2011-07-12
أعاد القرار السعودي الاسبوع الماضي بزيادة مشترياتها من الاسلحة الامريكية
الى 90 مليار دولار مقابل 60 مليارا اعلنتها العام الماضي، فتح الملف السعودي
من قبل المؤسسات البحثية والمحللين الاستراتيجيين، بالاضافة للساسة الاقليميين.
هذا الملف اصبحت فصوله تتوسع لاسباب عديدة: محلية واقليمية ودولية. ففيما يتجه
الوضع الداخلي نحو المزيد من الاستقطاب والتوتر الصامت يجد الحكم السعودي نفسه
امام استحقاقات عديدة يعجز عن التعاطي معها بشكل حاسم، سواء منها ما يرتبط
بالاصلاحات السياسية ام الحقوق المدنية في حدودها الدنيا كقيادة المرأة
للسيارات، ام بناء الدولة الحديثة التي تتجاوز المذهب والعرق والاقليم. وعلى
المستوى الاقليمي سعت السعودية في العقد الاخير لتوسيع دائرة نفوذها السياسي
بشكل غير مسبوق، وبدأت تعيد بناء موقعها لدور اقليمي يتجاوز حجمها الطبيعي.
يقول ثيودور كاراسيك المحلل العسكري الذي مقره دبي 'السعودية تزداد نشاطا في
سياستها الخارجية وتحاول بالتوازي مع ذلك زيادة أسلحتها من أجل مجابهة التحديات
المتزايدة الماثلة أمامها اليوم ... تتراوح التحديات بين ماذا سيحدث في اليمن
وحتى زيادة مخاطر القرصنة في مياهها.. لهذا فهم يحاولون تعزيز أساطيلهم في البر
والبحر'. ومن المنظور الدولي ثمة اضطراب في السياسة الامريكية تجاه السعودية،
كبرى الدول المصدرة للنفط، والقاعدة المتقدمة التي تؤسس واشنطن عليها سياساتها
الشرق اوسطية.
لكن هذا الملف لا يكتمل بدون قراءة الملف الخاص بالنظام السياسي الذي حكم
المملكة ثمانين عاما، والذي ما يزال يقلق المهتمين بالشأن السياسي في الجزيرة
العربية. اذ لا يمكن قراءة مدى قدرة المملكة على تحقيق رؤاها على المستويات
الثلاثة بدون ان يكون نظامها السياسي مؤسسا على ارضية صلبة لا تتزعزع امام
العواصف التي تستهدف المملكة ككيان وكقوة اقليمية وكنظام حكم وكمرجعية فكرية
ودينية لمجموعات تعتبر نفسها في صراع متواصل على الصعدان الثلاثة المذكورة.
انه تداخل يصعب تفكيك ابعاده حتى من اقرب حلفاء النظام السعودي، ولذلك يسعى
اولئك الحلفاء لتجاوزه ما امكن، والتعاطي مع الملف السعودي من منظور آخر. يتأسس
هذا المنظور على اعتبار ذلك النظام غير قادر، في الاساس، على مواجهة تلك
التحديات والتعويض عن ذلك بسياسة ذات ابعاد ثلاثة. الاول توفير الدعم السياسي
واللوجستي والعسكري للنظام من قبل الاساطيل الغربية، خصوصا الامريكية التي تمخر
عباب البحار الشرق اوسطية، مواجهة كافة التهديدات السياسية والعسكرية التي
تواجه النظام السعودي لمنع اضعافه او سقوطه، واطلاق يد النظام للاستمرار في دعم
المجموعات الدينية المتطرفة التي اصبحت احدى وسائل تثبيت دعائم النظام من خلال
تعبئة دينية خاصة، واستهداف مناوئيه المحليين والخارجيين. وشيئا فشيئا، يتحول
المشهد السعودي الى ساحة صراع اقليمي دولي على غرار ما شهده العالم قبل عشرين
عاما عندما توجهت القوات الاجنبية للمنطقة ودخلت حربا ضد العراق بعد اجتياح
قواته الاراضي الكويتية. كان ذلك المشهد النموذج الاساس للسياسة الامريكية
المستقبلية، فان نجح سيناريو الدفاع عن النظام السعودي (ومعه بقية انظمة مجلس
التعاون) فسوف يتكرر ذلك المشهد مستقبلا لمواجهة الاخطار الاقليمية المشابهة.
