عن لجنة بسيوني الناس سألوني..
فقلت فلنصبر ونعي أن العالم ليس ساذجاً يعرفُ ويخّبر.. وكل محاولات الترويج لأن
ما تقوله المعارضة (هريج) هو مجرد تهريج وحبس الحقائق في صهريج لن يقود –
يوماً- لشيء بهيج..!
ودون قرار - بالتراجع والاعتذار- لن تعرف الاستقرار وسندور في دوامة لن ينجو
منها أحد دون أن تسحق عظامه.. ووحده الواهم من يظن أن "الدفدفة" على الزلات
تجنبه الانتقادات وتنأى به عن المسائلات فنحن اليوم على طريق اللاعودة ولهذا
الحديث ستكون لنا عودة..
اليوم نكمل ونتحدث عن ما أبرز الأخطاء وكل ابن آدم خطاء وللخطّاء أن يتوب
ويعترف بالذنوب ليصلح الدروب أما المُنّكر فيصر على التكرار ومصيره النار..
وبئس القرار..
*****
" عندما ترى أن السماء سقفك، والقمر مصباحك وكل من حولك أهلك فتبسم.. أنت في
الدوار "
تداول الرسالة النصية أعلاه التي تختصر واقعاً كثيراً مما يجب أن يقال عن ليالي
التجمهر في الدوار.. فالناس كانت سعيدة ، هكذا دون سبب معلوم، كانت تشعر
بالألفة وبأن حياتها ستتغير وأن حقبة جديدة ستولد.. كل من كان هناك كان لديه
حلم كبير وحلم آخر "على قده" : حلم عاطلة بوظيفة، حلم رب أسره راتبه 200 دينار
بدخل أفضل.. حلم زوج يقطن غرفة مع أطفاله الثلاثة "ويواجه صعوبة في الاختلاء
بزوجته" بمنزل ! حلم بحرينية متزوجة بعربي بجنسية لأبنائها. أحلام وأماني كثيرة
، بعضها بسيط، ولو أن الحكومة استمعت قليلاً، واهتمت قليلاً، لما ضاق الناس بها
وضجوا !
من اغرب " الأحلام" التي سمعتها في جولاتي المسائية كان حلم متظاهرة بالإنجاب
(!!) " تصدقين أني متزوجة من 11 سنة وما عندي أولاد – قالت لي وهي تصك وجهها
بالعباءة – وش أسوي؟ عملية الأنابيب تكلف ألفي دينار ولو صُمنا أنا وزوجي عن
الزاد لن نوفر نصفهم ! زوجي " سكيورتي" في مجمع وطلب مراراً وظيفة في الداخلية
لما عرفنا أن مستشفى الدفاع يوفر هذه العملية –مجاناً- للعسكريين.. أربع سنوات
ونحن نحلم بهذه الوظيفة لتكون بوابتنا لحمل طفل..لكن هذه الحكومة الظالمة تفضل
توظيف السوريين والبلوش والهنود وإغراقهم بالمزايا التي تحرمنا – نحن- أبناء
البلد منها" قالت وقد برزت عروق جبينها من الغضب..
****
لقد أندفع الناس للدوار ليسكبوا أحلامهم الصغيرة في مسرّاب حلم كبير وهو تغيير
رئيس الوزراء الذي يدير البلاد منذ 4 عقود ويُحمّله هؤلاء – شخصياً- مسئولية
المرارة التي تجرعوها لسنوات.. هم مؤمنون بأنه يكرههم؛ وبأنه من همشهم وهاهي
الفرصة قد واتتهم أخيراً ليرفعوا صوتهم ويقولوا له : لا نريدك !!
بالطبع شريحة واسعة من المتظاهرين لم تكن ترى المشكلة فيه -ولا في غيره- بقدر
ما هي في السياسات والدستور والصلاحيات "وهي الفئة التي لم تكن لها - إجمالا-
أحلام شخصية بقدر ما كانت تدافع عن مبادئ عامة" بيد أن صوت هؤلاء بدا خافتاً
مقارنة بصراخ سواهم..
يُقال دوماً أن الصراخ على قدر الألم لذا فإن من تسيدوا الدوار لم يكونوا
القيادات ولا النخب السياسية والفكرية بل جموع المهمشين الذين تسلموا القيادة
ضمنياً.. وتلك كانت المشكلة الأكبر: لقد كانت العربة قبل الحصان.. لقد تجمهرت
الجموع الغفيرة للمطالبة بالديمقراطية والحقوق المسلوبة – نعم- ولكن غياب قيادة
متمكنة ومحنكة جعل عقال الأمور تفرط أحيانا.. ولأن نقطة الحبر السوداء هي أول
ما تقع عليه العين في الثوب الأبيض كنا نطالب الناس دوما بضبط تقولاتهم
وشعارتهم خوفا مما كنا نخشاه وحصل.. ضُخمت الممارسات على حساب الأساسيات..
واتخذت أخطاء عابرة كذريعة لسحق مطالبات عادلة..!
