منذ أكثر من سبعة شهور تعيش البحرين حالة فوران غير مسبوق في تاريخها الحديث
, وهو فوران وإنْ جاء في سياق الثورات العربية المتتالية , فإن ما يحدث في
البحرين ليس صدى لتلك الثورات, ولا عدوىً ثورية , إنما مرتبط في المقام الأول
والأخير بأسباب وأوضاع داخلية سلبية ومتراكمة منذ عشرات السنين .
إنه تحرك شعبي ثوري أصيل صناعة بحرينية مئة في المئة , خاصة وأنه ليس الأول من
نوعه , فتاريخ هذا البلد الحديث والمعاصر يشهد بأن الحركة السياسية المطالبة
بالإصلاح وتقنين العلاقة بين الشعب والحكم على أسس حديثة وتعاقدية تعود إلى
بداية العشرينات من القرن الماضي ( بداية تشكل الدولة الحديثة في البحرين ) ,
لكن بالتأكيد أن هذا الحراك الأخير منذ 14 فبراير الماضي حتى الآن, هو الأول من
نوعه من حيث الكم والنوع والزخم الشعبي , ومن حيث المطالب المرفوعة .
هذا وعلى الرغم من أن الحركات السياسية والشعبية المتعاقبة, السرية والعلنية
منها وبكل توجهاتها كانت تتحرك ضمن سقف إصلاح النظام القبلي ومحاولة عقلنته
والحد من عقليته القائمة على ثقافة الغنائم والأسلاب ومنطق الغلبة والسيف
المتوارث من الأجداد الأوائل, إلا أن كل تلك المحاولات قد باءت بالفشل وبدأ
الحكم سيرته الأولى , وكان آخر هذه الحركات الاحتجاجية , تلك التي جرت بين سنة
1994وسنة 2000 وهي التي تمخض عنها ما عرف بالمشروع الإصلاحي الذي دشنه ميثاق
العمل الوطني سنة 2001. ومع أن الالتزام بالميثاق الوطني من قبل النظام كان
كفيلا بإنجاح المشروع الإصلاحي إلى حد ما, إلا أن التلاعب بالميثاق وبنصوصه
الملغمة من قبل النظام وتفسيره على هواه, وإصدار دستور جديد عرف بدستور 2002
وهو على النقيض من دستور 1973 التعاقدي والذي تم الانقلاب عليه مرتين : مرة في
منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما حُل المجلس الوطني وأعقبته حملة قمع
شديدة, خاصة في الأوساط اليسارية والتقدمية والقومية, ثم الحركات الإسلامية تحت
طائلة قانون امن الدولة الرهيب, ومرة ثانية في بداية الألفية الجديدة عندما ثم
إلغاؤه بإصدار دستور 2002 المنحة من قبل الملك ودون أخذ رأي الشعب ( استفتاء
مثلا ) كل ذلك ادخل البلاد في مرحلة جديدة من خيبة الأمل في جدوى الإصلاح, ومن
ثم التوتر بين القوى المجتمعية الفاعلة بأطيافها ودرجاتها من جهة, والنظام
وأعوانه من جهة أخرى.
ومنذ اللحظة التي بدا فيها العهد الجديد أنه يحاول الخروج من ارث العهد القديم
وتفاءل البعضُ من ذوي النوايا الطيبة بأن البحرين قد دخلت مرحلة جديدة من
الإصلاح السياسي ( أطلق عليه المشروع الإصلاحي للملك ) بدت علامات كثيرة على
الطريق تؤشر لكثير من السياسيين والمحللين والمفكرين والمثقفين, بأن ما هو
مطروح لا يعدو كونه إصلاحات شكلية لا تمس جوهر النظام , ولا بمن يقرر فيه ، ولا
بامتيازات القبيلة المتمثلة في السلطة والثروة , وليس له علاقة بما يقرره
الميثاق من قيام مملكة دستورية على غرار الممالك الدستورية الديمقراطية
العريقة. فشتان بين مملكة البحرين بنظامها القبلي الاستبدادي وبريطانيا أو
السويد بمملكتيهما الدستوريتين الديمقراطيتين العريقتين والحديثتين.
اجل, منذ البداية كانت تشير الدلائل إلى أن المشروع الإصلاحي استلت منه روحه,
وولد ميتا ولم يبق منه سوى الاسم , رغم احتفاءات واحتفالات النظام به .
وقد أثبتت وقائع عشر سنوات أن ما حدث في البحرين ليس سوى مزيد من الاستبداد
والقمع الممنهج والنهب المنظم واستشراء الفساد وإصدار القوانين المعيقة
للممارسة الديمقراطية والكابحة لأنشطة المعارضة واختراق مؤسسات المجتمع المدني
وشل حراكها, وإصدار قوانين تحمي المعذبين، مثل قانون 56 الشهير والأدهى من ذلك
اعتماد سياسة التمييز وتخريب البنية المجتمعية البحرينية التي تكون نسيجها منذ
مئات السنين , بمشروع جهنمي هو التجنيس السياسي , أي تغيير التركيبة السكانية
بطريقة سياسية ( للأسف الشديد ) ولأهداف سياسية .
