 عاما لم تشذ كثير عن مبررات حل المجلس
الوطني في منتصف السبعينات، وكان أبرزها، أن الفئات والنوعيات التي وصلت إلى
المجالس البلدية "لا تتمتع بالشروط المطلوبة ".
وأما المرحلة الثالثة فكانت بمثابة الضربة القاضية، وذلك بعدما ضمت المجالس
البلدية المعينة إلى دائرة من دوائر مجلس الإمارة، كمحصلة نهائية مطابقة لعملية
ضم مجلس شورى 1992م المعين إلى الحكومة، عوضا عن المجلس النيابي المنتخب. خصوصا
وان المجالس البلدية كانت بأثر أساسي آنذاك بحكم ثقافتها المدنية وبما كرسته من
تحول مس جوانب تعليمية وادارية هامة، حيث ظهرت الشرطة بشكلها المنظم لأول مرة
بديلا عن سلطة الفداوية الهمج الرعاع، ونشأت المؤسسات التعليمية بهيئتها
المنظمة، وعرفت البحرين أيضا مجلسا للقضاء.
وعلى اثر ذلك التحول التاريخي الرائع، بذل بعض مثقفي البحرين منذ عام
1938م، جهودا جبارة في سبيل استكمال مسيرة التقدم المجتمعي، عبر المساهمة في
رفع هواجس السلطات وتبديد مخاوفها .وبتدشين علاقة وثيقة ناجزة، عبر مجاراة
مفهوم التوازن الطائفي الجديد الذي الحق مجالس البلديات في الخمسينات إلى
الحكومة، وتبني مطلب تأسيس مجلس تشريعي يضم عددا من الأعضاء السنة والشيعة بشكل
متساوي، برغم وجود أكثرية شيعية ساحقة. وهذا يفيد دلالة على عزيمة شيعية جديدة
بفتح صفحة ناظرة إلى الأمام، متناسية لصراعات الماضي. لكن هذه العلاقة لم يكتب
لها التوفيق والنجاح، وانتهت بمأساة كارثية ظلت آثارها السياسية
والاجتماعية والاقتصادية تدوي في أفق البحرين حتى لحظة الإعلان عن مشروع
الإصلاحات الراهن.
نقاهة وظنون وآمال
وعلى ذلك، تجتاح اليوم أفئدة سياسيي البحرين بعض مخيبات الآمال مما سيترتب على
بقاء النهج القديم على قواه التقليدية، وتصديه لمشروع الإصلاحات الراهنة
التي يقوده الشيخ حمد آل خليفة بنفسه.
ومن المرجح في ظن البعض، ان تستمر هذه الإصلاحات بتحريك سياسي واسع
ومنفتح، وتنبيه إلى مفاهيم سياسية وامنية جديدة في أشكالها، قديمة في مضامينها
وموضوعاتها وآلياتها. وربما تنتهي الى مصير لا يشذ عن مصير تجارب الانفتاح
المنصرمة على الطاقات المجتمعية. ومن المساهمات في تعزيز تلك المرجحات
الظَنُون، الشدة من البطؤ المتعمد في تطبيق بعض الوعود التي تقدمت بها السلطات
للمنتفضين أثناء حوادث السنوات الخمس الماضية، في مقابل تسارع شديد في إنشاء
وتطوير عدد من المجالس واللجان العليا الممهدة لدعم القطاع الأمني
والسياسي والاجتماعي للحكومة، كلجنة تفعيل الميثاق ولجنة تعديل الدستور والمجلس
الاعلى للمرأة وما شابه. تزامنا مع سعي حثيث لإنهاء كل مظاهر القهر الأمني
القديم.
ومع غلبة الآمال الكبيرة التي اكتنفت الموقف المعارض، بقيام تحول حقيقي في
تقليدية السلطات العليا باتجاه اكثر ثقة وانفتاحا، واكثر تقبلا واعترافا بواقع
منبهات الصراع المرير الناشئ عن رفض الموائمة بين التقليدية الحادة والأعراف
الضيقة المسيرة للسلطات ومؤسساتها، وبين تحول مجتمعي متقدم له جذور ضاربة في
عمق تاريخ البحرين، وممتد بنسق طبيعي، منسجم مع تحولات وتطورات تجديدية
ثقافية ،علمية ومعرفية . ومع كل تلك الآمال وغلبتها، هناك معارضون يقطعون بان
تلك الموائمة حاصلة وواقعة، لصالح محصلة طبيعية جامعة بين ثقة التقليد السلطوي
وارادة التجديد الشعبي، وان التقليدية في طريقها للتفكك في سياق كل نظريات
المعارضة، ومن ثم الاندكاك في المسار التجديدي، وان المسألة محكومة الآن
بالوقت.
