عندما بدأت تهب نسمات الربيع العربي استقبلتها صدور ما يقارب 300 مليون عربي
معللة النفس بأنها فاتحة تغيير قد تطال الدول العربية من المحيط إلى الخليج
يستبشرون بنعمة من الله وفضل يغدقه عليهم بعد أن منَّ على أهل تونس ومصر ومن
بعدهم ليبيا، وآخرين لما يلحقوا بهم في سوريا والبحرين واليمن وغيرها من
البلدان التي تحمل إرهاصات بتغير قادم، تلك النسمات سرعان ما قابلتها المملكة
بالرفض وجندت المنابر الدينية والإعلامية للوقوف في وجه أي حركة احتجاجية
محتملة، وساعدها وأسعدها عدم تفاعل المواطنين في السعودية مع تلك الدعوات إلا
فيما ندر، فالتيار الديني سلط سلاحه على الديمقراطية منطلــــقاً من أنها
تتعارض مع (الحاكمية) من وجهــــة نظـــر الإسلامية بالتفسير السلفي لها، بما
ينفي الحاجة لأي شكل من أشكال حكم الشعب لنفسه لما فيه معارضة لحكم الله عز
وجل، فالحاكم وفق هذا المنهج خليفة الله على خلقه وولي أمرهم وعليـــهم السمع
والطاعة وإن كان منه ما يكرهوا ، سانده في ذلك أبواق الإعلام المتملق تحت
طــــائل أن ما عندنا أفضل من الأفكار المشبوهة التـــغريبية ونكــــتفي بسياسة
(الأبواب المفتـــوحة) التي دأب عليها ولاة الأمر في المملكة ويتغنون بها ليس
كبديل عن الديمقراطية بل كونها أفضل منها أو تضاهيها .
وكتب أحدهم بطريقة أساءت لكل المجتمع السعودي وليس للمثقفين فقط عندما ذكر في
مقالته ان 'المثقف التقليدي 'البرجوازي السعودي، الغارق في أوهام الاستحقاقات
السياسية المستعجلة، يحصر الديمقراطية بوعي أو من غير وعي في صناديق اقتراع
متنوعة، ومتجاهلا أهمية العمل قبل ذلك على البنية التحتية الثقافية والاقتصادية
والاجتماعية التي تضمن فاعلية الوعي بدور هذه الصناديق.
وذاكرتنا ما زالت طرية كسعوديين في هذا السياق، فتجربة الانتخاب الجزئي للمجالس
البلدية ليست ببعيدة. والأسلوب الكارثي الذي أديرت به تلك الحملات الانتخابية
أنبأ عن خلل حقيقي في فهم دور المجالس البلدية. نحن أمام خيارين في السعودية،
إما حرق المراحل الإصلاحية لصالح مثقفي البرجوازية التقليديين الباحثين عن
مكتسبات ودور في المشهد، وإما السير بـ'رتم' واضح مع عجلة الإصلاح القائمة على
تدعيم البنية الاقتصادية والخدمية، لتكون مصدر قوة في استكمال خلق المناخ
السياسي في السعودية، الذي سيسهم في تطوير وعي الفرد باحتياجاته ومن يملك
القدرة الحقيقية في التعبير عنها.'
غير أن كل بصير لا يعييه استخراج أخطاء النص السابق، وسأورد مجموعة من تلك
الملاحظات فيما يلي :
ـ تعتبر الديمقراطية كنظام وفق الباحثين من أقل النظم السياسية أخطاء وأنجعها
في تمثيل الطيف الوطني، فمقارنة الديمقراطية بأي نظام آخر لا يأخذ بالأدوات
والركائز التي تعتمد عليها من تكافؤ الفرص والمشاركة في صنع القرار عبر الوسائل
التي تجمع الأكثرية على تبنيها، وإطلاق الحريات وصيانة الحقوق الفردية، والحق
في التنظيم والمشاركة في الجمعيات السياسية والاجتماعية (الأحزاب)، وتداول
السلطة بشكل سلمي وإفساح المجال أمام قيام معارضة حقيقية تتمتع بحقوق كاملة مع
إمكانية وصولها إلى سدة الحكم . واعتبار الديمقراطية ترف فكري يتم تداوله من
ثلة المثقفين الطامحين للوصول للسلطة لا يمكن أن يحفر خندقا وإن ساهمت كل أمم
الأرض بين الديمقراطية والحرية وبين الساعين لتحقيقها على أرض الواقع .
