gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
معوقات التغيير الديمقراطي في الخليج
د.سعيد الشهابي

 
2011-05-03 - القدس العربي

منذ انطلاق الثورات العربية قبل اربعة شهور دخلت دول مجلس التعاون الخليجي في سباق مع الزمن لمنع حدوث التغيير الديمقراطي الذي تعصف رياحه ببقية دول العالم العربي. وفي هذا السياق تستعمل كافة الوسائل المتاحة للحيلولة دون تفاقم الاوضاع باتجاه التغيير. الحكومات الخليجية لا تعتقد ان التغيير في دولها امر حتمي وان كانت تعلم انها اصبحت امام عدسات العالم خصوصا مع استمرار ربيع الثورات العربية، وتوسع دائرتها.
ويؤكد موقف دول مجلس التعاون ازاء الثورة الشعبية في البحرين تصميمها على قمع اية تحركات من شأنها ارباك الوضع القائم او التأثير الجذري عليه. بعض تلك الدول اتخذ قرار المشاركة في الاجتياح العسكري للبحرين لايصال الرسالة ليس لشعب البحرين فحسب، بل لبقية شعوب المنطقة ان المجلس لن يسمح بحدوث تغييرات جذرية في منظومة الحكم التي هي الفريدة من نوعها في العالم. ويمكن القول انها المرة الاولى في السنوات الاخيرة التي تظهر دول المجلس موقفا متضامنا كهذا، برغم الاختلافات في ما بينها ازاء العديد من القضايا المهمة خصوصا في مجال العلاقات مع الدول الاقليمية وترسيم الحدود البرية و البحرية. هذه المواقف الاحترازية لا تلغي حقيقة اخرى وهي عمق القلق الخليجي ازاء ما يجري في الدول العربية الاخرى. ويمكن القول ان التغيير في مصر عامل جوهري في تحريك الدبلوماسية الخليجية في الاسابيع الاخيرة. هذا التحريك يهدف، ضمن ما يهدف اليه، لتمهيد الطريق لاثبات الموقف الخليجي كلاعب اساسي في الشؤون العربية في مقابل القوى المستقبلية التي ستنجم عن التغيرات الديمقراطية.
دول مجلس التعاون قلقة ازاء التغيرات عموما ولكن مصر لها موقعها الخاص في العالم العربي، وسوف يكون نظامها المستقبلي مؤشرا لشكل الوضع العربي عموما، وما اذا كان التغيير سوف يمتد الى دول مجلس التعاون. والصراع الخفي محتدم في اروقة الدبلوماسية والعلاقات العربية، بين قوى التغيير وانظمة الحكم التقليدية. يقول شادي حامد المحلل بمركز بروكينغز في قطر 'لا شك أن السعوديين قلقون جدا بشأن التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية المصرية. مصر غيرت بالفعل سياستها الخارجية خلال فترة قصيرة من الزمن'. ومن اسباب القلق السعودي ان مصر 'سهلت بعد مبارك تحرك الفلسطينيين من قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية (حماس) عبر حدودها مع غزة'. هذه المؤشرات تؤكد ابتعادا تدريجيا عن السياسة التي تناغمت بشدة مع الروح الموالية للغرب التي ميزت السياسة الخارجية في معظم العواصم الخليجية لعشرات السنين. وحيث ان منطق الثورة ينسجم تماما مع ايديولوجية الحكم في ايران، فان الحساسية السعودية للمنطق الثوري كانت متوقعة. يقول تيد كاراسيك المحلل في شؤون الدفاع المقيم في دبي 'صناع السياسة في الخليج يشعرون بالقلق من تسلل ايران الى مصر'. ويضيف: 'السعودية تسعى الى استعادة ثقلها في المنطقة وتقوم بهذا بأسلوب حازم جدا. انها لا تريد أن ترى مصر تمحو اي مكاسب سعودية'. وتجدر الاشارة الى االسعودية استقبلت الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بعد الثورة الشعبية التي اطاحت به في كانون الثاني/ يناير واصبحت مستعدة لسياسات دموية لمواجهة التهديدات المحتملة بسبب نزوع بعض ابناء الخليج للثورة ضد العائلات الحاكمة. ان ثورة الشعوب العربية لا تحسم خياراتها في الشوارع فحسب بل في الاتصالات السرية التي تجريها دول مجلس التعاون بزعامة المملكة العربية السعودية، وهي اتصالات تهدف لمنع حدوث التغيير الجذري في الدول التي تخوض شعوبها تجربة العمر مثل ليبيا واليمن وسورية والاردن والبحرين. ومع اصرار اللاعبين الدوليين، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا (ومعهما اسرائيل) على 'التضامن' مع دول مجلس التعاون، بالسعي المتواصل لمنع انتصار الثورات او على الاقل تحجيم نتائجها ، يتواصل التوتر العلني والسري في العلاقات، ومعه الضبابية سواء في المواقف ام النتائج. انه صراع تحسبه دول مجلس التعاون الخليجي، حاسما، بين ان تكون او لا تكون. انه صراع مرير، ادى الى حمامات الدم التي تسيل في اليمن وليبيا وسورية والبحرين، ويهدد بالمزيد منها مع اصرار التحالف الخليجي - الامريكي - البريطاني - الاسرائيلي على وأد الثورات ما امكن.
