gulfissueslogo
ضغط الشارع أم أميركا تراجع آمال الإصلاح السياسي
خالد شبكشي

 وضعت أحداث نيويورك الأنظمة الخليجية وربما كل الأنظمة العربية في مأزق غير عادي. واحد من أهم تجليات ذلك المأزق هو الموازنة بين متطلبات الضغط والتهديد الأميركيين للتعاون فيما يسمّى بمكافحة الأرهاب، ومتطلبات الشارع المحلي الذي يميل لتأييد كل عملٍ ضد الولايات المتحدة وربما حلفائها والمتعاونين معها في حربها ضد أفغانستان. وتشعر الأنظمة الخليجية على نحو خاص بأنها معنيّة بشكل أكبر بالموضوع الأفغاني وتطوراته الحالية، ليس من جهة المشاركين في المواجهة المباشرة مع الأميركيين فحسب، بل في مساهمتها ـ برغبة أو بدون ـ بصناعة الظاهرة الطالبانية، إن صح التعبير، من جهة إيجاد قاعدة مبررات فكرية، والمساهمات المالية، والإعتراف السياسي.
 
ولا يخفى أن الولايات المتحدة وضعت الأنظمة الخليجية أمام تحدٍ خطير، فالوقوف غير المشروط معها ووفق معاييرها في تعريف الأرهاب وضمن الخطة التي ترسمها والغاية التي تسير باتجاهها، يعني على الأرجح صداماً بين الحكومات وشعوبها يكون الخاسر الأكبر فيه، أنظمة الحكم نفسها. ولا يبدو أن الولايات المتحدة مهتمة كثيرة بهذه النتيجة، أو على الأقل غير مبالية بأية نتائج تترتب عليها، رغم أنها لا تخدمها على المدى البعيد. ومن المدهش، أنه في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات الخليجية الموازنة قدر الإمكان بين الوقوف مع الولايات المتحدة في سياسة مكافحة الأرهاب، وبين تجنّب غضبة انفجارية للشارع الخليجي، باستخدام خطابين محلّي ينزع لإدانة الإرهاب، ويرفض الهجوم على أفغانستان، وخارجي يميل الى التكتم والصمت عن الدعم المقدم للقوات الأميركية من تسهيلات عسكرية في أراضيها.. لا ترى الولايات المتحدة في هذه السياسة من حكمة، وتدفع بالحكومات الخليجية للإصطدام المباشر مع شعوبها.
 
في مسقط سُمح لمتظاهرين بالتعبير عن معارضتهم للهجوم على أفغانستان، وفي السعودية ندد علماؤها بتلك الحرب دون السماح للغضب الشعبي بالتنفيس، وفي قطر كانت صلوات الجمعة وخطبها مكاناً لامتصاص السخط والإحتقان الداخليين، وهكذا. ولكن وكما قلنا، فإن الولايات المتحدة، تريد موقفاً حاسماً لا يتخفّى ولا يوازن، مبدؤه من ليس معنا فهو مع الإرهاب، موقف لا تراعى فيه القوانين المحلية ولا الأخلاقية ضد من يعترض على الموقف الأميركي، مثلما فعلت السلطة الفلسطينية بقتل متظاهرين، حيث قوبل ذلك باشارة ثناء من الرئيس الأميركي بوش، ومثلما تدخلت في مسألة محاكمة المتهمين في اليمن في حادثة تفجير المدمرة كول.
 
 هذا كلّه يعني أمراً واحداً، هو أن المعايير الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها، والدعوات المتعالية من أجل تطوير العملية السياسية في الشرق الأوسط وتخفيف وطأة أنظمة القمع، ليست محل اعتبار في الوقت الحالي. هناك من يعتقد في دول الخليج بأن الأحداث الحالية تقدّم فرصة مثالية لإحداث تغيير كبير في مسار العملية الديمقراطية وخاصة بين تلك الدول التي تسير ببطء السلحفاة نحوها، كالمملكة. ويرجع هؤلاء الأمر الى أن المناخ المحتقن بحاجة ماسّة الى تنفيس قبل أن ينفجر بوجه صانعيه، ومن جهة أخرى، فإن الأحداث الأخيرة أتاحت للحكومات الخليجية فرصة للتعرف على جذور العنف لديها، وأنها بالتالي لن تجد حلاً لتلك المشاكل سوى في إعادة النظر في هياكلها السياسية والإقتصادية والإعلامية. ويضاف الى ذلك، أن أحداث واشنطن ونيويورك، سبّبت قلقاً بين المسؤولين الخليجيين لم يشعروا به من قبل، فالولايات المتحدة لم تظهر هذه المرّة بمظهر الحامي للأنظمة الخليجية بل بمظهر المؤدّب المهدّد الآمر باتخاذ نهج معين، وهي في نفس الوقت تتعرّض لتهديد غير عادي من قوى استطاعت أن تهزّ أعماق الولايات المتحدة نفسها فكيف بها هي؟ ويرى أصحاب هذا الرأي أن سيادة هذا الشعور سيجعل الدول الخليجية تميل في المحصّلة النهائية الى الإصلاح الداخلي كوسيلة أولى لتحصين نفسها أمام المخاطر التي تبدو اليوم داخلية أكثر من كونها خارجية (الخطر العراقي أو الإيراني) باستثناء الكويت ربما.
 
