gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
التدخل العسكري لإجهاض الثورات مرفوض من المجر الى البحرين
د.سعيد الشهابي

التاريخ يعيد نفسه، وتتكرر المواقف وتتعدد السياسات، ويبقى مبدأ واحد يحكم عالم السياسة الحديثة (وربما القديمة ايضا) مفاده ان المصالح، وليس المبادئ، هي التي تحدد كل ذلك.
ولقراءة ملف 'ربيع الثورات العربية' بلغة الايديولوجيا والتاريخ لا بد من استحضار وقائع الماضي القريب لاستيضاح مصداقية هذا المبدأ. وليكن الحديث عن ربيع الثورات مرتبطا بما سبقها من 'ثورات ربيعية' مماثلة تدخلت فيها القوى الاجنبية لسحق ارادة الشعوب، ولكن تباينت مواقف الدول الاخرى ازاء تلك التدخلات. وكما قال الكاتب كمال علي الاخرس في مقاله 'المسار الخاطئ' المنشور بجريدة 'الرأي' اللبنانية في 24 اذار/مارس 2011: 'ان التاريخ يشهد أن تدخل أي جيش خارجي لإعانة نظام على شعبه تحت أي عذر يأتي بنتائج عكسية، وتكون ثماره مرة كما حدث في استنجاد كارمل أفغانستان بالاتحاد السوفييتي'. ذلك الاستنجاد ادى الى احتلال افغانستان من قبل القوات السوفييتية، ولكنه ادى كذلك الى ردة فعل عكسية من قبل الغرب، خصوصا الولايات المتحدة الامريكية التي اعتبرته احتلالا وشنت حربا دبلوماسية وعسكرية ضده، معتبرة ان استدعاء الحكومة الافغانية لتلك القوات لا يضفي شرعية على الاحتلال. وفي الذكرى الثلاثين لذلك الغزو كتب الجنرال أوليغ كالوغين الذي عمل أكثر من ثلاثين سنة في صفوف المخابرات السوفييتية (كيه جي بي) مقالا في مجلة 'فورين بوليسي' كشف فيه عن إستراتيجية غزو هذا البلد، قال فيه: 'إن أفغانستان لم تصبح طوع بناننا، فقد تدهور الوضع عام 1979 بعد أن أقدم (حفيظ الله) أمين على قتل تراقي مما دفع بالـ (كيه جي بي) للضغط بضرورة زيادة التدخل السوفييتي في أفغانستان خشية الإطاحة بنظام أمين وقيام حكومة إسلامية هناك'. وقال: 'حضرت اجتماعا بين جهاز المخابرات السوفييتية والمخابرات العسكرية السوفييتية، وقمت فيه بحث الجنرال إيفاشوتين رئيس المخابرات العسكرية بحماس على غزو أفغانستان لسحق التمرد، ودعم الحكومة الأفغانية'. وليس بعيدا عن الذاكرة ما شهدته افغانستان من حرب استمرت عشرة اعوام، بقيادة 'المجاهدين' والدعم المباشر من الولايات المتحدة والسعودية لبعض فصائلهم، وما ادى اليه من تبعات انتهت بقيام تنظيم 'القاعدة' بقيادة اسامة بن لادن. المسألة هنا ان استدعاء القوات السوفييتية من قبل بابراك كارمل لم يوفر لها الشرعية، في نظر الغرب.
لم يكن ذلك الحدث الافغاني الاول من نوعه. فقد سبقته حوادث مماثلة في الخمسينات والستينات. ففي المجر شهدت ثورة 'ربيع براغ' ضد النظام الشيوعي تدخلا سوفييتيا قوبل برفض غربي قاطع، خصوصا بعد ان سحق ذلك التدخل الثورة الشعبية التي انطلقت في الاساس ضد استبداد النخبة الشيوعية الحاكمة. وكتب المفكر اللبناني، كريم مروة، مقالا عن تلك الثورة التي حضر وقائعها شخصيا، جاء فيه: 'معروف أن يانوش كادار، بعد مغادرتنا بودابست، قد انسحب من حكومة إمري ناجي وذهب إلى الريف وشكل حكومة العمال والفلاحين، ودعا الاتحاد السوفييتي إلى التدخل باسم حكومته لإنقاذ الاشتراكية من الخطر الذي تمثل بالحركة التي أعطيت صفة الحركة المعادية للثورة. وفعلاً تدخل الاتحاد السوفييتي وحسم المعركة خلال عشرة أيام. وتم سحق الحركة بأقسى الشراسة. وأعيدت المجر إلى نظامها الاشتراكي، لكن بقيادة جديدة، وبحزب جديد في الاسم وفي الرموز وفي الاتجاه. وصار كادار، أحد ضحايا ستالين في العهد السابق، رمز الحقبة الجديدة، في عهد ما بعد ستالين، عهد خروتشوف'. وكان موقف الغربيين واضحا، فقد شجبوا ذلك التدخل واعتبروه احتلالا ومارسوا الضغوط لاخراجه، باعتباره مناقضا لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. كما انه ساهم في تصعيد الحرب الباردة بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي آنذاك. واعتبر سحق 'ربيع براغ' واحدا من ابشع اشكال التدخل السوفييتي لدعم الانظمة الشيوعية الحليفة له. هذا رغم ان التدخل جاء بدعوة من حكومة كادار لانقاذها من غضب الثوار.