والسؤال هنا: ما الذي يدفع دول مجلس التعاون للشعور بقدرتها على وأد الثورات او احتوائها؟ كيف تستطيع هذه الدول، وهي الصغرى من بين دول العالم العربي التصدي بهذا العناد غير المحدود لحركة الشارع العربي التي تشكلت بمشاركة الملايين في الاحتجاجات والتظاهرات التي لم يشهد مثلها منذ قرابة نصف قرن؟ فهل هذه السياسية قادرة على تحقيق اهداف العائلات الحاكمة في دول المجلس المتمثلة اساسا في الحفاظ على نمط الحكم الخليجي من جهة واحتواء ربيع الثورات من جهة اخرى؟ فمهما سعى البعض لتقليل اثر الدبلوماسية السعودية التي استطاعت اقتياد بقية العائلات الحاكمة وراءها فالامر المؤكد ان الولايات المتحدة تراجعت كثيرا عن مواقفها التي اعلنتها في الاسابيع الاولى من ربيع الثورات، واصبحت أقل حماسا للتغيير الديمقراطي، وأكثر ميلا للموقف الخليجي. وليس معلوما بعد مدى تأثير مقتل اسامة بن لادن على سياسات واشنطن في الشرق الاوسط. فقد كان الغربيون يبررون مسايرة السعودية والتغاضي عن انظمة الاستبداد الخليجية بانها من ضرورات انجاح 'الحرب ضد الارهاب' التي يساهم مجلس التعاون في تمويلها بشكل كبير. وفي الاسابيع الاخيرة اتضحت بقدر ما خريطة التحالف ومهمة كل من عناصرها. فالتخطيط ذو الطابع الاستراتيجي تمارسه بريطانيا، وتختص الاستخبارات الاسرائيلية بمهمات الامن والعمل العسكري والاستخباراتي الميداني، وتقوم واشنطن بتوفير الغطاء الدولي للاجراءات والقرارات ذات الصلة بما يجري على الارض العربية من ثورات تغييرية. هذا التحالف يمارس فعالياته في السر والعلن، ويقف بشكل حازم وراء قرارات مجلس التعاون، وبشكل اكثر تحديدا، يدعم الدبلوماسية السعودية. هذا الصراع المرير الذي لا تظهر منه الا مقاطع محدودة، غير مسبوق في التاريخ الحديث. فهو صراع بين الشعوب التي لا تمتلك من الاسلحة سوى الارادة والعزم والتصميم ووضوح الرؤية، والقوى المهيمنة على مقاليد القوة، وهي قوى متباعدة في جغرافيتها، متقاربة في ما تهدف اليه، خصوصا توافقها على مواجهة ثورات الشعوب والسعي المتواصل، من خلال كافة الاسلحة المتاحة للثورة المضادة، لترويض تلك الثورات، ان لم يمكن وأدها. وبرغم ما شهدته المنطقة من حروب على مدى العقود الثلاثة الماضية، فان ما تمر به اليوم من صراع محموم بين قوى الثورة والثورة المضادة غير مسبوق من حيث التباين الواضح في الاهداف، وضراوة المواجهة، وتكاليفها المادية والبشرية، وابعادها الاخلاقية والقانونية. ولذلك فليس من قبيل المبالغة القول بان مستقبل المنطقة لن يكون كماضيها، ومع صعوبة التنبؤ بما ستكون عليه الخريطة السياسية والمزاج الشعبي في مرحلة ما بعد الثورة، فمن المؤكد ان دول مجلس التعاون الخليجي لن تبقى كما هي عليه الآن، وان تغيرات كبيرة بانتظار التبلور على كافة الاصعدة.
