بقي الجانب الغربي من الخليج منذ بدء (ربيع العرب) في الخامس من كانون الأول
(ديسمبر) الماضي وحتى الآن، مفتوحاً على جنوح غرائزي منفلت، في رد فعل على ما
تعتبره قيادات مشيخات الخليج تحديات مصيرية، مع ارتطام موجات الثورة بتخوم
الكيانات الجيوسياسية الخليجية، وما أحدثت من هزّات عنيفة في قواعدها، ومصادر
وجودها، ووضعت على المحك مشروعية القوة والدعاوى التاريخية المزعومة. لأولئك
الذين تساءلوا عن التوافق الاستثنائي، أو بالأحرى تحالف الطوارئ والخطر المشترك
بين الرياض والدوحة، أن يلفتوا النظر الى أن الطموحات المتناقضة تتوارى حين لا
تكترث قوانين التغيير في تاريخ الدول بالتموضعات المفتعلة، في محاولة للهرب من
الاستحقاق الديموقراطي. حينئذ فحسب، يتوحّد المشهد الخليجي، وتصبح الديكتاتورية
العائلية وحدها (المشترك)، وتكون المواجهة رهاناً جماعياً لدرء الاحتجاج الشعبي
المدفوع بمطلب التغيير، فلا تعدو أي دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي سوى نسخة
مأثومة من الأخرى.. ببساطة لأن الديموقراطية خطر مشترك، وهذا يفسّر توحيد خطة
المواجهة: اعتقال ومحاكمة متظاهرين في سلطنة عمان، اعتقال ناشطين حقوقيين ودعاة
إصلاح وفصل وظيفي لأعضاء نقابة المعلّمين في رد فعل على المطالبة بالإصلاح
السياسي، وترويع الإصلاحيين إلى جانب التغييب الإعلامي للنشاط المطلبي في قطر
(شكا لي إعلامي وناشط قطري معروف دور القبة الإعلامية الكاتمة التي تصنعها قناة
الجزيرة في تجهيل وتجاهل المكنون الاحتجاجي المحلي)، وإعادة إنتاج نموذج
الإمارة الدينية في السعودية منذ الإعلان عن الأوامر الملكية في 17 آذار (مارس)
الماضي، وانفجار غرائزي بلون الانتقام والتطهير الطائفي في البحرين، وأخيراً
الجمود المريب في الحياة السياسية الكويتية..
حالة الطوارئ غير المعلنة التي تعيش في ظلها دول مجلس التعاون الخليجي حملت
رسالة واضحة أنها كيانات غير شعبية، أي لا تستند إلى توافق شعبي، وأن التدابير
القمعية الموحّدة من عمان جنوباً الى الكويت شمالاً تشي بفلسفة حكم من طراز
خاص، تصل في لحظة تحوّل تاريخية إلى نقطة الانكشاف، فنكون، في حال الثورة
المصرية، مثالاً، أمام رؤيتين متقابلتين: حكومات الخليج تريد أن تبقى الثورة
المصرية، مصرية في انطلاقتها، ودينامياتها، ومفاعيلها، ورسالتها، بل ثمة من
يأمل ويعمل لجهة إحباط محاولات نمذجة الثورة المصرية (وكل الثورات العربية)
وإيصال الشعوب التائقة للحرية الى مستوى النفور المطلق وصبّ اللعنات على اللحظة
التي فكّرت فيها بالثورة. في المقابل، تتمهّد رؤية الشعوب الخليجية حلم التاريخ
المثخن بكل أشكال الانهزام والاستقالة المفجعة عن الأفعال الإنسانية والحضارية
الكبرى، الأمر الذي يجعل الرهان الكبير على ثورة مصر بأن تكون (أم الثورات)
العربية له ما يبرره.
في الرؤيتين المتضادتين تكمن التوترات المستورة والمعلنة بين الشعوب والحكومات
في الخليج، بل بين نموذج الدولة والمجتمعات التي تخضع لها، بالرغم من المجهود
الاستثنائي الذي تبذله حكومات خليجية بهدف توجيه بوصلة الثورة الى ساحات محددة،
في سياق تصفية حسابات متبادلة، بما يفضي الى تحويل الثورة الى موضوع خصومة بين
أنظمة متصارعة، وليس كاستحقاق شعبي في لحظة تاريخية حاسمة.
