التخلص من عبء المشكلة الأمنية أراح الحكم، والتلكؤ في تحقيق المطالب يتعب الشعب.
بغض النظر عن الدوافع والأهداف التي حركت أمير البحرين، الشيخ حمد بن عيسى آل
خليفة لطرح مشروعه الإصلاحي، فان الخطوات التي قام بها حتى الآن تعكس شجاعة
متميزة في اتخاذ القرار وتقديرا موضوعيا للوضع السياسي المتأزم في البلاد.
وبالتالي فمن الضروري النظر إلى الخطوات الإصلاحية التي تحققت حتى الآن من
زاويتين: الأولى أنها تعبير عن إرادة قوية لدى الحاكم في اتخاذ القرار،
والثانية أنها استجابة عقلانية لمطالب عادلة من شعب مناضل لم يستسلم لمنطق
القمع والظلم على مدى ربع قرن. وبرغم هذه الحقيقة هناك عدد من الملاحظات
المرتبطة بهوية النضال الوطني وأهدافه وما إذا كانت تلك الأهداف قد تحققت منذ
تسلم الأمير مقاليد الحكم بعد وفاة والده في مارس 1999. ويمكن القول إن مشروع
الإصلاح الذي طرحه الأمير لا يزال يتأرجح بين الاستجابة للمطالب الشعبية
العادلة المتمثلة أساسا في إقامة حياة سياسية على أساس دستور البلاد للعام 1973
والانصياع لضغوط الحرس القديم الذي مازال مسيطرا على مفاصل الدولة ويعارض
الإصلاح. هذا التأرجح أدى إلى تعميق حالة الشك في نفوس المواطنين الذين يلاحظون
تلكؤا واضحا في المشروع الإصلاحي، ويلاحظون كذلك اقتصار المنجزات حتى الآن على
التعاطي مع الحالة الأمنية التي شوهت سمعة العائلة الحاكمة في المحافل الدولية
خصوصا في العقد الأخير. فقد ارتبطت صورة حكومة البحرين خلال الحقبة السوداء
الممتدة ما بين 1975 عندما صدر القرار المشؤوم بتعليق العمل بالدستور وحل
المجلس الوطني، ومطلع هذا العام،بالسجن التعسفي لآلاف المواطنين وممارسة
التعذيب على نطاق واسع، وابعاد أبناء البحرين قسرا وتسليط قانون أمن الدولة
ومحكمة أمن الدولة على رقاب الشعب والاستعانة بالمرتزقة الأجانب وفى مقدمتهم
السيئ الصيت ايان هندرسون لقمع المواطنين، و برغم جهود الحكومة للتعتيم
والتشويش على الحقائق، فقد أصبحت تلك الحقائق موثقة في المحافل الدولية، وفشلت
الحكومة في تغييرها. وفى غضون بضعة أشهر استطاع الشيخ حمد تغيير تلك الصورة عبر
خطوات محدودة أهمها إطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بعودة المبعدين
وإلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة. والى هنا يبدو أن مسيرة الإصلاح قد
توقفت. فلم يصدر عن الحكم حتى الآن أية إشارة لإعادة العمل بالدستور أو انتخاب
المجلس الوطني، أو السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، وان كانت ثمة خطوات مشجعة
قد اتخذت مؤخرا تمثلت بالسماح بتشكيل جمعيات سياسية مسجلة لدى وزارة العمل،
ومرة أخرى يتأكد الشد والجذب بين طرفي الحكم: الأمير ومعه ولى العهد من جهة
وجهاز الحكومة ومعه بقية طاقم الحرس القديم المسؤول عن اشد المراحل سوادا وقمعا
في تاريخ البحرين، وثمة مؤشرات مقلقة لتوجه خطير لدى السلطة يتمثل بتغييرين
جوهريين من شانهما، إذا نفذا، أن يقضيا على المشروع الإصلاحي برمته، فما هي
المؤشرات، وما هما التغييران ؟.
الواضح لمن يراقب الأمور في هذه الجزيرة الخليجية الصغيرة أنها ما تزال حتى
الآن محكومة بالأوامر الأميرية بشكل مطلق. فالقرارات المهمة لا تصدر إلا بقرار
أميري وليس من أية جهة تشريعية منتحبة. وبالتالي فحكم القانون ما يزال غائبا.