من هنا، تميز القاطعون بالموائمة بانخراطهم الكبير والمفرط في العملية السياسية
الراهنة بما تحمله من مخاوف وهواجس، وبشكل انتحاري، دافعه الثقة أولا، والرغبة
في البناء السياسي في كل الظروف والأحوال على ارض الواقع ثانيا .
ومهما يكن من أمر، يبقى أن مجتمع البحرين في هذه الأيام ينعم بما يمكن ان نطلق
عليه " نقاهة سياسية " خالية من نكد الأمن ومنغصاته. فقد انتهت
أحداث البحرين المؤلمة بشكل دراماتيكي متسارع جدا، كان عامله خطوات اتخذها امير
البحرين الحالي بعد اعتلائه سدة إمارة البحرين في 6 مارس 1999م .أطلق عليها بعض
المعارضين " مرحلة انتقالية " او " مرحلة الاستقرار بدون قانون أمن الدولة " او
" مرحلة توثيق العلاقة مع السلطات" أو " مرحلة تبادل الثقة " او " مرحلة
الشفافية والمصارحة " أو " مرحلة بناء القواعد قبل البرلمان" أو " مرحلة
الإفراز والتبلور السياسي" او " مرحلة النظر للأمام ونسيان الماضي العتيد
والعفو عما سلف".
هذه الاطلاقات عبرت بما لا يدع مجالا للشك، عن نوايا أطراف المعارضة بمختلف
أطيافها وتلاوينها، كما عبرت عن العزم وبدون هوادة على إحالة ذلك العداء الصريح
الذي وصل الى حد الاستئصال السياسي بوسائل عنيفة، الى تراضي وتفاهم عن قرب،
وبعيدا عن استغلال الثغرات المستحكمة في معارض الإثارات السياسية، أو الولوج
منها الى التحشيد والتعبئة المناوئة.
وفي بادئ الأمر، كادت خطوات الشيخ حمد التي اتخذها في فبراير 2001م، ان تقسم
الأطراف المعارضة الى شطرين، متقبل إلى أقصى اليمين، ورافض إلى أقصى اليسار، او
راض وناهر، وبين هذين الشطرين، لم تغب تجارب الماضي المرير، وعزائم التفكيك
السياسي والأمني التي وقفت دائما خلف كل إعلان عن مصالحة او تراض من قبل
السلطات منذ اكثر من ثمانين عاما. في وضع سياسي مماثل لما أعقب مرحلة الإعلان
عن استقلال. حيث أدى ذاك الإعلان المفاجئ عن رغبة السلطات ببناء دولة حديثة
تحكمها نظرية حديثة ونصوص دستورية، إلى شق المعارضة إلى شطرين، راديكالي
(متطرف) ومعتدل( وصولي)، في ظل نظام طوارئ مستحكم.
احتياطات لتجربة قديمة
ولكن الساعة هذه مختلفة تماما. فقد تقدم إعلان مشروع الإصلاح، بمشاورات مع عدد
من الفعاليات السياسية والاجتماعية والدينية .ورفع لكل آثار مرحلة الاستبداد
السياسي. وإلغاء لقانون أمن الدولة في 18 فبراير 2000م، وتعديل لقوانين أخري،
من نحو قانون الجمعيات والمطبوعات. وتنظيم للسلطات الثلاث. كل ذلك جرى بعد حالة
من الاستنزاف السياسي والأمني طالت مدتها إلى خمس سنوات متعاقبة. وقفت كل دول
المنطقة ودول غربية أخرى إزاء الأوضاع البحرينية، إلى جانب السلطات، ومدتها بكل
لوازم ومتطلبات البقاء والمنعة، فيما ظلت المعارضة تكافح وتناضل بمفردها في
مناخ تهيمن عليه خلافات حول النظرية السياسية المعارضة وتصوراتها، إلى درجة عبر
معها بعض المعارضين عن سخطه واستيائه لمسار العملية السياسية، بينما سخّر البعض
الآخر جزء من طاقته، واحتفظ بما تبقى منها لمراحل غير منظورة في هذا المسار
السياسي الصعب.
