2011-06-21
برغم تعدد اساليب قوى 'الثورة المضادة' يمكن القول ان مقولة 'الحوار' لا تقل
خطرا عن الاساليب الاخرى التي تمارسها هذه القوى لمواجهة 'ربيع الثورات
العربية'. لقد امعنت تلك القوى في التخطيط لاجهاض حركات الشعوب، واستخدمت كافة
وسائل المنع والافشال والتصدي، وسعت جاهدة بالمال والسلاح والخداع لمنع حدوث
الثورات او تحجيمها بعد اندلاعها او حرف مسارها، وربما حققت بعض الانجازات في
هذه الجوانب. وفي بعض الحالات استطاعت تحويل الثورات الى حروب اهلية، ومع ذلك
تشعر هذه القوى بان الزخم الثورى ما يزال اقوى من كافة تلك الوسائل.
ومن بين الاساليب التي طرحت مرارا لقطع الطريق على رواد الثورة مقولة 'الحوار'
التي رفضت في اغلب حالات الحراك الشعبي الا ما ندر. هذه المقولة التي تبدو في
ظاهرها ايجابية تستبطن هدفا شريرا يتمثل بالعمل لاطالة عمر انظمة القمع ومنع
انتصار الثورات. وفي هذا الجانب تتجسد ازدواجية الغربيين بشكل واضح ايضا. فهم
يدعون الى الحوار احيانا ويرفضونه احيانا اخرى. وعلى سبيل المثال كانت الولايات
المتحدة الامريكية اول من رفض الدعوة الاخيرة التي اطلقها نجل الزعيم الليبي،
معمر القذافي الاسبوع الماضي لمعارضيه للدخول في حوار والمشاركة في انتخابات
برلمانية قريبا. واشنطن كانت اول الرافضين لتلك المبادرة، واعقبها المعارضون
الليبيون الذين رأوا في ذلك محاولة اخيرة من قبل النظام للخروج من المأزق. لكن
واشنطن هي التي تتصدر اليوم الدعوة لما تسميه 'الحوار' في البحرين، وتمارس
ضغوطا واسعة على المعارضة وقوى الثورة في ذلك البلد الخليجي للتخلي عن المطالبة
باسقاط النظام والقبول بالحوار الذي يستبطن التخلي عن المطالبة باسقاط النظام.
ولا شك ان المنطق الانساني المجرد من النزعات والدوافع غير الشريفة يقضي
بالقبول بمثل هذه المبادرات، التي تبدو في ظاهرها محاولات لحقن الدماء وحماية
الاوطان، والحفاظ على 'مكتسبات الوطن' و 'تحكيم لغة العقل والمنطق والتعايش'،
وجميعها ابعاد خيرة في ظاهرها في مقابل السير على طريق الثورة خصوصا اذا كانت
آفاقها غير واضحة المعالم، وغير مضمونة النتائج. وعندما تطلق الدعوات للحوار في
هذه الظروف تسخر الاقلام ووسائل الاعلام بكافة انواعها للترويج لتلك المقولة،
ويدخل المطبلون للانظمة لهذا 'الحوار' حتى لو كانوا من الداعين لـ 'القضاء
العملاء ورموز الفتنة' الذين كثيرا ما تكال ابشع التهم اليهم، ويوصفون بانهم
'عملاء للاجانب' او انهم 'ارهابيون' او 'كلاب ضالة'.