ويمكن طرح الأعذار لذلك إذا توضحت صورة المستقبل وشكل الحكم المزمع إقامته. أما
الآن فان اقتصار صدور القوانين المهمة على القرارات الأميرية، يشكل ظاهرة
مقلقة، خصوصا انه يكرس ظاهرة (المجالس المفتوحة) التي كانت عنوانا للعلاقة بين
الحكم والشعب بعيدا عن دولة القانون. يضاف إلى ذلك أن بعض التشريعات المهمة مثل
قانون الانتخابات البلدية تقر من قبل مجلس الشورى المرفوض شعبيا والذي يمثل
واحدا من دعائم الحقبة السوداء. وما يزال المسؤولون يتكتمون على معالم المشروع
الإصلاحي في ما يتعلق بإعادة العمل بدستور البلاد والانتخابات البرلمانية. وفى
هذا الإطار هناك غموض يدفع إلى التكهنات المرعبة أحيانا.هذه التكهنات تقول بان
العمل بالدستور سوف يتحقق مستقبلا، وان الانتخابات التشريعية سوف تتبع ذلك،
ولكنها لا توضح أي دستور سوف يعمل به، ومن هم المواطنون الذين سيشاركون في
العملية الانتخابية ؟ وفى سياق هذا النقاش ثمة ملاحظات تبعث على القلق منها ما
يلي:
1- بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني ( وهو إجراء غير دستوري وغير ضروري في
بلد له دستور اكثر تقدما وتكاملا وحرية من الميثاق ) عينت لجنتان أساسيتان هما
لجنة تفعيل الميثاق، ولجنة تغيير الدستور. وفيما انحصرت مهمات الأولى في إعادة
النظر في القوانين والإجراءات المحدودة وغير ذات التأثير، وما يزال
الغموض يلف طبيعة المهمة التي أوكلت إلى الثانية. فتغيير الدستور لا يتم إلا
وفق آلية حددتها إحدى مواده (104) وهى تحصر صلاحية التغيير بالبرلمان المنتحب
وليس بأي آلية أخرى. والواضح من اسم اللجنة المذكورة التي يترأسها وزير العدل
أن مهمتها تغيير الدستور خارج الآلية المنصوص عليها في المادة (104) وفى ذلك
انتهاك كبير للدستور، ومحاولة للالتفاف على المطلب الشعبي الجوهري الذي قدمت
التضحيات الكبيرة من اجله. وقد أحيطت مهمة لجنة تغيير الدستور بالسرية المطلقة.
فلم ينشر عنها شئ في الإعلام المحلى ولم يذكر شئ عن اجتماعاتها ومهماتها. ولا
يستبعد أن ينجم عنها دستور جديد يفتقر إلى روح الدستور الأصلي وتختفي منه
المواد الدستورية التي تحمي الحريات العامة وتحدد صلاحيات السلطات التشريعية
والتنفيذية والقضائية، وصلاحيات الأمير. فإذا حدث ذلك فسوف تكون السلطة قد
تحايلت على المطب الجوهري للشعب وفرضت عليه دستورا مغايرا لما هو مطلوب.
والغريب في الأمر أن الإعلام الرسمي قلما يتطرق للدستور، ويركز دائما على
الميثاق الوطني الذي استخدمت أساليب غير نزيهة لتمريرة. ويتوقع استمرار الأزمة
السياسية إذا سعت السلطات لفرض الدستور الجديد بالقوة.
2- لم يعد خافيا وجود خطة واسعة لتغيير التركيبة السكانية للبلاد، وذلك بتجنيس
أعداد هائلة من أجانب ينتمون إلى 24 جنسية وفق المصادر الرسمية. وهذه المسألة
التي تطرح بين الحين والآخر مصدر قلق كبير لشعب البحرين الذي يتوقع أن يصبح
أقلية في بلاده بعد إكمال مخطط التجنيس. ويتم التجنيس حاليا بخطى متسارعة، وفى
غياب أية رقابة مستقلة لما يجري في أروقة دوائر الهجرة والجوازات المكتظة
بالأجانب. وفى مقابل تجنيس عشرات ( وربما مئات) الآلاف من الأجانب، أعيدت
الجنسية لعشرات المواطنين البحرينيين الذين سحبت جنسياتهم خلال الحقبة السوداء.
