تقول الرؤى القاصرة والمتشاطرة (وهذه مجتمعة أفظع الصفات، مثلها مثل أن يكون
المرء غبياً وخبيثاً في آن!)، أن هناك ارتباطاً بين البحرين وسوريا. ويقصدون أن
إيران تحرك الوضع في البحرين ـ الذي عاد الى التفجر ـ ابتزازاً للسعودية
والاميركيين، وهما من يفترض بهما امتلاك القدرة على تهدئة الاوضاع في سوريا،
وفق معادلة «هذه بتلك».
يستهوي هذا المنطق المبسط والتآمري الكثيرين، فهو يرى الحوادث التاريخية وأحداث
المجتمعات كحجارة الشطرنج تتلاعب بها القوى المتنفذة. ومما يدعم ذلك الاقتناع،
تطابق عدد من المعطيات مع متطلبات تماسك هذه الرواية للأحداث. فالبحرين جزيرة
صغيرة يكاد عدد سكانها لا يتجاوز النصف مليون إنسان، وقد اكتشف منذ طغيان
المزاج الطائفي في المنطقة، أن أكثر من 70 بالمئة منهم شيعة. وتقع البحرين على
مقربة من السعودية وإيران في آن، وغالباً ما شُبهت بحاملة طائرات ثابته (كما
كان يقال عن أهمية تايوان بمواجهة الصين). وعلى ذلك، فالبحرين قاعدة للأسطول
الاميركي الخامس (هناك شائعات أن القيادة الاميركية تنوي نقل القاعدة الى دول
أخرى في الخليج أكثر استقراراً).
ولكن، وبمقابل هذه اللوحة، ثمة «تفاصيل» لا يريد أحد سماعها حتى لا يلحق اضطراب
بالرواية: أكثرية شيعة البحرين الساحقة من أصول عربية، يصعب رد ولائها الى
إيران، بدلالة وقائع تاريخية وحديثة متعددة. وكمثال، فقد تميزت سياسات «جمعية
الوفاق الوطني» البحرينية على مر تاريخها، بالانطلاق من الاعتبارات البحرينية
أو العربية، وبالاستقلالية، علاوة على الاعتدال والسلمية والجنوح الى تغليب
التوافق على الصراع. وهي قبلت الدخول في «الحوار الوطني» مطلع هذا الشهر حتى
انسحبت منه بعد أن حاولت، ويئست من إسماع صوت المطالب العامة. و«الوفاق» هي
كبرى الحركات السياسية في الجزيرة الصغيرة، وكانت تحوز نصف مقاعد البرلمان
المنتخب إلا واحداً. ويبدو أن اعتدالها الدائم، والذي حافظت عليه حتى خلال
احتجاجات دوار اللؤلؤة والقمع الذي تلاها، يعرِّضها الى التجاوز عليها من قبل
حركات أكثر توتراً، سياسياً ومذهبياً على السواء، وهو ما قد يسر كثيراً أصحاب
السلطة في البحرين ويبسِّط المهمة أمامهم.
ثم هناك معارضون يشاركون في التحركات من دون أن يكونوا شيعة، أبرزهم العديد من
مناضلي جمعية العمل الوطني (وعد) التي تعرض أمينها العام، ابراهيم الشريف، الى
الاعتقال والتعذيب، ولا يزال. وفي رفقته، وقد قاسى مثله، حقوقي بحريني معروف
على نطاق واسع هو عبد الهادي خواجة... ها قد عدنا للخلط بين الاشياء! فهذا
الاخير شيعي كما يدل اسمه، ولا يهمَّ إن كان يعمل في مجال حقوق الانسان وتعرفه
منذ سنوات طويلة المنظمات العالمية والمعاهد البحثية المشتغلة في هذا الميدان.
وهناك جمعيات أخرى يغلب على أعضائها الانتماء السني، كالمنبر الديموقراطي
والتجمع القومي، بينما يغلب على «وعد» الطابع اليساري العروبي، وهي سليلة حركة
القوميين العرب أو الاتجاهات الناصرية في المنطقة. ولكن (أيضاً وأيضاً) فيا
للفظاعة، فبين أعضائها شيعة! (يا قوم، لماذا تريدون تعقيد الامور فيضيع الخيط؟
اصطفوا وانفرزوا طائفياً، رجاءً). إنما البحرين هكذا، والحركات السياسية تمتلك
تاريخاً طويلاً من النضال، كما في هذا البلد الخليجي نقابات عمالية ومهنية،
وتاريخ هو الآخر طويل من التحركات الاجتماعية والسياسية والإضرابات المطلبية.
ليست المسألة في البحرين إذاً طائفية بالدرجة الاولى، ولا ما يجري فيها يلخص
بأنه ورقة ضغط إيرانية. إنه مآل طبيعي لسياق حلقته الاخيرة عمرها أكثر من عشر
سنوات، مذ أصدر الملك الحالي «ميثاق العمل الوطني» الذي كان يقدم كإطار لمسار
إصلاحي يفترض به أن ينتهي الى ملكية دستورية. وكالعادة تخلل السنوات العشر
القدر المعهود من الالتفاف على الوعود، ومن تعديل ومماطلة وتحوير، أدت جميعها
الى أزمات فحوارات وطنية، فوعود جديدة، فغيظ فصبر فمحاولات جديدة، فأزمات.