ومع الاستجابة الكبيرة الأخيرة لأطراف المعارضة، وفي معرض مبارياتها على سبيل
تقديم ما تملك من براعة وحنكة سياسية، أعلنت من جهتها أنها لن تمارس السرية
مطلقا، وأنها قد أعدت ما تملك من افضل كوادرها لخوض غمار العملية الديمقراطية،
درءا للاتهامات الموجهة لها خلال عقد السبعينات بعدم الشفافية و" التنظيمية
المغلقة" وخلوها من كوادر ونوعيات ذات كفاءة عالية وصالحة للارتفاع بالتجربة
الديمقراطية. كما نأت بنفسها عن ممارسة أية ضغوط سياسية او معنوية،
وتدخلت في حالات كثيرة لوقف اية نشاطات تأخذ صفة الضغط، من نحو التظاهرات
والمسيرات والاعتصامات والاحتجاجات الشعبية، خوف تكرار تجربة التظاهرات
والإضرابات التي عمت القوى الوطنية الفاعلة اقتصاديا بالتزامن مع انعقاد جلسات
المجلس الوطني في السبعينات.
وأغلقت المعارضة كل ملفات القضايا الساخنة، من نحو، محاكمة مرتكبي جرائم القتل
والتعذيب من رجال الأمن والمخابرات خلال أحداث الانتفاضة الدستورية، وإيقاف
التجنيس لأغراض أمنية وسياسية، والبطالة، ولجنة تعديل الدستور المتعارضة مع
المادة الدستورية (104)، والتعديل الوزاري المثير الذي جرى في 17 إبريل 2001م
المكافئ لعدد من شخصيات قانون أمن الدولة، كوزيري التعليم والإعلام الحاليين،
والإثارات الإعلامية السلبية في الشأن الطائفي المواجه لمبادرات تشكيل الجمعيات
الأهلية ذات الطابع السياسي، وتهرب السلطات العليا عن مراجعة مطلب الإسراع في
اتخاذ قرار بشأن الانتخابات النيابية لتشكيل المجلس الوطني .
ربما يعبر موقف المعارضة الهادئ جدا عن ضعف وهزال من جهة، اكثر منه دراسة
واعية لتجارب الماضي لاتخاذ كل ما من شأنه المساعدة في خلق جو صفاء ونقاء وثقة،
رغم تصريحات بعض المعارضين المستنجدة بخطاب الاستعطاف والاسترحام، منادية
بضرورة تبني هكذا موقف متناسب مع المرحلة الراهنة، لتقديم يد العون للحكومة
لتستكمل كل استعداداتها وتهيئ كل ضرورات المراحل الحاسمة القادمة.
وقد جزم البعض بصحة موقف المصالحة في ظل خطوات حكومية غير مبالية بما يدور
حولها من سخط وتهكم، كما راح البعض الآخر من المعارضين إلى تجاهل لكل ما يجري،
والتفرغ لاستعراض نظريات العمل السياسي والمكاشفة الاجتماعية الموجبة للتبني
الشعبي، مع تأكيد على ضرورة اعتماد العمل الحزبي وتزويده بكل المستلزمات
القانونية دون خوف أو وجل.
مزايدات قبل الانتخابات
وفي ظل هذا التحرك الشامل لكل القوى المعارضة تحت رعاية على مستوى قمة القرار
السياسي، ربما تنشأ ساحة نزال في الوسط الشعبي هذه المرة، بين بعض التيارات
السياسية المتنافسة. وقد برزت بعض مظاهر هذا النزال، بعدما صالت وجالت
بعض المزايدات على الاتجاه العقائدي والفكري لجهتين معارضتين، أحدهما تمثل
اليسار، والأخرى تمثل شكلا دينيا سبق وان دخل في مواجهة حاسمة لم يوفق في كسب
نتائجها. وهناك أيضا جدل الإسلاميين حول مشروعية الانخراط في النظام
الديمقراطي.
وهذا الجدل ربما حسم لصالح العمل السياسي الديمقراطي نتيجة نشوء الحركة
الإسلامية البحرينية في ظل مناخ متأزم سياسيا اكثر منه شرعيا – كما تصور ذلك
بعض الجهات الدينية - .وعلى ذلك تغلب الحس السياسي وحركيته على النهج الشرعي.