****
مساحة الحرية التي توفرت لأناس عانوا من الكبت لسنوات أفقدت البعض توازنهم ف
فأستغلو فسحة الحرية هذه لإهانة رموز القيادة بشكل نابيً أو بوضع صورهم على
صفائح القمامة أو تشويها.. تلك الممارسات بدرت من قلة ولكنها نفرت كثيراً من
المحتجين وبلغ تأثيرها مداه في السنة بشكل خاص الذين أنقطع بعضهم عن المشاركة
في الدوار لهذا السبب بالذات.. كثيرٌ من هؤلاء يرون تغيير رئيس الوزراء مطلباً
واقعياً -وحتى ملحاً- ولكنهم لم يكنوا ليقبلوا بإهانته كشخص أو كرمز.. فالسنة
في البحرين نشأوا تحت وهم أنهم " الأبناء المدللون" للسلطة وبأن رئيس الوزراء –
حكومته من ورائه- يؤثرونهم ويقربونهم مقارنة بالشيعة.. لذا فَهَمَ هؤلاء ثورة
الناس في الدوار على أنها " مطالبة بتقليص امتيازات السنة وإلغاء تفضيلهم" وأن
الهجوم الشخصي على رئيس الوزراء " انتقام منه لإيثاره للسنة".. لقد جنت السلطة
أخيرا ثمار سنوات من التفرقة بين المواطنين.. فالانقسام حول شخصية بحجم رئيس
الوزراء كان كفيلاً بشق البلاد وتحويل المسألة من حقوقية ومطلبيه إلى طائفية..
فبين فئة ترى رئيس الوزراء رمزاً أبوياً مقدساً يمكن أن يُنتقد – إنما- من هذا
المنطلق لا سواه، ولا يمكن القبول بتنحيته قسراً أو إهانته بأي شكل.. وبين فئة
أخرى ترى رئيس الوزراء رمز لعذاباتها.. لاحظوا أن الناس لا تلوم أمير البلاد
الراحل ولا وزير الداخلية المُقال على ما حصل من تنكيل بالمطالبين بالديمقراطية
في التسعينات بقدر ما يوجهون أصابع الاتهام لرئيس الوزراء نفسه: فهو من أمر
بتعذيبهم ونفيهم وفصلهم وسحقهم وحرمانهم -كما يؤمنون- والهوة بين قناعة الفئتين
هي تحديداً ما أوقع فيه البلاد..
****
الأخطاء تتوالى والإعلام يتربص..
للأمانة التاريخية نقول أن الكثيرين حاولوا لجم هذه التجاوزات منذ البداية
خصوصاً وان ماكينة الإعلام كانت تنفخ في هذه الأخطاء متجاهلة كل ما
عداها..مشادات عنيفة وقعت بين المتظاهرين في الدوار حول الإساءة لرموز القيادة،
عادةً ما تنتهي بانسحاب الشباب الواعي لصالح الأرعن المتهور..ذات ليلة شهدت
الفصول الأخيرة من مشادة بين شاب " لا يعدو عمره الـ22 بالمناسبة" وشابه قروية
– قوية- في نهاية العقد نفسه.. جاء هذا الشاب بقرد وعلق عليه اسم أحد الرموز
القيادية فعابت الشابة تصرفه وطالبته بنزع الاسم فوراً، ردّ عليها بفضاضة ولم
تستسلم فعلا صوتهما وألتف حولهما الناس ! ولولا أنها فتاة لأمتد الشباك للأيدي
بكل تأكيد.. يومها وقف الناس موقفين لافتين:
جماعة دعت " للصلاة على النبي" وتهدئة الموقف فيما اصطفت الجماعة الأخرى مع
الفتاة واستنكرت فعل الشاب الذي لم يدعمه أحد.. وكان السؤال الحاضر وقتها:
لماذا لم ينبس كل هؤلاء بكلمة حتى تكلمت الشابة ؟ انتهت الجولة باختفاء القرد
وتقهقر صاحبه ولكن القاعدة ظلت واحدة: تجاهل الناس تصرفات رعناء لأنهم ركزوا
على أمور أهم واكتفوا بهز الرأس استنكارا جاهلين أن هذه التصرفات العابرة هي ما
سيقصم ظهرهم في النهاية.. وقد رأينا كيف ركض مستثمرو الفتن للدول الخليجية
وتباكوا على تلك المشاهد لعلمهم أن العقلية القبلية التي تتسيد الخليج- ستستشيط
من هذه الممارسات بالمطلق وستتخذ مواقف عنيفة حيالها ..
****
كتبت للناس يوماً " هل تقبلون أن يساء لرموزكم ؟" لو كان الشيخ عيسى قاسم أو
حتى من هم أقل منه مكانة في قلوبكم تعرض للإهانة ووضع صورته على صفائح القمامة
أكنتم ستقبلون بالأمر" مجرد السؤال ، الفكرة بذاتها، أثارت غضب البعض.. وكان
حرياً بهؤلاء التفكير بمشاعر سواهم.. ولو تم التركيز على نيل المطالب ،عوضاً عن
النيل من الشخصيات، لما وقفنا عند هذه المفترق.. فلا الفئة الأولى ستتخلى عن
رئيس الوزراء خصوصاً أن جريرته الأولى – في تقديرهم- إيثاره لهم كجماعة وفئة..
ولا الفئة الثانية مستعدة لتقبله بعد كل ما حصل.. وبين تلك الفئتين طيف قلق،
عاجز عن إيجاد نقطة التقاء بين التيارين.!!
****
عرفتم لماذا أجهض وليد الحوار؟ ولماذا ولي العهد بين الخصمين حّار..
سنكمل لاحقا فالفجر لاح.. وحان وقت الصمت عن الكلام المباح