في القمة التشاورية بين قادة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض في التاسع من
أيار (مايو) ما ينبئ عن شكل في الجنوح غير مسبوق، رغم أن أمد الجنوح السياسي
قصير في كل السباقات بين الخصوم. غابت عن واضعي أجندة القمة الخليجية التشاورية
حقائق تاريخية وجيوسياسية، إلى جانب غياب معطيات راهنة ضاغطة. من بين الموضوعات
المدرجة على جدول أعمال القمة التشاورية كانت المبادرة الخليجية لحل أزمة ـ
الثورة اليمنية، والتدخل الإيراني في الشأن البحريني (مفارقة في جدل الوصاية لا
بد من الإضاءة عليه للضرورة في لحظة صفاء).
المبادرة الخليجية في الموضوع اليمني تحوم حول لعبة الصورة والظل، أي في حال
تسييلها نصبح أمام المواجهة بين الرئيس ومخزون (المرجع) الاحتجاجي الكلاسيكي
الذي تصلّبت شرايين الثورة لديه، أعني أحزاب اللقاء المشترك، التي تريد
المبادرة الخليجية أن تمنحها مكافأة نهاية الخدمة، فيما تغيب الكتل الشعبية
الكبرى مثل: ائتلاف شباب الثورة، والحشد الشعبي الحوثي في الشمال، والقواعد
الشعبية التي تمتثل لتعليمات الحراك الجنوبي. المبادرة الخليجية تجاهلت الكتل
الشعبية الثلاث، ببساطة لأنها وحدها القادرة على صنع اليمن الديموقراطي، بما
يؤسس لنموذج ثورة في الجزيرة العربية، وحينئذ ستكون اتجاهات الثورة العربية
جنوبية غربية، وبدلاً من الخوف من خطر القاعدة في اليمن، يكون الخطر هذه المرة
بطعم آخر ـ الثورة الشعبية.
من نتائج تناقضات تاريخ العلاقات العربية، أن تضطلع دولة الإمارات بمهمة متابعة
سير المبادرة الخليجية، فيما يتوارى الجانب السعودي عن الأنظار، رغم كون اليمن
همّاً سعودياً دائماً..رفضُ الثوّار في اليمن المبادرة الخليجية يستبطن، من دون
ريب، موقفاً احتجاجياً غير مباشر على التدخل السعودي في الشأن اليمني، إن لم
يكن يطلق رسالة حاسمة بأن لا عودة الى شكل الاستتباع في العلاقة بين صنعاء
والرياض..
التاريخ الجاري ليس متصالحاً مع الجنوح السياسي الخليجي، وإن بدا كذلك، فآيات
الزحزحة في المواقف تنزل تباعاً على الذين اعتقدوا بأن ثمة ادقاعاً يسبغ على
تحالف الخطر المشترك، يحول دون تولّد فرصة ما لتحرير إرادة الشعوب الخليجية من
المصادرة الساخرة والعاتية. نلحظ بوادر انفراط التحالف بين عواصم مجلس التعاون
الخليجي، ليس، بالتأكيد، على وقع وهم نجاح مهمة قوات درع الجزيرة في البحرين،
فذاك فشل للدولة لن يعوّضه كل شركات العلاقات العامة في أوروبا والولايات
المتحدة، فالصورة المتوحشّة التي فرضت نفسها على وسائل الإعلام الدولية، وكذلك
تقارير المنظمات الحقوقية مخزية الى الحد الذي ستجعل (المزيِّفين ومرمّمي سمعة
المستبدّين) في حال تردد طويل لجهة قبول مهمة إعادة طلاء الأصنام!
