gulfissueslogo
الشأن السياسي الخاص والعام في دول الخليج العربي
أحمد شهاب

لا يزال الحديث حول الإصلاحات السياسية في البحرين، يجتذب اهتمام الكتاب والقراء على حد سواء. والحديث عن منطقة الخليج العربي بشكل عام هو محل اهتمام ونظر وترقب الكثيرين من داخل وخارج المنطقة، ربما لمكانة وموقع منطقة الخليج الاستراتيجي، وربما ـ وهو الأقرب للصواب ـ لكثرة الغموض السياسي في الخليج. فالشأن السياسي في الخليج مثل الشؤون الأخرى يمارس بالكثير من التحفظ والخصوصية، لا كشأن عام ومفتوح، كما هو طبيعة الأداء السياسي العام.
القانون العام الذي يحكم جميع مجالات الحياة في دول الخليج ينبع بالدرجة الأولى من العادات والتقاليد، وليس من ضرورة وحاجة أي مجال. فالمساواة بين الأرض والعرض، تعني بالنسبة لأي مواطن في العالم المتقدم، سواء كان حاكما أو محكوما، الدفاع الدائم عن استقلال ورفعة شأن البلد، واعتباره من المسلمات غير القابلة للجدل، وأن أي عمل يؤدي في نتيجته إلى دفع مسيرة التنمية وحفظ كرامة المواطن هو مطلب أساسي للجميع، ويؤسس عليه أن أحدا لا ينتظر هناك أمرا لأداء فعل ما أو ترك فعل آخر يصب في مصلحة من المصالح العامة، ولا تحتاج خطوات مثل هذه إلى ترخيص مسبق، إلا إذا عد هذا الفعل تعديا على قانون آخر.
بينما مفهوم الأرض كالعرض يحمل أكثر من هذا المعنى في منطقة محافظة مثل منطقة الخليج، فالحديث في شؤون الأرض والوطن هو من المحرمات التي لا تقل عقوبتها عن الحديث في موضوع العرض، ويؤسس عليه أن أي مواطن يتعرض للأمور العامة، ويتشارك مع آخرين في البناء الوطني والأهلي، فضلا عن التجرؤ على الإشارة إلى السلبيات ورصدها، يعد مخترقا لميثاق الشرف، ويستحق بالتالي جزاء الخائن للعرض.
من الطبيعي جدا أن تنعكس المفاهيم السائدة على مجمل حياة الإنسان وأنشطته، على أن هذا التأثير يلزم أن تحكمه ضوابط ومعايير، ومن بين هذه الضوابط التفريق بين الشأن الخاص الذي يحق لأي إنسان أن يخضعه لمعادلاته العرفية، إن لم يتعارض مع معادلات أخرى لسنا في صدد بحثها الآن، وبين الشأن العام الذي لا يحق لأحد مهما كان أن يحتكر معرفته و مناقشته وتفعيله، لأنه لا يخص الحاكم دون المواطن، أو صاحب السلطة دون غيره، بل هو شأن الجميع، ومصير الكل، ومن حق جميع الأعضاء أن يتشاركوا بتأسيسه أو بتكليف من يرونهم أهلا لذلك. هذه الشراكة ليست هبة من أحد لأحد، بل هو حق طبيعي وضروري إن وجد، ومسلوب ومنتهك إن غاب.
في بعض دولنا يقولون أنه لا مانع من المشاركة السياسية، ولكنهم في المقابل يمنعون المعلومة الحقيقية من الوصول إلى قطاعات مختلفة من الشعب، وبمتابعة سريعة لوسائل الإعلام الخليجية مقارنة بنظيرتها الغربية، نلاحظ مقدار التعتيم الإعلامي الذي تمارسه أجهزة الإعلام لدينا، مقابل الشفافية التي تتحلى بها الأجهزة الإعلامية في كل بقاع الدنيا تقريبا.
يقال أحيانا أن التعتيم الإعلامي أفضل من النشر غير المقيد، فليس كل ما يعلم يقال، وأن ما تمارسه أجهزة الإعلام لدينا بتوجيه من الأجهزة العليا، إنما يهدف مصلحة المواطن في الدرجة الأولى، فهو يشذب له المعلومة ويهندسها، ويقدمها له طازجة ومجهزة بجميع أنواع التوابل، وهو قول ليس له ما يبرره، سوى القول بأن على الإنسان حتى يثبت صلاحه كمواطن مخلص أن يسلم رقبته لغيره، أو أن يفرط بكامل حقوقه، وهو ما لا يقبله أحد.