وقبل القفز الى النتائج بخصوص مدى واقعية مقولات 'الحوار' يجب ملاحظة امور
عديدة لاستيضاح المشهد السياسي الذي تطلق فيه تلك الدعوات. اول هذه الحقائق ان
الحوار هو ما طالبت به كافة قوى المعارضة العربية منذ بداية الحقبة الاستبدادية
السوداء قبل اكثر من ثلاثين عاما. وفي بعض الحالات طلب من جهات قريبة من
الانظمة التوسط لاقناعها بالتحاور مع معارضيها حول ما يمكن عمله لاصلاح
الاوضاع. ولكن هذه الانظمة رفضت بشكل قاطع القبول بالتحاور مع معارضها وسعت
لفرض مشاريعها السياسية بالقوة. ونادرا ما حدث حوار ذو معنى بين اي نظام عربي
ومعارضيه، بل كانت لغة القمع والتنكيل والسجن والتعذيب هي الجواب المباشر لاية
دعوة للتحاور. ثانيها: ان طرح مشاريع الحوار انما تطرحها الانظمة في الساعات
الاخيرة عندما تشتد الاوضاع عليها وتبدو المعارضة على شفا الانتصار. ولذلك فهي
محاولة للهروب الى الامام وليس خطوة جادة على طريق الاصلاح. ثالثها: ان هذه
الدعوة تهدف لامور عديدة من اهمها كسر شوكة المعارضة وتخفيف غضب الجماهير ومنح
النظام فرصة لالتقاط الانفاس قبل الانقضاض على المعارضة واستهداف الثورة بشراسة
اكبر. وبالتالي فهي تكتيك يستخدم ضد المعارضة بهدف اضعافها وتفكيكها، خصوصا ان
القوى الشابة التي حركت الثورات في البلدان العربية اصبحت رقما صعبا في
المعادلة السياسية، واستطاعت فرض واقع جديد لم تستطعه القوى السياسية المعارضة
التقليدية، فلديها الشباب والفتوة والنقاء السياسي، ولم تلوثها اساليب اللعب
السياسي والالتفاف والمراوغة. هذه القوى طرحت مطالبها واضحة وصريحة في كافة
البلدان التي حدثت فيها الثورات: 'الشعب يريد اسقاط النظام'، بدون مجاملة او
مسايرة لاحد. رابعها: ان الحوار لا يطرح في البداية بل عندما يتضح ان الثورة
جادة في اسقاط النظام، الامر الذي يؤكد ان من يطرحه ليس جادا في التخلي عن
سلطاته وصلاحياته، وانه يسعى لتحجيم التغييرات السياسية الى الحد الادنى الذي
يضمن له السيطرة المطلقة مع شيء من التعديلات الشكلية التي قد توهم البعض بحدوث
الاصلاح.
برغم هذا الطرح فقد اثبتت القيادات الشابة في البلدان الثائرة انها اقدر على
تجاوز محاولات الاحتواء والحرف، ورفضت دعوات الحوار التي اعتبرتها الغاما لا
تقل خطرا عن اسلحة القتل والدمار التي تستعمل ضد المتظاهرين في الشوارع. الرئيس
حسني مبارك كان اول من اطلق الدعوة للحوار، بعد أيام من انطلاق ثورة 25 يناير.
يومها كان واضحا ان ميدان التحرير قد تحول الى نقطة استقطاب غير مسبوقة للقوى
الشابة من كافة الاطياف، في حركة شعبية شارك فيها الملايين واستعصت على محاولات
الاحتواء او الافشال. كان واضحا ان حسني مبارك الذي رفض كافة الدعوات السابقة
للاصلاح، واقام المحاكم العسكرية لمقاضاة رموز المعارضة خصوصا من جماعة الاخوان
المسلمين، يسعى لانهاء الازمة السياسية التي تعصف بنظامه بطرح مقولة 'الحوار'.