حقا لقد مرت البحرين بعشر سنوات عجاف من سوء في العلاقة بين الشعب والنظام ,
وللأمانة وللتاريخ , حاولت خلالها المعارضة بكل أطيافها تعديل مسيرة الإصلاح
ووضعها على السكة السليمة , وفي سبيل ذلك طرقت مختلف الأبواب وحاولت استخدام
شتى السبل والوسائل السلمية من اجل بحرين جديدة يحكمها دستور عقدي نابع من
التقاء إرادة الحكم والشعب ، حتى أن بعض هذه القوى طرحت مشروعا متكاملا لحوار
وطني شامل بين الحكم والمعارضة , ولكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل , ورُفضت
من قبل النظام . وقد اظهر النظام من خلال إدارته للازمة المستفحلة أنه غير
مكترث بمطالب الشعب , ولا بمطالب المعارضة , ومؤكداً في الوقت نفسه على أن من
يريد الإصلاح عليه أن يلتحق بمؤسسات النظام وفي مقدمتها المجلس النيابي, وأن
يعمل وفقا لدستور 2002 , والذي أثبتت الأيام وعلى امتداد عشر سنوات من '
الإصلاح ' أن المجلس المذكور ليس سوى ديكور, ولا يحل ولا يربط , ولا يستطيع أن
يفصل موظفا من عمله , فكيف باستطاعته أن يحاسب وزيرا أو يحجب الثقة عن حكومة أو
يحاسب رئيسها .وأن الدستور ليس سوى وثيقة مفصلة على مقاس الحكم , وليس على ما
يريده الشعب.
وبعد مرور عشر سنوات وصلت كل أطراف المعارضة, التي شاركت في البرلمان الكسيح
والتي لم تشارك - حيث استشعرت عدم جدواه منذ البداية في ظل دستور غير متوافق
عليه - وصلت كلها إلى قناعة بأن إصلاح الحال من المحال, وأن إصلاح النظام غير
ممكن بحسب الوسائل المتاحة, مع اقتناعها الشديد بأهمية الإصلاح في النظام، وليس
تغييره، بأنه الطريق الأنسب للبحرين .
ولكن من خلال الوقائع يبدو أن النظام غير قادر على الإصلاح بمعناه العميق
والجدي لأسباب تتعلق به وبتاريخه السياسي, وبطريقة حكمه للبلاد, وببنيته
القبلية التي تأبى الإصلاح. ذلك أن مطالب الإصلاح التي رفعها الشعب البحريني
قبل تسعين عاما هي نفسها التي يطالب بها الشعب في ثورته الأخيرة , ومع ذلك فإن
النظام لم يستطع على امتداد قرن من الزمان أن يقوم بما هو مطلوب منه من اجل
بناء الدولة الحديثة وتنظيم العلاقة بينه وبين الشعب في صيغة دستورية متفق
عليها , فمتى إذنْ يستجيب؟.
هذا هو السؤال الجوهري الذي تطرحه المعارضة بكل أطيافها ، وفي مقدمتها حركة 14
فبراير. وهي الحركة الشعبية الشبابية التي أثبتت قدرتها على الاستمرار وإدارة
الصراع المميت مع النظام على امتداد 7 شهور , حيث وصلت إلى قناعة أن منطق إصلاح
النظام غير ممكن , فكان فحوى مطالبها منذ دعوتها الأولى للاحتجاج على مواقع
التواصل الاجتماعي هو الثورة على النظام, لأنه غير قادر على الإصلاح, فكان شعار
الشعب يريد إسقاط النظام هو الشعار المحرك للحركة الجماهيرية السلمية التي بدأت
منذ 14 فبراير الماضي ولا تزال قائمة حتى الآن على الرغم من سياسة القبضة
الأمنية والقتل والتهديد بحرب طائفية .
لقد تفاجأ النظام بحجم الحركة وبزخمها وبشموليتها وبنوعيتها وبارتفاع مطالبها,
لذلك طرح مبدأ الحوار وهو المبدأ الذي كان يرفضه على طول الخط , في حين أن
المعارضة كانت تطالب النظام على امتداد سنواتٍ عشرٍ بالحوار للخروج بالبلاد
والعباد من ورطة النظام القبلي, إلا أنه ما من مجيب حيث تقابل دعوات المعارضة
للحوار بالرفض المطلق وغير المبرر من قبل الحكم . ولكن ما هي إلا أيام قلائل في
صبيحة 16/3/2011 وإذا بالنظام يظهر على حقيقته ويقوم بعملية ' تطهير' ساحة دوار
اللؤلؤة من المحتجين المسالمين , ومن الذين من المفترض أن يتحاور معهم.