إن وطنية أي إنسان أو عدم وطنيته، تثبت من خلال الدور الذي يمارسه في المجتمع، ولا يمكن أن يؤدي المواطن أي دور، وهو يعاني من نقص شديد في المعلومة، وإذا ما توفرت المعلومة، فهو يعاني من القدرة على تحليلها، وطرحها بصورة مباشرة والتي يعبر عنها بأزمة التعبير عن الرأي. وبالتالي فإن أي علة يصاب بها المجتمع، تحتاج إلى الكثير من الوقت حتى يتم تداركها وعلاجها، لأن العلاج لا يتم بصورة مباشرة وسريعة، بل عبر طريق طويل تتقاطعه منحنيات عديدة ومتعرجة.
ضمن التجربة السياسية في منطقة الخليج لم يظهر ثمة دليل بأن طريق الانغلاق وحظر المعلومات، والتعاطي مع الشأن العام وكأنه سر من الأسرار الخاصة والخطيرة، كان له أثرا إيجابيا في مسيرتها، بل على العكس من ذلك تماما، فما نراه ونتلمسه أنه كلما اتسعت مساحة المسموح وتقلصت مساحة الممنوع، كلما اتسعت الشريحة الاجتماعية المشاركة في صناعة القرار وبناء المجتمع. وفي الكويت على سبيل المثال تمتدح التجربة البرلمانية، من قبل بلدان خليجية أخرى، ولا تزال تعد نموذجا متقدما ساهم بصورة أو أخرى بتفعيل طاقات أكبر عدد ممكن من الأفراد، ولم نستمع حتى الآن إلى رأي يطالب بتقليص الحريات السياسية. بل تتوجه المطالبات عادة نحو توسعة خيارات العمل السياسي والاجتماعي وعدم اقتصاره على مجلس الأمة فقط، وهذا بالضرورة يعني أن التجربة ناجحة، وأن مكامن الخلل والنقص فيها، يتركز في عدم الاستفادة المثلى منها، والمطلوب هو المزيد من المساحات للعمل الأهلي والوطني، بصورة تتيح للجميع المشاركة بفاعلية في بناء المجتمع، ومقاومة السلبيات قبل تراكمها.
إن تراكم السلبيات في مجتمع وعدم المبادرة إلى علاجها بصورة فورية، يحولها مع الوقت إلى ألغام موقوتة قابلة للإنفجار في أي لحظة، على هيئة تمرد شعبي، أو صدام غير متوقع، أو لا أقل بتحول المواطنين إلى أعضاء يتصفون بالسلبية، وعدم المبالاة، ولا أعتقد أن خطرا يهدد المجتمع وكيانه، أكبر من لامبالاة أعضائه.
في تجربة البحرين الأخيرة والتطورات السريعة المواكبة يمكن ملاحظة هذا المثال بصورة واضحة وجلية، فالميثاق الذي صوت عليه أبناء البحرين إنما هو في حقيقته تصويت ضد العنف، وضد السلبية، ومع المشاركة الإيجابية، ومع توسعة خيارات الناس، وهذا سر تفاعل المجتمع في البحرين مع التصويت.
لا يتوقع أحد على سبيل المثال أن تتجدد أعمال العنف في البحرين في الوقت الحاضر، ليس لأن قبضة الأمن حديدية، وإنما لأن الناس انتصروا اليوم لخيار السلام والأمن، ضمن إتفاق إعادة العمل بالدستور، وتوسعة خيارات الشعب البحريني في العمل السياسي. وسيظل هذا المقدار من الأمن موجودا، طالما أثبتت السلطة أنها جادة في خطواتها الإصلاحية، وستتجدد صور القلق السياسي والأمني، في حال ما تراجعت هذه الخطوات.
معرفة المجتمع البحريني بموارد القصور السياسي، لا يؤدي بأي حال إلى صدام أو أزمات، بل على العكس من ذلك، ستكون المكاشفة خطوة نحو نزع فتيل العنف. وقد تبين من التجربة أن التحفظ من طرح الرؤى السياسية، والتعتيم الإعلامي على موارد القصور لم يمنع من تفجر الأزمات، وإن طرح الهم السياسي والاجتماعي أمام الشأن العام ساهم بنشر حالة من الارتياح، سيكون له أثرا كبيرا فيما لو تمت الاستفادة منه وتطويره، من خلال العمل الحقيقي وليس الدعائي.
هذه التجربة تدعونا صراحة إلى التفريق بين الشأن الخاص والشأن العام، وإلى إعادة النظر في مفاهيمنا تجاه الأمور العامة، والتي هي بالتأكيد من حق الناس، وأن النقاش حولها والتعرض لسلبياتها، هو أمر طبيعي جدا، إذا لم يمارسه مجتمع من المجتمعات فعلينا أن ندفعه إليه دفعا، ونوفر له كل أسباب ذلك. فالأرض كالعرض نحميها ونبذل دمائنا لها، لكنها شرف الجميع، والجميع معني بحمايتها.


(12/4/2002)

copy_r