إشارات متوالية عن انفراط عقد التوافق الاستثنائي بين دول مجلس التعاون
الخليجي، بسبب (الاستثنائية) القاتلة التي أفضت الى جمود شبه تام للدبلوماسية
الخليجية عالمياً. بقي العمل الخليجي المشترك مقتصراً طيلة شهر على مهمة (تحصين
الذات) أمام خطر الثورة، ثم جاء الضلوع السادي في الحركة الاحتجاجية السلمية في
البحرين ليعزل حكومات الخليج عن العالم الآخر.. وسواء كان اجتياح قوات درع
الجزيرة البحرين بغطاء أميركي أم غير ذلك، فإن مجرد التنصل الأميركي لتبعات
الاجتياح وأشكال الخزي المحيطة به، تجعل من قرار الاجتياح إثماً استراتيجياً لا
يتمنى أحد الانتساب إليه..تحوّل الصمت المشين الأوروبي والأميركي حيال القمع
السادي ضد المشاركين في الاحتجاجات السلمية في البحرين الى وخز مؤخَّر للضمير،
ينعكس حالياً في تصريحات رسمية ناقدة للسلوك الدموي لقوات درع الجزيرة، ومعاضدة
إرضائية للمطلب الحقوقي المشروع للشعب البحريني.. رسائل وصلت من أكثر من عاصمة
خليجية عن استعداد للحوار لدى العائلة المالكة في البحرين، بعد أن كان قرار
الحوار من عدمه سعودياً بامتياز، هكذا كان يجيب أمير الكويت على مبادرات
الوساطة، بل حتى ملك البحرين كان يرفض الرد على الاتصالات، للسبب نفسه، لأن
الرياض قررت أن تقلع الشوك بيدها، وكفلت دفع كل التكاليف الناجمة عن خسائر في
الاقتصاد والسمعة والسياسة، وقبل الأميركيون لعب دور المتربّص، ولكن السعودية
تجد نفسها اليوم، بفعل متغيرات جديّة سياسية وميدانية إقليمية ودولية، ملزمة
بتغيير السلوك السياسي المتعنّت.. تصريحات ملك البحرين في العاشر من أيار
(مايو) حول الحوار مع إيران، رغم أنها لم تعكس متغيّرات ميدانية عاجلة ولافتة،
ولكنها بالتأكيد تشي بعدم اتساق في المواقف السياسية والاستراتيجية.
من وجهة نظر أكثر من دولة خليجية (عمان والكويت بدرجة أساسية)، أن إطالة أمد
الأزمة في البحرين، وتداعياتها على العلاقات الخليجية الايرانية، والخليجية
العراقية، يؤول، بالتأكيد، الى إشعال أزمة إقليمية شاملة تفوق قدرة دول مجلس
التعاون الخليجي مجتمعة على التحمّل. خطة الفدرلة بين دول مجلس التعاون الخليجي
لم تكن عابرة، ولكن الهواجس أكبر من الأحلام في هذه المنطقة التي تحكم علاقات
قادتها ارتيابات جمّة متبادلة، وأن الشقيقة الكبرى، شأن الراعي الاستراتيجي
الأميركي، لن تتردّد في التخلي عن أخواتها الصغار حين يكون السيف قريباً من
المنحر..
الكلف السياسية لشهر أو أكثر من الجنوح الخليجي عالية جداً، وأن الذين قرروا
بناء تحالف طوارئ على نحو عاجل بهدف دفع خطر مشترك، سيولّون مدبرين حين تحين
لحظة الاستحقاقات الشعبية، وهي بالتأكيد غير بعيدة. في نهاية المطاف، إن خطة
الطوارئ الخليجية القائمة على إعادة إنتاج السلطة الشمولية عزلت الحكومات عن
الأغلبيات الشعبية في كل دول مجلس التعاون الخليجي، وأن العلاجات الموضعية
تندغم على الفور في بنية الأزمة المزمنة (هل من يخبر عن مفاعيل التقديمات
الاجتماعية في البحرين والكويت والسعودية؟). باختصار، إن شهراً من الأزمة في
الخليج كافٍ لوضع دوله أمام حقيقة العقم التاريخي الذي تعاني منه، ولا حلّ يسير
إلا بإرساء أسس الدولة المدنية والديموقراطية..