هذا مع الاستمرار في اغراق الجزيرة العربية بالاسلحة المتطورة التي تتجاوز مرات
عديدة الاحتياجات المطلوبة لمواجهة التحديات المحدودة من قبل المجموعات
السياسية ذات الاجندات السياسية المختلفة كالحوثيين في اليمن والمعارضة في
البحرين، مع ابقاء الباب مفتوحا للتدخل المباشر فيما لو توسع التحدي بمستوى
اكبر مما تطيقه الامكانات المتوفرة لدى البيت السعودي. ان الصراع على النفوذ
الاقليمي بين القوى المتطلعة للحرية والديمقراطية والانعتاق من الهيمنة
الامريكية، والقوى الرافضة لذلك سوف يحتدم خصوصا مع استمرار الثورات العربية.
هذه الثورات تهدف لتحقيق خيارات ديمقراطية غير مقبولة من قبل السعودية وحلفائها
الغربيين، ولذلك تستمر معاناة شعوب هذه الدول التي تم تحويل ثوراتها الى حروب
اهلية لمنع انتصارها الذي كان يبدو حتميا في بداية الامر.
المستويات الثلاثة من التحدي للحكم السعودي يتم التعاطي معها باساليب شتى.
ولا يمكن فصل صفقات التسلح العملاقة التي عقدتها الرياض في العامين الماضيين عن
تلك التحديات. فبعد صفقة تايفون مع بريطانيا التي تقدر قيمتها بأكثر من عشرين
مليار دولار، يأتي الاعلان السعودي عن زيارة مشتريات السلاح من امريكا الى 90
مليار دولار ليعزز الخوف من احتمال اندلاع صراعات مسلحة بين الدول الاقليمية،
خصوصا بعد ان تصاعد التوتر بينها منذ إطلالة ربيع الثورات العربية. فبينما ترى
إيران في تلك الثورات امتدادا طبيعيا لثورتها التي اطاحت بحكم الشاه قبل 32
عاما، تقف السعودية بكل حزم ضد تلك الثورات، وتتصدى لها بأساليب عديدة: اولها
تشكيل جبهة تضم القوى المضادة للثورة وتشمل بالاضافة للسعودية كلا من الولايات
المتحدة وبريطانيا، وثانيها: دعم الانظمة المهددة بالسقوط ماديا وعسكريا وامنيا
وسياسيا، كما يحدث في اليمن الذي تستمر ثورة شعبه ضد نظام علي عبد الله صالح،
وثالثها: السعي لتحويل الثورات الى حروب اهلية كما يحدث في ليبيا وسورية، لان
الثورة اذا تحولت الى صراعات مسلحة تختلف طبيعتها وتصبح اكثر احتياجا للدعم
الخارجي كما حدث في ليبيا. وتسعى السعودية لاثارة حرب اهلية في اليمن بعد ان
فشلت في محاولاتها لحماية نظام علي عبد الله صالح. رابعها التدخل المباشر عندما
يقتضي الامر كما حدث في البحرين. فنظام الحكم السعودي يواجه تحديات ذات اشكال
عدة منها: اولا انه الابعد في طبيعته وآلياته عن الديمقراطية والتمثيل الشعبي
عبر الشراكة، والتعددية.
وبالتالي فهو يستعصي على الاصلاح والتطور لينسجم مع المعايير الدولية للحكم
الصالح.
وتطرح هنا مقولات مثل 'الخصوصية الثقافية' و'العادات الاجتماعية' وغيرها. ثانيا
ان اي تحول في المحيط الاقليمي نحو ديمقراطية حقيقية سوف ينعكس بشكل مباشر على
الاوضاع الداخلية للسعودية التي لن تستطيع فصل شعبها عن التأثر بروح التغيير
والانفتاح والاصلاح السياسي. ثالثها: ان انتصار الثورات سوف يغير التوازن
السياسي والايديولوجي في المنطقة لغير صالح الحكم السعودي، وسوف يفتح المجال
لاحقا لقيام تحالفات عربية اسلامية واسعة تشمل مصر وتركيا وايران وبقية الدول
التي سوف تشهد تغييرات في انظمة حكمها. رابعا: ان الولايات المتحدة تقف بجانب
السعودية ضد التغيير، وقد اصبح واضحا ان واشنطن لم تعد داعمة لتغييرات جوهرية
خارج دائرة نفوذها. وما تلكؤ مواقفها في ليبيا الا مؤشر لذلك. بل ان هناك ضغوطا
على المقاتلين في ذلك البلد للتفاوض مع نظام القذافي!