نعم هنا يحق للمرء أن يتساءل ما هذا النوع من الحوار الذي يتوسل بالنار
والبارود؟ , ليصل إلى إجابة/ قناعة : أن النظام لم يكن في وارد الحور , ولا
يريد الحوار , إنما في وارد ترتيب أموره من جل الانقضاض على الحركة الشعبية في
الدوار ظنا منه بأنه بالقمع والقبضة الأمنية سينهي الحركة, وكأن شيئا لم يكن,
وبدعم من حلفائه الإقليميين والدوليين وكفى الله المؤمنين شر القتال.
واعتقد أنه إذا كان هناك من حوار فهو بشروطه هو, وبطريقته هو, وعلى أن يكون هو
خارج اللعبة , فقام بعقد ما سمي بمؤتمر التوافق الوطني طيلة شهر يوليو الماضي,
هذا المؤتمر الذي لم يستطع اجتراح حل الأزمة البحرينية , بل زادها تعقيدا
وتأزيماً. لأنه أضاع المطالب السياسية الحقيقية للشعب البحريني وقواه الفاعلة
في متاهات لا طائل من ورائها .
إلا أن الوقائع والأحداث واستمرار الحركة الشعبية تكذب سياسات النظام وتثبت فشل
الحلول الأمنية والحوارات غير المجدية وتُدخِل النظام في مأزق غير قادر على
الخروج منه , مما يعمق أكثر فأكثر المطالب الشعبية ويرفع من سقف مطالبها لتتحد
جميعها تحت شعار إسقاط النظام, حتى تلك القوى التي كانت مترددة, وخاصة على
مستوى قواعدها التي هي اقرب إلى حركة 14 فبراير منها إلى قياداتها المتلونة
وصلت إلى قناعة أن الإصلاح غير ممكن.
في ظل هذه الشعارات والمطالب الشعبية بات الحكم في البحرين بين حدين من المطالب
أحلاهما مر بالنسبة للنظام . المطالب الشعبية في الحد الادني وهي إصلاح جذري
على أساس ملكية دستورية بكل ما يعنيه المفهوم السياسي للملكية الدستورية بمعنى
أن الملك يملك ولا يحكم كما هو معروف في الملكيات الدستورية العريقة مع احتفاظه
بموقع رمزي للدولة وحسب ما ورد في ميثاق العمل الوطني والتف عليه الحكم. أو
المطالب الشعبية في حدها الأقصى : وهي إسقاط النظام وما يترتب على ذلك من نتائج
, حيث طرحت بعض أطراف المعارضة إقامة النظام الجمهوري .
إن النظام قد أضاع على نفسه فرصا كثيرة حيث كان بإمكانه أن يكتفي بإصلاح ذاته
بالاتفاق مع المعارضة منذ أكثر من عشر سنوات وفي أثنائها وستقبل المعارضة بهذه
الإصلاحات , لكنه لم يفعل واكتفى بالرفض والمناورة وكسب الولاءات وتشطير
المجتمع إلى ملل ونحل , والاكتفاء بالإصلاحات الشكلية دون الجوهرية .
أما الآن وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من ضحايا ودماء مسفوكة فيبدو أن
التراجع من قبل المعارضة وعلى رأسها حركة 14 فبراير , أصبح من الأمور المستحيلة
, وما على النظام إلا أن يعي هذا الأمر . وهو أن البحرين قبل 14 فبراير هي
غيرها بعد 14 فبراير, وهذا ما اقر به في نفس الوقت ولي عهد البحرين في بداية
دعوته للحوار . وفي ظل المعطيات على الأرض واستمرار الحراك السياسي الشعبي لا
يبقى أمام النظام سوى خيارين لا ثالث لهما مملكة دستورية كحد أدنى , أو السقوط
كحد أعلى عاجلا أم آجلا. ذلك أن الوضع الداخلي والإقليمي وحتى الدولي ليس في
صالح النظام في البحرين .
وفيما يبدو أن النظام في البحرين وإنْ ينتمي جغرافيا وقبليا إلى منظومة الخليج
والجزيرة العربية فحاول الإبقاء دائما على الوضع الراهن كما هو دون تغيير يذكر
, إلا أنه لم يستوعب أن الشعب في البحرين على الرغم من انتمائه لهذه المنظومة
فإنه اقرب في وعيه وثقافته وحركته السياسية ومطالبه إلى حركة الشعوب العربية
منذ بدايات نهضتها الحديثة في مصر والعراق وبلاد الشام حيث المطالب الإصلاحية
ليست جديدة في تاريخ شعب البحرين , بل عريقة وذات تاريخ مشرف.
لذلك فإن الحل للطريق المسدود في البحرين يكمن في تغيير النظام لذاته بما
يتواءم مع المطالب المشروعة والعادلة لشعب البحرين .