الثورة كانت منعطفا خطيرا، ولولا ثبات شباب الثورة على المطالبة باسقاط النظام
لاستطاع مبارك، من خلال نائبه عمر سليمان ومراوغاته، استمالة بعض الاطراف
السياسية لما سمي 'الحوار' ولتراجع حماس الشباب ولتم القضاء على الثورة بتقديم
تنازلات محدودة تجاوزتها مطالب شباب الثورة بمسافات شاسعة. وكذلك فعل علي عبد
الله صالح، الذي ما يزال حتى الآن يطلق مبادرات 'الحوار' كمخرج من الازمة التي
فرضتها الثورة الشعبية غير المسبوقة في اليمن. النظام السياسي المراد تغييره
يعرف ان الجهات السياسية التقليدية تمثل ارضا رخوة يستطيع جذبها لطاولة
'الحوار'. فهي التي كانت شريكة سياسية للنظام في السنوات الماضية، وهي القادرة
على الجلوس مع ممثليه والدخول في نقاشات عقيمة لا تجدي شيئا. وهذا على غرار
العمل السياسي ضمن النظام السياسي القائم وهو عمل لم يحقق للشعوب شيئا، بل أسس
للثورات الشعبية الحالية. وفي محاضرة في لندن قبل بضعة ايام، قال الشيخ راشد
الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية ان ثورة الشعوب 'بعثت رسالة بفشل مناهج
الاصلاح من داخل الانظمة' مضيفا 'لم تنجح اية حركة في تغيير اوضاع بلادها من
خلال المشاركة مع النظام ضمن اجهزته'. ولذلك كان موقف شباب 'ميدان التغيير' في
اليمن حاسما برفض دعوات علي عبد الله صالح المتكررة ابتداء من 21 فبراير حتى 12
مايو، برغم محاولات الاحزاب السياسية مسايرة نظام صالح والتحاور معه. وادى
اصرار الشباب الى سقوط علي عبد الله صالح، وخروجه الى السعودية التي اصبحت تعرف
بـ 'مقبرة الطغاة'. ولا يختلف الامر في البحرين عن بقية المناطق. فقد رفض
النظام الذي تهيمن عليه عائلة آل خليفة الدخول في اي حوار مع المعارضة طوال
العقود السابقة، وكانت تفرض مشاريعها السياسية بدون الرجوع الى الشعب. وحتى
الدستور الحالي فرض على الشعب الذي لم يشارك في كتابته ولم يصوت عليه. وهنا
يلاحظ الدور الامريكي في السعي المتواصل لفرض الحلول السياسية. ففي العام 2000
وضعت واشنطن اطر ما سمي 'المشروع الاصلاحي' واستقطبت بعض المعارضين السابقين
اليه. وعندما اتضح ان الثورة الشعبية قطعت مشوارا طويلا على طريق التغيير، طرحت
مقولة 'الحوار' وسعى جيفرى فيلتمان، نائب وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الادنى
لتجنيد بعض المعارضين للمشاركة في ذلك المشروع. وفي الاسبوع الماضي اتضح ان
'الحوار' ليس خيار العائلة الحاكمة التي ما تزال تعتقد ان الاحتلال السعودي
والدعم السياسي الامريكي كفيلان بحماية نظام الحكم وافشال الثورة التي انطلقت
من 'دوار اللؤلؤة'. ولذلك طرحت تصورها للحوار محصورا بما تتمخض عنه مداولات
مجموعات سياسية صغيرة باشراف رئيس النصف المنتخب من مجلس الشورى، على ان يتم
ذلك في ظل الوجود العسكري السعودية والدعم السياسي الامريكي. وكما حدث في مصر،
فقد اكتشف شباب 14 فبراير اللعبة واصروا على رفض الانخراط في حوار عقيم يقضي
على روح الثورة ويمزق المعارضة ويشق قوى الثورة ويؤدي الى طريق مسدود يحافظ على
النظام القائم ويشرعن سياساته.