وفي العام 1968 تدخلت القوات السوفييتية لسحق الثورة الجماهيرية التي انطلقت في ربيع ذلك العام ضد النظام الشيوعي، الذي طلب من الاتحاد السوفييتي التدخل لحمايته من تلك الثورة. وبررت موسكو التدخل بانه جاء برغبة الشعب التشيكوسلوفاكي، ولكن الغربيين وقفوا ضده بشدة. وانتشرت الاضرابات العمالية والاحتجاجات الطلابية في مناطق واسعة من تشيكوسلوفاكيا، وتم تشكيل لجان شعبية في المصانع والجامعات للادارة الذاتية ومقاومة الاحتلال. وكاد انتصار القوات السوفييتية يتحول الى كارثة سياسية حقيقية، الامر الذي دفع قوات الغزو السوفييتي لاعادة دوبتشيك الذي كان مسجونا الى الرئاسة وبدأت تتعاون مع جناحه الليبرالي الذي كانت تسعى لتصفيته مع تصفيتها للثورة. واستطاع النظام الشيوعي استعادة مواقعه التي فقدها خلال الثورة الجماهيرية. فبعد ستة اشهر من الحراك الشعبي المتواصل تمت تصفية الجناح الليبرالي وقدمت رموز الثورة لمحاكمات عسكرية، واعتقل المئات من المناضلين الذين شاركوا في ثورة الربيع بهدف تحقيق 'ديمقراطية عمالية' حقيقية.
وفي المقابل حدثت تدخلات امريكية مباشرة لدعم انظمة استبدادية وفرضها بالقوة على الجماهير الرافضة لها. وهذا ما حدث في عدد من البلدان، من بينها نيكاراجوا التي شاركت الاستخبارات الامريكية في 1973 في اغتيال رئيسها المنتخب خوسيه دانييل اورتيغا، واعادت الى الحكم الديكتاتور أنستاتيو سوموزا. وقبل ذلك تدخلت الـ (سي. آي. أيه) لاعادة شاه ايران الى الحكم بعد انتخابات 1952 التي فاز بها الزعيم الوطني، محمد مصدق. فقد شجعت وزير الخارجية آنذاك، أردشير زاهدي، على تنظيم مظاهرات مفتعلة ضد النظام لتغطية مشروع الانقلاب ضد مصدق. هذا التدخل كان مرفوضا بشكل قاطع من الشعب الايراني، وشجبه الاتحاد السوفييتي بشدة. فاستدعاء النظام المستبد بقوى اجنبية لحمايته في مواجهة شعبه لا يعتبر مبررا لذلك الاحتلال، في اي من الظروف، خصوصا اذا ادى ذلك لقمع تطلعات الشعب وسحق ثورته. وهنا تبرز القوة السياسية والعسكرية للجهة التي تمارس التدخل. فالولايات المتحدة اصبحت تحظى بغطاء دولي لتدخلاتها في شؤون الدول الاخرى، خصوصا بعد تداعي الاتحاد السوفييتي ووقوع العالم تحت وطأة نظام القطب الواحد. وعلى مدى الاربعين عاما الماضية اعتبرت الولايات المتحدة حليفا لانظمة القمع والاستبداد العربية، ولم تعتبرها الشعوب صديقة لها في نضالها من اجل الحرية والديمقراطية. ولذلك أذهلت واشنطن الكثيرين عندما نجحت بعد مرور اسابيع على انطلاق ثورات 'الربيع العربي' في اعادة تسويق سياساتها ومواقفها بانها المدخل للديمقراطية في العالم العربي. هذا مع استمرار دعمها لأشد اشكال الحكم استبدادا.