والفارق اليوم هو أن ما اعتمل وانفجر في البحرين منذ شباط الفائت يندرج في
وضعية عامة لمجمل المنطقة تمتاز بهبوب رياح التمرد والتغيير، ما يجعل وقعه أشد.
قوى المعارضة البحرينية اليوم مضطرة للانصراف الى غير ما هو جوهر الموضوع وأصله
وفصله، أي تعيين مقدار تطابق النظام السياسي القائم مع بنية المجتمع واحتياجاته
ومتطلباته وأحلامه ودرجة وعيه لذاته. وبالتالي تعيين الصيغة المناسبة لترتيب كل
ذلك معاً، أي ما يشكل أسس صوغ العقد الاجتماعي في أي بلد. وهو بالضرورة محصلة
تسووية. عوض ذلك، تلهث تلك القوى خلف معالجة آثار القمع الواسع الذي طال
المجتمع بأكمله: المطالبة بإنهاء الصرف من العمل الذي قطع أرزاق آلاف العائلات
ومتابعة قضايا المعتقلين والجهد لتوفير محاكمات مدنية لهم ووقف تعذيبهم، وإطلاق
سراحهم والتعامل مع قطع المنح التعليمية عن طلاب مشاغبين مبعوثين الى الخارج،
عدا ما يثيره هدم المساجد التي يرتادها الشيعة من مشاعر احتقان تصب في مجرى
التوتير الطائفي وإدارة حرب أهلية منخفضة الوتيرة... هناك انتكاسة وتراجع
موضوعيان في البحرين، ما يعني أن الحال خطير، إذا ما نظر إليه على ضوء مجمل تلك
المعطيات. هذا رغم أن السلطة التي هندست الموقف ولا تزال ترعاه، تعتبر أنها
«انتصرت».
قد يروق للسلطة القائمة في البحرين تجميع عشرات ألوف التواقيع على «عهد الولاء»
للملك وآل خليفة. بعض التواقيع إرادي تماماً، مدفوعاً بسنوات من العمل على
إذكاء الاجواء الطائفية وتشجيع حركات أصولية بعينها تتبنى مواقف التكفير.
والحصيلة التي انتهى إليها الامر هو قيام انشطار عمودي في البلاد: ألا يذكركم
ذلك بانشطار لبنان العمودي الشهير والقديم، وهو بخلاف الحالة البحرينية، مفتكر
ومعلن ويستند الى نظرية عن البلد؟ تلبننوا يا سادة إن شئتم، راضين بالأزمات
الدورية لنظام المحاصصة الطائفية، الرجراج تعريفاً، والذي يبني إقطاعات وليس
بلداً... وإنما عليكم الرضا أيضاً بتقاسم السلطة، وليس أقل!
بعض عهود الولاء الاخرى منتزع بالضغط: طُلب مؤخراً من طلاب الجامعات التوقيع
عليها اثناء اكمال أوراق تسجيلهم في كلياتهم. وقد يوقع آخرون إذ يخافون من
الصرف من العمل بجرة قلم، كما جرى حتى الآن مع الآلاف، شيعة وغير شيعة، من
المعارضين. وقد يخاف آخرون من الاعتقال الذي لم يتوقف، ومن التعذيب في السجون
وقد أدى الى وفيات، ومن الاعتباط في الاحكام التي تصدرها محاكم عسكرية: ألا
يذكركم ذلك بالأحوال في سوريا التي تتفوق اليوم اخبارها على ما عداها، ويشهَّر،
عن حق، بممارسات النظام وببنية وآليات القمع العائدة له. ثم، في البلدين، لا
صحافيين أجانب، وقد طلب في البحرين من آخرهم المغادرة خلال ساعات في عز موجة
القمع، وفي البلدين لا منظمات حقوق انسان عالمية تستقصي ما يجري، فهذا ممنوع.
وأما على الصعيد العالمي والاقليمي الرسمي، فليس هناك من يفتح فاه لينتقد دخول
قوات درع الجزيرة الى البحرين فجر ذاك اليوم الاغبر، بل تجاوز البعض الصمت ليصف
التدخل العسكري السعودي بأنه مشروع تماماً.
المثل الشعبي يقول «ناس بسمنة وناس بزيت»، (وهذا حين كان الزيت رخيصاً!). لم
يمنع ذلك كله أهل الزيت من الخروج في تظاهرة حاشدة يوم الجمعة الفائت، «جمعة
الثبات» (طالما درجت موضة تسمية أيام الجمعة بأسماء موحية حسب البلد)، وأن يهتف
المتظاهرون، وكانوا بالآلاف، أن «الشعب هو مصدر السلطات»... أكان الشعب سنياً
أم شيعياً، لا يهم!