والسؤال هنا: ما مغزى اغراق المنطقة بالسلاح؟ ومن هو المستهدف بهذه الصفقات
العملاقة؟ ما ايديولوجياتها؟ أهي للتصدي للاحتلال والعدوان؟ أهي من اجل تحرير
فلسطين؟
أهي لرفع شأن العالم العربي الديمقراطي ودعم اطروحاته السياسية المنفتحة بما
تحتاجه من ذراع عسكرية ضاربة ام لتخويف الشعوب والتهديد بقمعها ان استمرت في
طريق الثورة؟
أيا كان موقف المواطن العربي المسلم، مثقفا كان ام اميا، فلن يستطيع تبرير هدر
اموال الامة لتمويل مصانع السلاح الغربية، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد
المحررة من قبضة انظمة الاستبداد من ازمات اقتصادية كبيرة. كما ان من الخطأ
الشنيع ان تستورد الاسلحة والطائرات بهدف الاستعمال ضد المواطنين عندما يطالبون
بحقوقهم. لقد انتهت صفقة 'اليمامة' الى العدم بعد ان كلفت الميزانية السعودية
85 مليار دولار.
وبالاضافة لصفقتي السلاح الاخيرتين مع بريطانيا والولايات المتحدة، ذكرت مصادر
سعودية ان السعودية اشترت 44 دبابة من نوع (ليبارد) من ألمانيا في المرحلة
الاولى من صفقة بعدة مليارات من الدولارات لشراء 200 دبابة. وهذه الصفقة ضمن
حزمة من المنح قيمتها 93 مليار دولار قررتها العائلة المالكة لتعزيز الدعم
للشرطة وقوات الامن. ان الانفاق السعودي الهائل على هذه الصفقات اهدار غير مبرر
للاموال، وسياسة تعبر عن غياب مشاريع التنمية البشرية او المادية. هذا الانفاق
غير المحدود على السلاح الذي لم يستخدم ضد عدو حقيقي للامة، بل وجه الى صدور
المطالبين بالحرية في الجزيرة العربية، يؤكد استحالة اقامة نظام عصري يمارس
رقابة حقيقية ومحاسبة مسؤولة لمن يتلاعب بالمال العام، او يوجهه بطريقة غير
اخلاقية بهدف تحقيق دعم سياسي من اعداء الامة. انه تعبير صريح عن حالة التباين
في المواقف والرؤى بين اجيال تتطلع
للمشاركة في الحكم والادارة والبناء، وفئة تتوارث الحكم كحق مقدس لا يحق لأحد
المساس به او مناقشته. فاذا كانت مقولة التفويض الالهي قد تلاشت منذ قرون،
فانها ما تزال تحكم تصرفات حكام المنطقة الذين استحوذوا على الحكم بالقوة
وصادروا حقوق الناس في الحكم والادارة.
ان مشاكل الوضع السعودي ليست محصورة ببعد واحد. فمنع النساء من قيادة السيارات
انما تمثل نقطة البدء لاي تقييم للاوضاع السياسية والاجتماعية في هذا البلد
الذي سيظل محور اهتمام اقليمي ودولي زمنا طويلا. ولا تقل عن ذلك اهمية مسألة
الاستخلاف وانتقال السلطة بين رموز عائلة آل سعود، خصوصا بعد وصول الجيل الحالي
الى نهاية طريقه في وراثة الحكم. هذه مسألة تقلق حلفاء آل سعود من الغربيين
بدرجة لا تقل عن قلق رموز العائلة انفسهم، خصوصا في ضوء الحراك السياسي في
المنطقة. اما الاصلاح السياسي الذي لم يتوقف الحديث بشأنه قط، فهو من اكبر
التحديات التي تواجه آل سعود وداعميهم، لان نظام الحكم السعودي ببساطة، لا يمكن
اصلاحه لسببين: اولهما انه بدرجة من التخلف تحول دون القدرة على ترقيعه،
وثانيهما: غياب ارادة الاصلاح والتغيير لدى رموزه. يواجه الحكم السعودي ايضا
تحديات من نوع آخر ناجمة عن عقلية الاقصاء وتكفير الآخرين، وفقا للمدرسة
الفقهية التي تحالفت مع الحكم واصبحت سلاحا ماضيا بيديه، يستعمله ضد خصومه متى
شاء، ولتحقيق اهدافه خصوصا في اطار الثورة المضادة لمنع استقرار الانظمة التي
قامت بفعل الثورات في مصر وتونس.
