تعبير المواطن عن موقفه من الحكومة، أي حكومة قد يتحرك في المشاعر أكثر منه
في الالفاظ والكلمات، وفي الغالب يبقي كذلك ما لما تتاح له فرصة استثنائية في
البوح وترجمة المشاعر الى كلمات وتالياً الى فعل سياسي او فكري. وهكذا
الامر بالنسبة لاتجاهات التغيير المنشودة والمعبرة عن المواقف المتباينة من
الحكومة، فاتجاه التغيير يكون فعل الموقف في حال التنفيد.
وعموماً فأن مواقف المواطنين من الحكومة تتردد بين:
ـ القبول بالامر الواقع او
الاستلام له وينقسم بين:
أ ـ من يرى أن الحكومة شرعية تأسيساً على مقولة "ليس بالامكان أفضل مما كان".
وموقف هؤلاء قد يتغلف بغطاء ديني، أي الاعتقاد بأن الحكومة تتقوم على مبادىء
الدين وقيمه وتمتثل لاملاءات الشريعة، أو قد ينبني على خلفية سياسية تغذيه
وتشحنه مجموعة المصالح المشتركة والمتبادلة، أي ان وجود مصالح خاصة لدى مجموعة
من السكان مع الحكومة تغذي مشاعر الولاء والانضمام لمعسكر أهل الحكم فترى فيهم
ضماناً لاستقرار وتدفق المصالح وهذا ما تفرضه اخلاقيات التحالف.
ب ـ من يستسلم للامر الواقع de facto وهذه الشريحة قد تكبر او تصغر بحسب طبيعة
السلطة (ديمقراطية ام استبدادية) وحراكية الجو السياسي ودرجة انخراط المواطنين
في الشأن العام. وهذا "اللاموقف" هو أحد التعبيرات الصامتة والممثل لشريحة
واسعة في مجتمعات الشرق الاوسط.
2 ـ القبول المشروط بالحكومة: ويصدق هذا الموقف على شريحتين من المواطنين:
أ ـ الشريحة الاولى: وترى في الحكومة خياراً مقبولاً ولكن في ذات الوقت ليس
مفتوحاً بل يرتكز على شروط محددة، وهذا القبول المشروط يستند على فلسفة لها
جذورها في الفكر السياسي الاسلامي تنطلق من اصالة النظام ومفادها أن درء
المفسدة مقدم على جلب المنفعة او المصلحة، أي بمعنى آخر أن ازالة النظام وان
أثمرت في قيام نظام صالح يوفر الامن والحرية والمساواة للمواطنين الا أن خطورة
ازالة النظام قد تكون أكبر من حيث انعدام الامن وانتشار الفوضى. والبديل ازاء
ذلك يتمثل في مراكمة الضغوط الداخلية عبر النصيحة، والعرائض والاعلام والتحرك
السياسي التي تدفع في المحصلة النهائية الى تنازلات سياسية من قبل الحكومة.
ب ـ الشريحة الثانية: ترى بأن الحكومة خياراً مقبولاً مؤسساً على عقيدة تقوم
على اعتبار ان مفاسد الحكومة ليست استثناءً، وانما هي جزء أصيل من السلطة ذات
الطبيعة الفاسدة تكويناً، ولذا يكون البديل بتكثيف أدوات المحاسبة والمراقبة
والتقويم والضغط من اجل ابقاء مستوى الفساد الى درجات ادنى.
والسؤال هنا: ماذا لو فقدت ادوات الضغط تأثيرها في محاربة الفساد او محاصرته،
تماماً كما هو الحال في الكثير من بلدان الشرق الاوسط، فتعالي الاصوات المطالبة
بمحاربة الفساد السياسي والاقتصادي لم يفضِ الى الحد منه في كثير من الاحيان؟!
وهل يفهم من هذا السؤال ترجيح خيار راديكالي اخر؟ بالطبع كلا، وانما هو سؤال
يستهدف وبدرجة أساسية فهم هذا التفاوت في المواقف وكيف سيكون التناظر بين
جماعات وشرائح داخل المجموع الكلي لسكان بلد.
3 ـ الثورة والاجتثاث لجذور السلطة القائمة:
ومهما تفاوتت منطلقات هذه الشريحة سواء من حيث المدعيات الدينية أي القول
بافتقار الحكومة لأي مشروعية دينية او المدعيات السياسية أي كون الحكومة سالبة
للحريات والامن والمساواة ومتطلبات قيام حكومة شرعية، فأن موقف هذه الشريحة
تتوحد في وسيلة التغيير وهي استئصال النظام واستبداله كلية واقامة نظام بديل
مكانه.
والسؤال المركزي هنا: وماذا بعد استئصال النظام، بالنظر الى بلدان تفتقر الى
مقومات الدولة الحديثة القائمة على المواطنة الحقيقية، والامن للجميع والمساواة
والعدل والحريات الفكرية والتعددية؟ ثم ما هي الضمانات الكفيلة باقامة بديل
سياسي افضل، يستند على شروط ثقافية واجتماعية واقتصادية. فهل بالامكان اقامة
نظام سياسي يتمثل فيه كل الجماعات مع وجود نزعة استئصالية استئثارية لدى بعض
الجماعات، وكيف يمكن ضمان الحريات الفكرية في ظل عقائد خلاصية، وكيف يمكن توفير
فرص اقتصادية متساوية بوجود احتكاريات واسعة؟.
4 ـ حكومة الاجماع الوطني:
وهذه الشريحة تتجاوز الجدل حول الموقف من الحكومة القائمة وتسعى الى بلورة رأي
عام وطني يسهم في تشكيل او اعادة تشكيل حكومة تستمد مقوماتها ومشروعيتها من عقد
اجتماعي، تكون فيه الارادة الشعبية قادرة على فرض مجموعة المبادىء الضرورية
لقيام حكومة وطنية بالمعنى المليء للكلمة، وتتمثل قيم الحرية والمساواة
والتمثيل العادل والمتكافىء للجماعات المنضوية بداخل الدولة.
وتتبنى هذه الشريحة منهاجاً سلمياً في التغيير يقوم على اساس تعميم ثقافة وطنية
والمبادىء المقررة عالمياً (حقوق الانسان، والديمقراطية تمثيلاً). وتحاول
هذه الشريحة استعمال وسائل العمل المتاحة ولكن ليست بالضرورة خاضعة او
متوافقة مع الوسائل المعتمدة لدى السلطة.
ويفصل هذه الشريحة عن الشريحة التي تتبنى التغيير التدريجي ان الاخيرة تسعى
للتغيير من اعلى أي بتكثيف ضغوطها ونشاطها من اجل دفع السلطة السياسية الى
ادخال تغييرات الى جهاز الحكم بينما ترى هذه الشريحة بأن التغيير يأتي من أسفل
ابتداءً أي من خلال تحفيز المواطنين نحو الاشتراك في حركة سياسية شعبية تستهدف
اشاعة اجواء الاصلاح السياسي وبالتالي دفع الحركة من اسفل الى اعلى نحو التغير
السياسي. وترى هذه الشريحة بأن التغيير السياسي القادم من اسفل يحمل ضماناته
المستقبلية ويكون اقدر على دحض محاولات التقويض والاعاقة كونه مستقوياً بالشعب
نفسه صاحب القرار الفعلي في التغيير والتشييد.