ـ أن المجتمعات الفقيرة والبدائية تبنت الديمقراطية في بناء أنظمتها السياسية
ولم يمنعها تخلف كثير من المجتمع أو بعضه علميا وثقافياً في حجب ذلك الحق، فها
هي الدول الأفريقية الفقيرة ودول أسيا النامية والتي تنتشر فيها أمراض الأمية
والفقر تمارس حقها في التعبير بالأدوات الديمقراطية (الانتخابات الإعلام تكوين
الأحزاب تداول السلطة ....) دون أن يمارس أحد الوصاية عليهم، ويمكن عرض عشرات
النماذج لذلك من أندونيسيا إلى فيتنام والهند التي تعتبر أكبر ديمقراطيات
العالم وغيرها .
ـ الدولة مسؤولة عن عدم النضج المطلوب للاستناد إلى الديمقراطية كنظام يحكم
العملية السياسية إن كان ما يقال عن عدم النضج وارد، فهذا أحد الصحفيين يلقي
بالمسئولية على وزارة التربية والتعليم في عدم النضج المزعوم ، إلا أن
المسؤولية تقع على عاتق جميع وزارات الدولة، والحقيقة أن عدم الجهوزية تكمن في
صاحب القرار والذي لم يستعد بعد للتنازل عن بعض من سلطاته لا المواطن المستعد
جديا لتحمل مثل هذه المسؤوليات.
ـ ونسأل كيف يكون المواطن ناضجا ومحققا للشروط لاستخدام أداة من أدوات
الديمقراطية (الانتخاب المباشر ) للمجالس البلدية الجزئية، وغير ذلك عندما
يتعلق بصنع القرار الوطني في الشأن السياسي والاقتصادي والسيادي تحت قبة
المجالس المحلية والبرلمانية (الشورى)؟، فإذا كان المواطن ناضجا، لما أعطي حقه
في اختيار مجالسه البلدية ومنع من حقه في اختيار من يمثله ويحقق مصالحه في
المجالس المحلية للمـــناطق، وكذلك من يمثله في مجلس الشورى؟، غير أننا جميعا
نعلم أن المواطن بات قادرا على ممارسة حقه في اختيار من يمثله في كل المجالس
والهيئات التي تتطلب رأيه أو رأي من ينيبه . ومقاطعة فئة كبيرة من المواطنين
للانتخابات الجزئية للمجالس البلدية جاء على خلفية ثلاثة محاور هي:
ـ أن المجالس البلدية السابقة والتي سعى أغلب من يستحقون التصويت للإدلاء
بأصواتهم، لم تكن تمتلك الصلاحيات المأمولة، مما تسبب بحالة من الإحباط نالت من
حماس الكثير ممن قاطعوا الانتخابات البلدية في دورتها الثانية، والتي يقدر
مستوى المشاركة بما يقارب 10' من مجموع من يحق لهم التصويت، والذين بدورهم
يمثلون ما يقارب 10' من مجموع مواطني المملكة على أقصى تقدير، أي أن نسبة من
اقترعوا أقل من 1' من المجموع الكلي لعدد السكان.
ـ أن كثيرا ممن شاركوا في الانتخابات البلدية في دورتها الأولى كانوا يأملون في
أن تكون تلك الانتخابات فاتحة لانتخابات أخرى على مستوى المناطق لاختيار مجالس
المناطق، ومن بعدها انتخاب ممثليهم في مجلس الشورى.
ـ إقصاء المرأة من المشاركة في الانتخابات البلدية في دورتها الثانية كان له
تأثير سلبي على مستوى المشاركة، والذي كان من المفترض أن يخلق مناخا إيجابيا
للمشاركة الفاعلة وخاصة من الجانب النسائي.
حقوق الإنسان والانتخابات والتعددية والمواطنة والحرية وفصل السلطات ومؤسسات
المجتمع المدني وتكوين الجمعيات السياسية وغيرها من أدوات الديمقراطية التي
نريد، والتي نريد أن ننعم بها ويتنعم في ظلها الأبناء، لعدم وجود مكان لما سبق
في غير ظل نظام ديمقراطي لا يتنكر للدين والذي يعتبر عصب حياتنا الفردية
والاجتماعية.
القدس العربي