هذا التحالف السياسي ـ الديني يعتبر واحدا من اهم اسباب تصاعد التوتر خصوصا في
دول مجلس التعاون الخليجي بين المواطنين على اساس الانتماء المذهبي، وهي ظاهرة
لا تعبر عن قيم الدولة الحديثة التي يفترض ان يكون القانون فيها هو الفيصل بين
المواطنين، وآلية فاعلة لحماية الحقوق ومنع الظلم والاستغلال والابتزاز.
ولا يبدو ان الحكم السعودي قادر على التعاطي بشكل جاد مع هذه التحديات
والقضايا، خصوصا مع توجهاته الجديدة ـ القديمة لتوسيع دائرة نفوذه الاقليمي.
وتمثل ثورة اليمن واحدة من اكبر التحديات للحكم السعودي، لان نجاح الثورة وفق
ما تريده الجماهير سوف يكون سكينا في خاصرة الحكم السعودي. والملاحظ ان
السعودية تتعاطى مع مجلس التعاون الخليجي كأداة للاستعمال وقت الحاجة فحسب.
فكان هناك التدخل العسكري في البحرين الذي حدث باسم 'قوات درع الجزيرة' التابعة
للمجلس، برغم اختلاف بعض دول المجلس مع السياسة السعودية خصوصا بعد ارتكاب
الفظاعات في البحرين. وكانت هناك ما سمي 'مبادرة مجلس التعاون' التي طرحت لمنع
سقوط نظام علي عبد الله صالح وإجهاض ثورة اليمن، والواضح ان الخطوتين لم تؤديا
النتائج المرجوة، وما يزال ربيع الثورات يتحدى محاولات اجهاضها.
السعودية تقف على فوهة براكين عديدة. فاذا كانت العائلة السعودية قد استطاعت
تعطيل انفجار بركان الثورة على اراضيها سواء بالقمع ام الانفاق الهائل لشراء
المواقف وإسكات الاصوات المعارضة، فانها ما تزال تواجه مستقبلا غامضا مع
استمرار الشعوب العربية في النهوض وتحدي المعوقات السياسية والامنية التي تضعها
قوى الثورة المضادة في طريقها. واذا كانت مشاعر رموز الحراك السياسي تتعرض
للكتمان والتحفظ بهدف
عدم اثارة حفيظة الرياض، فقد تصاعدت الانتقادات للسياسة السعودية على السنة
قيادات الثورات في البلدان المختلفة. فمن تونس الى مصر الى اليمن وصولا الى
البحرين ارتفعت الاصوات ضد سياسات التدخل السعودي للتأثير على مسار الثورات
بحرفها او اجهاضها او تعطيل حسمها. ومع تصاعد ملامح التوتر الطائفي والديني في
ليبيا ومصر واليمن وسورية والبحرين اصبحت الاصابع تشير بوضوح الى دور المجموعات
السلفية المرتبطة بالسعودية في خلط الاوراق لمنع تبلور مواقف وطنية حاسمة ضد
الاستبداد والتبعية والتخلف. الثورات تعبير صاخب عن مشاعر المواطنين العرب
جميعا إزاء ما يتعرضون له من قمع واضطهاد وتهميش من قبل انظمة الحكم
الاستبدادية في بلدانهم. وهي صرخة من الضمير ضد استمرار الهيمنة والتبعية للغرب
الداعم للاحتلال الاسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. وقد رأت السعودية
انها المعنية الاولى بهذه الثورات لانها تتعارض مع نظام حكمها وسياساتها
الصديقة للغرب والمستعدة للتطبيع مع 'اسرائيل'.
وانتهجت بسبب ذلك سياسات لا تتناغم مع تطلعات الشعوب العربية خصوصا في مجالات
التسلح غير المبررة والاستهداف المباشر للثورات والتحالف مع اعداء الامة ضد
تطلعات شعوبها.
السعودية تمر بمأزق كبير، برغم ما يبدو من استقرار لنظام الحكم، والسؤال لم يعد
حول ما اذا كان التغيير سوف يصل الجزيرة العربية، ولكن متى؟