وليس أوضح من هذه السياسة العوجاء من موقف الولايات المتحدة ازاء الاجتياح العسكري السعودي للاراضي البحرانية بذريعة وجود تهديد اجنبي لهذه البلاد، في اشارة الى ايران. وليس هنالك من يشكك في ان هذا التدخل انما جاء لسحق الثورة الشعبية التي اندلعت في البحرين في الرابع عشر من شباط (فبراير) الماضي، متناغمة مع الثورات العربية الاخرى. هذا التدخل وفر له الغربيون، خصوصا الامريكيين، شرعية سياسية مزيفة اساسها انه جاء استجابة لطلب من حكومة البحرين بناء على وجود اتفاقات سابقة بين دول مجلس التعاون الخليجي.
ومن سياق الحوادث التاريخية المذكورة أعلاه، يتضح بشكل لا يقبل اللبس او الغموض ان التدخل السعودي في البحرين لا يختلف عن التدخل السوفييتي في افغانستان في 1979 او في تشيكوسلوفاكيا في 1968 او في المجر في 1956، وهي التدخلات التي لم يقف الغرب مكتوف الايدي ازاءها بل تدخل عمليا، خصوصا في افغانستان، لمواجهة ذلك التدخل عسكريا، بل ان المعطيات المتوفرة تستبعد الرواية الرسمية التي تكررها واشنطن بان ذلك التدخل جاء بدون علمها، وتعتبرها خداعا واضحا. فقد كان وزير الدفاع الامريكي آنذاك، روبرت غيتس، يجتمع مع المسؤولين في المنامة قبل يوم واحد فقط من الاجتياح، فهل من المعقول ان اولئك المسؤولين او القيادة السعودية لم تبلغه بذلك، وهم يعلمون ان تدخلا من هذا لا يختلف كثيرا عن اجتياح القوات العراقية اراضي الكويت في 2 اب (اغسطس) 1990؟ ألا يتذكر اولئك المسؤولون ان تبعات الاجتياح السعودي، فيما لو حدث بدون علم واشنطن، ستكون وخيمة وقد لا تقل عما حدث لنظام صدام حسين من استهداف مباشر من قوات الناتو لاحقا؟ فهذا التدخل، لو تم بدون علم واشنطن وموافقتها لاعتبر إخلالا بالتوازن العسكري القلق في منطقة الخليج، ولأوضح للامريكيين خطر التمدد السعودي، خصوصا اذا كان بدون علمهم.
بعد اكثر من ستة شهور من ذلك الاجتياح، يتضح يوما بعد آخر، ان القوى المعنية بذلك الاجتياح اصبحت تواجه خيارات صعبة، خصوصا في ضوء الانتقادات المتصاعدة في الغرب للوجود العسكري السعودي على الاراضي البحرانية، وهو الوجود الذي لم تتردد المعارضة البحرانية في وصفه بـ'الاحتلال'. هذا الاجتياح تحول الى ازمة ولم يقدم حلا لما يجري في البحرين. وشيئا فشيئا، تجد السعودية نفسها في مواجهة تتسع رقعتها مع قوى ربيع الثورات العربية. فهناك امتعاض شديد في اليمن بسبب تدخل السعودية لحماية نظام علي عبد الله صالح. ولا يخفي شباب ثورة التغيير في مصر غضبهم ازاء ما يرونه من محاولات متواصلة من قبل السعودية للتأثير على المجلس العسكري لمحاصرة الثورة، وحصر انجازاتها بازاحة الرئيس مبارك مع الاحتفاظ بنظامه السياسي. ولم يستطع المسؤولون السعوديون اخفاء قلقهم الشديد على نظام حكمهم، خصوصا مع وجود استقراءات بحتمية انتشار حمى الثورة في بلدان جديدة من العالم العربي. ولا يمكن فصل الانتخابات البلدية السعودية الاخيرة، رغم تواضعها كمنجز 'ديمقراطي' عن الحراك العربي العام باتجاه الحرية والديمقراطية، بل ان هذه الانتخابات الصورية التي لم تعط المرأة دورا فيها، كانت فضيحة لنظام الحكم السعودي اذ لم يشارك في التصويت فيها الا نسبة ضئيلة قد لا تتجاوز ربع الناخبين المسجلين. ومع شيخوخة زعماء الحكم السعودي، وتفاقم امراضهم، وعجزهم الفعلي عن ممارسة دور القيادة والادارة والتخطيط، تبدو خيارات السعودية محدودة جدا. فلا يستطيعون البقاء طويلا في البحرين لان ذلك البقاء سوف يضغط على حلفاء السعودية الغربيين لاتخاذ مواقف اكثر وضوحا ازاء وجود قواتها على الاراضي البحرانية، رغم