لقد اصبح امرا ملحا العودة الى مناقشة مقولة 'الحوار' وكيف تحول الى سلاح
يستعمل ضد القوى الثورية بهدف تمييع مواقفها واستمالتها نحو مشاريع تسوية بعيدة
عن الميدان. شباب الثورة يشير الى القضية الفلسطينية وكيف ان التحاور مع قوات
الاحتلال الاسرائيلية فشل في تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني وتحرير ارضه، وحول
الثوار الفلسطينيين الى محترفي سياسة يعولون على طاولات الحوار التي اضعفت وهج
الثورة وساهمت في تعميم ثقافة الامركة السياسية والثقافية وكرست الاحتلال. يشير
شباب الثورات العربية الى تجربتي مصر وتونس اللتين كادتا تسقطان في شباك
'الحوار' الذي كان سوف يبقي على زعيمي البلدين ويفشل المشروع الثوري الهادف
لاحداث تغيير بنيوي شامل. وهنا تتكرر الازدواجية الامريكية في التعاطي مع
مقولات 'الحوار'. فهي ترفضه كمبدأ في التعاطي مع نظام القذافي مثلا، ولكنها
تبعث مسؤوليها، الواحد تلو الآخر، الى المنامة لتجنيد المجموعات السياسية
لمسايرة مقولة 'الحوار' الذي اتضح ان سقفه لن يؤدي الى تغيير سياسي ملموس. فكما
ان المشروع الامريكي الذي اطلق عليه 'المشروع الاصلاحي' فشل في احداث نقلة
نوعية في الاداء السياسي في البحرين، فان مشروع واشنطن للحوار، هو الآخر، يهدف
للقضاء على الثورة كخيار شعبي لاحداث التغيير. واذا كانت مصر وتونس قد شهدتا
تغييرات اوسع، فان قوى الثورة المضادة تعمل ليلا ونهارا لمنع تبلور بديل سياسي
في كلا البلدين يلبي طموحات الجماهير التي ثارت، ويسمح بالهيمنة الامريكية
مجددأ. وتجربة ليبيا هي الاخرى تحولت الى صراع ارادات وسباق في ما بينها لضمان
نتائج التغيير المرتقب. فالغربيون يهدفون لمنع قيام نظام سياسي مستقل، ويسعون
لربط اي تغيير في ليبيا بالارادة والمصالح الغربية، ويخططون لبقاء القذافي في
منصبه فترة اطول. وما الاعلان الذي صدر الاسبوع الماضي بعدم السماح للقذافي او
اي من ابنائه بحضور اولمبياد لندن العام المقبل الا محاولة للايحاء بان نظامه
سوف يبقى حتى ذلك الوقت. والهدف من ذلك اجبار المجموعات المقاتلة على استدعاء
الغربيين لشن هجوم بري على غرار ما جرى في العراق. انه خيار قد يروق للبعض
ولكنه سيكون منعطفا خطيرا في موقف المعارضة العربية من اشكاليات التدخل الاجنبي
الذي يتحول الى احتلال وهيمنة سياسية وعسكرية. وهنا سيظل التساؤل قائما: اين
يرسم الخط الاحمر بين الحق في اقامة نظام سياسي بديل، واستدعاء القوات الاجنبية
للتدخل العسكري المباشر الذي تحول في الماضي الى احتلال مباشر؟ ان اشكالية
التحرر من انظمة القمع والاستبداد والقبول بمبدأ الاحتلال الاجنبي ستظل مثارا
للقلق والتشوش الذهني والسياسي لمدى بعيد. وفي المضمار نفسه، فان الاستعجال في
خيار 'الحوار' مع انظمة شمولية ترفض مبادىء الدولة الحديثة كالشراكة السياسية
واقامة حكم القانون وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحكم نفسها، واحترام حقوق
الانسان وفق المواثيق الحقوقية الدولية، يعني القبول بمبدأ استسلام الثورة لقوى
الظلام والرجعية. والبديل لذلك يتمثل باصرار الثورات العربية على مبدأ الحرية
والتخلص من الديكتاتورية وانظمة الحكم الشمولية، وتعميق القناعة بان 'الحوار'
المفروض سواء من قبل الانظمة نفسها ام من واشنطن ليس الا خطة خبيثة لافراغ
الثورات من محتواها وحرف اهدافها واعادة الامور الى المربع الاول مع تغييرات
سياسية طفيفة. ان مقولة 'الواقعية السياسية' و'البراغماتية' يجب ان لا تتحول
الى بديل للحلول الثورية التي هي خيار الشعوب، لان الخيار الامريكي اسقاط كافة
الثورات والحفاظ على انظمة الاستبداد والقمع والاحتلال. هذا الصراع سوف يتواصل،
لكن الامر المحسوم ان وعي شباب الثورة هو الضمان الاقوى والبديل الواقعي للسقوط
مجددا في وحل الحرفية السياسية ودهاليز المساومات والتنازلات التي كثيرا ما
وصلت نهاية مسدودة واوقفت قطار الثورة وقضت على طموحات الاحرار، وهذا ما لا
يريده الثوار.