فكان هناك ارتياح كبير في الأوساط الشعبية لهذا الإجراء، وتم بذلك التعتيم على
سياسة التجنيس الرهيبة. فالحكم هنا يعطى قليلا ويأخذ أضعافا مضاعفة. وعندما
يقرر الحكم الشروع في التجربة البرلمانية سوف يكون الوضع قد تبلور وفق ما تريد
السلطة، الذي سيكون هناك دستور بلا روح ومختلف تماما عن الدستور الحالي، وشعب
جديد أعيدت تركيبته السكانية بالشكل الذي يضمن للحكم ما يريد، ويسلب الشعب
موقعه المناسب في السلطة التشريعية. يتم ذلك ليس في ظل قانون أمن الدولة وبقية
الإجراءات التعسفية بل هو في ظل (انفتاح) استطاع مصادرة الإرادة الشعبية
بالمكرمات المتتالية وفى غياب آلية للمحاسبة العامة.مسألة البطالة مستمرة
ومتواصلة. هذه هي الحقيقة التي توصل إليها المواطنون بعد محاولات عقيمة لتغيير
هذا الواقع المر الذي تمثل العمالة الأجنبية فيه اكثر من ستين بالمائة. وتفسر
هذه الحقيقة بأنها محاولة لإبقاء العمال البحرينيين أقلية في سوق العمل، وذلك
لسلب العمال البحرينيين القدرة على اتخاذ مواقف سياسية تضغط على الحكم، كما حدث
في الخمسينات والستينات والسبعينات.ولذلك بقيت أزمة البطالة مستمرة بسبب غياب
الرغبة الحقيقية لدى الحكم في تسريح العمال الأجانب. هذا مع أن الاستغناء عن
10بالمائة من العمالة الأجنبية فقط يفتح المجال أمام جميع العاطلين عن العمل
البحرينيين، وهو إجراء لا يريد الحكم القيام به. وللتشويش على الحقائق، يتم
اشغال العاطلين عن العمل بروتين متواصل يشير سطحيا إلى وجود رغبة في توظيف
العاطلين عن العمل ولكنه في الواقع يكرس الظاهرة لكي يستعملها في المراوغة
السياسية لا حقا. ولذلك فقد غاب القرار الحاسم من جانب الحكم لوضع حد للعمال
الأجانب، وحلت محله الوعود والتصريحات المعسولة، وتقديم دعم رمزي لبعض العاطلين
عن العمل لتخفيف معاناتهم. فهناك استعداد لتقديم شيء من الدعم المالي، ولكن ليس
هناك استعداد لإحداث التغيير المطلوب في السياسية التوظيفية لان ذلك مرتبط
باستراتيجية الحكم.
لاشك أن التطورات الإيجابية في المجال الأمنى قوبلت بترحيب شعبي نظرا لما تنطوى
عليه من أهمية لشعب عانى طوال ربع قرن من سياسات القمع والاضطهاد. ولكن ما ليس
واضحا بعد هو مدى استعداد الحكم لقطع المسافة الطويلة الباقية على طريق الإصلاح
للوصول إلى الوضع المرتقب والمطلوب شعبيا ودوليا. وليس واضحا مدى استعداد الحكم
للتخلي عن مشروع تغيير الدستور بوسائل غير شرعية، أو إعادة التركيبة السكانية
للبلاد بشكل جذري، أو اتخاذ القرار بخفض العمالة الأجنبية بنسبة ضئيلة وذلك
لحماية العامل البحريني. هذه أمور غامضة تبعث على القلق وتدفع للتشاؤم وتطرح
نفسها للنقاش خصوصا في أوساط الاتجاهات السياسية المتبعة.
فهل ثمة أمل ؟ لاشك، لكن التشاؤم اصبح عنوان المرحلة، والشك أحيانا وسيلة للبحث
عن الحقيقة.