الرفض الشعبي الواسع لذلك. وبتدخلاتها للـتأثير على مجرى الثورات العربية خصوصا في مصر واليمن وتونس وسورية، بالاضافة للبحرين، اصبح مصير الثورات جميعا مرتبطا ببعضه. فاما ان تنتصر جميعا وتقيم انظمة سياسية ديمقراطية حديثة، او تصاب بالهزيمة امام الاصرار السعودي على اجهاض كافة الثورات او احتواء آثارها على أقل تقدير. يقول شادي حامد مدير الابحاث في (مركز بروكينغز الدوحة): 'السعودية هي قوة الوضع الراهن في منطقة تعارض فيها الاغلبية العربية الوضع الراهن'. هذا الاصرار السعودي على منع التغيير يقابل بحالة من الغضب في اوساط شباب الثورات المتعددة، بضرورة وضع حد لما يعتبره البعض 'بلطجة سعودية'. هذه البلطجة قوبلت بشجب اعلامي وسياسي في دول عربية عديدة، الامر الذي دفع قائد القوات السعودية في البحرين للتحدث في مؤتمر صحافي مؤخرا والاصرار على بقاء قواته في البحرين، وحقها في التدخل في دول الخليج الاخرى. كما ان هناك قلقا يتفاقم تحت الرماد لدى النخب المثقفة في دول مجلس التعاون الخليجي بان الصمت على التدخل السعودي يشكل بادرة غير حميدة تهدد حرية شعوب دول مجلس التعاون الاخرى.
يضاف الى ما سبق حقائق اخرى حول السعودية والخيارات المتلاشية امامها، خصوصا مع عجز كبار مسؤوليها عن اداء دور فاعل على ساحات الثورات العربية. يقول غانم نسيبة وهو محلل سياسي وشريك في كورنرستون جلوبال للاستشارات: 'الملك عبد الله هو الشخصية المحورية وبيده القول الفصل في النهاية لكن حالته الصحية ليست على ما يرام وكذلك حال الناس المحيطين به.' ويضيف قائلا: 'هذا لا يساعد السعوديين في قدرتهم على تكوين سياسة متماسكة وتوضيح الحقائق على أرض الواقع. الدولة السعودية في طريقها لان تصبح طرفا غير نشيط وسلبيا.' لكن هذا الدور السعودي يعتبر وجها آخر للتدخلات الامريكية لاجهاض الثورات العربية، وبالتالي فستكون واشنطن مستهدفة بالنقد والشجب وسوف تحمل اوزار التدخلات السعودية. ولا شك ان العلاقات الحميمة بين الرياض وواشنطن ماثلة في اذهان الثوار العرب، الامر الذي يزعج الامريكيين بشكل او آخر، خصوصا مع فشل النظام السعودي في تحديث نفسه، او تطوير ادائه السياسي او ممارسته اي شكل من الاصلاح الحقيقي. ورغم عقود من السياسات الهادفة لتدمير وعي العرب وعقلهم وشعورهم فان لهب الثورة أيقظ الجيل العربي الحاضر وجعله مستوعبا للتوازنات والتحالفات السياسية في المنطقة، ولحقيقة العلاقات بين واشنطن والرياض. يقول جوردان السفير الامريكي السابق في الرياض: 'انهم يدركون مدى ارتباط المصالح السعودية الحيوية بالمصالح الحيوية الامريكية في طائفة كاملة من القضايا من مكافحة الارهاب الى ايران والابقاء على سعر متوازن للنفط... لن يكون واردا تقريبا أن يكون هناك انقسام كبير لدرجة يعجز عندها البلدان عن التعاون'. أيا كان الامر فان مصير التدخل السعودي العسكري في البحرين سوف يكون مؤشرا لمدى انتصار الثورات العربية او فشلها. فاذا استطاعت السعودية الاحتفاظ بذلك التدخل فسوف تكون أكثر طموحا ورغبة في السيطرة على الثورات او اجهاضها او افراغها من محتواها التغييري. وعليه فمصلحة الثورات والشعوب العربية تقتضي التصدي للسياسات السعودية والسعي لافشالها، بكافة الوسائل السياسية والدبلوماسية والاعلامية المتاحة. صحيح ان المهمة صعبة ولكن الاصعب منها السماح للسعودية بتقرير مصير الثورات التي استشهد في طريق انجاحها آلاف المواطنين وقدمت الاوطان اقصى ما يمكن من التضحيات. وليكن ذلك واضحا في اذهان الثوار وشباب التغيير في كافة البلدان الحاضنة لتلك الثورات.

copy_r