لكن هناك رؤية أخرى غير متفائلة بإمكانية الإصلاح السياسي في الظروف الراهنة. فالولايات المتحدة تدفع بضغوطاتها وتهديداتها الى صدام بين الحكومات الخليجية والعربية بشكل عام مع شعوبها، وقد تجلّى ذلك في موجات اعتقال لناشطين سياسيين في أكثر من بلد عربي، تلك الحملات كانت في أكثرها خلاف القانون وما كانت لتحدث لولا الضغوط الأميركية. ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة إن لم تكن تشجّع مباشرة على هذه التجاوزات فإنها ستغض الطرف عنها طالما هي في صراع شامل مع من تعتبرهم (أعداء أميركا). لا يوجد في أجندة الولايات المتحدة الآن ولا في المستقبل المنظور، حسب القائلين بهذا الرأي، سوى موضوع واحد: القضاء على مصادر الإرهاب التي ترى أنها تكمن في الحركات الإسلامية. ووفق هذا، فإن أكثر من بلد عربي مرشّح لتصاعد المواجهة، إما تجاوباً مع ما تريده الولايات المتحدة، أو إستغلالاً من قبلها للحالة الدولية الجديدة لتصفية حساباتها مع خصومها. وفي مثل هذا الجو، فإن دعوات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير لن تكون إلاّ في آخر قائمة الإهتمامات. ويستشهد أصحاب هذا الرأي، بالموقف الغربي (المنافق) تجاه الرئيس مشرّف، الذي كان عدو الديمقراطية بالأمس، فأصبح نصيرها ـ في موطنها الغربي ـ اليوم. لا أحد يهتم كثيراً الآن بين الحكومات الغربية (ولا يشمل هذا المنظمات غير الحكومية) بمصير مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ يجوز التضحية بها كما كانت العادة، الى أن يحل معضل الإرهاب.
 
ويرى أصحاب هذا الرأي، أن هناك خشية على (أنوية) التوجهات الديمقراطية في بلدان الخليج والجزيرة العربية، وأهمها البحرين والكويت واليمن، ففي هذه الدول الثلاث، جرت اعتقالات وأسقطت جنسيات، وخرق القانون دون أن ينبس أحدٌ بشفة، وإلا أصبح إرهابياً هو الآخر. وفي بلد مثل السعودية، التي لم تخطو بعد خطواتها الإصلاحية السياسية الأولى، وحيث لا يوجد إنجاز سياسي يخشى عليه، كما لا يوجد أملٌ واضح بحصول تطور قريب بشأنه، تكمن الخشية الحقيقية في انجرار الحكومة والبلاد برمتها نحو العنف. فأقل خطأ يُرتكب أو سياسة خطأ تمارس دون مراعاة المشاعر الداخلية قد تأتي بكارثة غير محسوبة.
 
أياً كانت الإحتمالات الناجمة عن المحافظة على التوازن الصعب، بين مشاعر الجمهور وطموحاته، وبين متطلبات السياسة الأميركية، فإن دول الخليج ـ مع اختلاف النسب بينها ـ تريد أن تتبرّأ من مسؤوليتها أمام العالم وربما أمام شعوبها من أحداث العنف التي هزت أميركا حيث المساهمة الخليجية فيها واضحة وذلك من خلال انتهاج سياسات يخشى أن تكون مغالى فيها. ومن جهة ثانية تريد أن لا تنعكس آثار التفجيرات والحرب القائمة عنفياً على الوضع الداخلي. ربما أمام كل دول الخليج فرص الهرب من العنف المحتمل، كل حسب قنواته السياسية والتعبيرية، فالأكثر انفتاحاً ربما يكون الأكثر أماناً (الكويت والبحرين)، والأكثر مرونة في الإستجابة لضغط الشارع وتنفيس احتقانه قد يكون الأقدر على إدارة الشارع وضبطه، كما أن الأكثر صراحة في إعلان التوافق مع الولايات المتحدة ودعمها، قد يكون الأكثر تعرضاً لمخاطر العنف.
 
 
 

copy_r