خصوصا وان هناك قبولا مطلقا من قبل هذا اللون من الاتجاه للمواثيق
التعاقدية، كالدستور والميثاق. ولكن يظل هذا الاتجاه في حالة من الحرج أمام
الاتجاهات الأخرى، الملتزمة بالشرعية الدينية على حساب الحركية السياسية،
والمهتمة بمشروعات اجتماعية وتربوية دينية لا علاقة مباشرة لها مع الدستور
والميثاق. وهناك أيضا اتجاهات دينية لم تتبلور معالم برنامجها السياسي بعد.
وربما تشكل هاجسا جديدا لبقية الاتجاهات المنخرطة بنظرياتها عمليا في مشروع
الإصلاحات دون احتياطات مسبقة لما سيجري في مرحلة الانتخابات البرلمانية التي
يصعب التكهن بنتائجها قبل معرفة نصوص قانون الانتخاب وتوزيع الدوائر الانتخابية
الذي يفترض صدوره عن وزارة الداخلية او عن مجلس القضاء الأعلى، وما إذا كان
معدا على أساس وطني او طائفي غير عادل.
سنتان رماديتان من الترقب
هذا الهدوء المعارض، وهذا والركون إلى الجمود تحسبا للنتائج التي ستسفر عنها
السنتان القادمتان، لن يُمكّن الوضع الراهن من تقبل المكاشفة والمصارحة بجلاء
ووضوح في فترات لاحقة - حسب ما يصور ذلك بعض الممتحنين في أحداث السبعينات -.
وربما تشكل هاتان السنتان فترة رخاء ناظرة لشهر عسل الأعراس السياسية، وعقبى
فرحة لعقود الاستنزاف السياسي المنصرمة. ويمثَل لذلك، بأنماط المواقف الرمادية
للمعارضة تجاه الحكومة الحالية الموغلة في سياساتها القديمة دون اعتبار للمشروع
الإصلاحي للأمير الشيخ حمد ،والرافضة لتشكيل ديوان محاسبة مستقل له صلاحية
الرقابة المسبقة والمرافقة واللاحقة في كل وقت ودون إذن قضائي أو إذن من
الحكومة نفسها. وقد عبر التحول المفاجئ لديوان المحاسبة إلى ديوان رقابة
محدودة، ومقتصرة على التفتيش اللاحق وبإذن حكومي، عن نفوذ حكومي ربما يتحكم في
مصير الحياة النيابية المرتقبة، ويتجاوز في قوته تشريعات المجلس الوطني
الموعود.
ولعل اكثر المظاهر سوءا في إصرار الحكومة على التقليدية في السلطة، بقاء اكثر
وزارات الدولة الأساسية على حالها دون اي تغيير يذكر. خصوصا تلك الوزارات التي
كانت محط سخط عام خلال سنوات الاستبداد. كما هو الحال بالنسبة لوزارة الداخلية
سيئة الصيت إداريا وطائفيا .
كل ذلك يجرى خلال سنتي العسل والاسترخاء والانتظار والترقب، وتحت ظل تواجد
قيادات ورموز وكوادر أطراف المعارضة في ساحة البحرين، ونجاح بعضها في إعادة
ترسيم برامجها وتنظيم هياكلها الداخلية في أطر لجان متعددة المهام، مصنفة
إدارات الدولة بين قوى إصلاحية بزعامة الأمير، وقوى حرس قديم بزعامة رئيس
الوزراء. ومعولة على تدخل مباشر من قبل الأمير في شؤون الدولة اذا ما استعصت
الامور.
ومهما كانت الظروف الحالية قادرة على زيادة التفاعل في العلاقة بين السلطات
التي تسعى ألان للخروج من التقليدية الحادة باتجاه صناعة الدولة الحديثة
المتكاملة قيادة ونظاما، وبين التيارات المعارضة التي تسعى ألان للوصول الى طرق
التنظيم المجدي لصفوفها في جو من الحرية والشفافية النسبية. واستغلال كلا
الطرفين للثقة المتبادلة بينهما في سبيل اخرج البلاد من محنة الأزمات المتتالية
سياسة وامنا واقتصادا واجتماعا وثقافة، إلا أن التجربة الحالية لازالت في
مهدها، وبحاجة إلى الكثير من الرعاية والاطمئنان. فالتحديات القادمة على طريق
البرلمان ليست بالقليلة أو الهينة، بل إنها تحديات ربما تتمثل فيها حقيقة
الأزمة التاريخية بين تقاليد السلطة القبلية ومحفزات التنمية البشرية برمتها .