التغييرات السياسية المطلوبة في دول مجلس التعاون سوف تضغط بشكل متواصل على اوضاع المنطقة، الامر الذي تدركه السعودية جيدا، وتسعى لمنعه. وقد استطاعت دول المجلس على الاقل تأجيل التغيير من خلال امور عديدة: اولها انها استطاعت ترويض شعوبها منذ زمن للقبول بنمط حكمها الذي تهيمن عليه العائلات الحاكمة وان هذا الوضع تعمق في اللاشعور الشعبي، وان تغيير ذلك الشعور ليس سهلا. وعملت حكومات الخليج على استيعاب الولاءات القبلية بمد جسور التواصل مع القبائل وتعيين بعض اعيانها في مناصب عليا. ولذلك كثيرا ما كان الصراع يتخذ اشكال المواجهة الفكرية والنفسية بين الجديد والقديم، بين قيم الدولة الحديثة والاعراف القبلية التي تستعصي على التجديد والتطوير، ثانيا: ان المال النفطي لعب دورا كبيرا في تحييد المواقف الدولية حتى في ابشع حالات القمع كما هو الحال في البحرين. فحتى بعد ان اصدرت محكمة عسكرية سرية احكاما باعدام اربعة بحرانيين بتهمة قتل شرطيين، اقتصرت الانتقادات الحادة على بيانات المنظمات الحقوقية، بينما اكتفت واشنطن بالقول بانها لا تعتقد ان الخيارات الامنية سوف تحل مشاكل البحرين. المال النفطي هو الذي يسيل لعاب دول الغرب خصوصا في هذه الفترة التي تعاني اقتصاداتها فيها من التراجع والضعف. ولا تخفي واشنطن ولندن الاعتبارات المادية والاقتصادية لتبرير مواقفها غير الداعمة لثورة شعب البحرين او الدعوة لسحب القوات السعودية من ذلك البلد. ثالثا: ان اشكالية علاقات الغرب مع ايران معوق غير قليل، فما ان تواجه دول مجلس التعاون تهديدات داخليا حتى تلوح بالخطر الايراني كذريعة للقمع، وتفتح ملف الطائفية كوسيلة للتشويش على الحقيقة. رابعا ان البعد العسكري والاستراتيجي يلعب دورا في توجيه السياسات الغربية. فما ان تطرح الثورات العربية وضرورة دعمها، حتى يطرح الغربيون، بالاضافة للعامل الايراني، القواعد العسكرية في دول مجلس التعاون الخليجي مبررا لعدم اتخاذ واشنطن مواقف داعمة لحركات التغيير في تلك المنطقة. وكثيرا ما اعتقلت السعودية ناشطين بعد توقيعهم عرائض تطالب العائلة السعودية باصلاحات سياسية ودستورية. وهناك حراكات سياسية في سلطنة عمان والامارات تطالب باصلاحات ادارية وسياسية. ولم تخف الولايات المتحدة وبريطانيا سياستهما بان للمصالح اولوية على المبادىء والقيم، وانهما مستعدتان للصمت على انتهاكهما اذا كان اتخاذ موقف ما سوف يؤثر على المصالح. وما يزال موقفهما ازاء العدوان الاسرائيلي ضد لبنان في 2006 و غزة 2008 ماثلا اذ رفضتا الضغط على 'اسرائيل' لوقف اطلاق النار برغم المطالبات الدولية بذلك.
العامل الخامس: قدرة الحكومات الخليجية على الهيمنة المطلقة على النخب المثقفة وطبقة رجال الدين والاعلاميين. وقد اعتادت الامم والشعوب على وجود دور فاعل لهذه القطاعات في مشاريع التغيير، بينما لم تكتف تلك القطاعات بالصمت بل دعمت الانظمة السياسية ووقفت معها ضد مطالب الاصلاح التي انطلقت في العلن والسر. وفي غياب الدور الفاعل للجهات الفكرية الفاعلة، تمكنت انظمة الحكم الخليجية من الاستفراد بالاصوات القليلة التي انطلقت مطالبة بالاصلاح والتغيير، في ما عدا البحرين التي شاركت نخبها المثقفة في الثورة الاصلاحية، ولذلك استهدفوا بالقمع والسجن والتعذيب. العامل السادس، ان السعودية طرحت سلاحا فاعلا، برغم ضرره على الامة، وذلك بترويج الطائفية سلاحا مشروعا في المعركة ضد دعاة التغيير. وهذا السلاح يستعمل الآن في مصر بترويج الصراع الديني بين المسلمين والمسيحيين، وبين السلفيين والصوفيين والشيعة، وفي الاردن بين السلفيين وبقية المسلمين، وفي اليمن كذلك. انه سلاح مؤثر على المدى القريب، لانه يؤدي الى تخندقات دينية او مذهبية تشتت الموقف الوطني وتمنع الاجماع على المطالبة بالتغيير السياسي. كما انه سلاح فتاك، يشبه السلاح الكيماوي الذي يؤدي دوره على المدى القصير ولكن آثاره البعيدة المدى مدمرة وفتاكة. العامل السابع يتمثل بالسعي لشراء المواقف الوطنية بالمال، فالسعودية مثلا خصصت اكثر من مائة مليار دولار للانفاق العام على امل اخماد اصوات دعاة التغيير، وخصص مجلس التعاون عشرين مليارا على مدى عشر سنوات للانفاق في سلطنة عمان والبحرين. ان السعي للتشويش على المطالب السياسية بالاموال النفطية سلاح فاعل على المدى القصير من شأنه تأجيل المشكلة وليس حلها، وهو واحد من المعوقات ولكنه لن يكون حاسما في الصراع من اجل التغيير والديمقراطية في منطقة يصر حكامها على البقاء خارج حركة التاريخ.
هذه المعوقات تمثل تحديا حقيقيا امام دعاة التغيير، برغم قلة عددهم في اغلب بلدان الخليج، ولكن ربيع الثورات العربية سيكون له اثر يتجاوز حدود الدول التي تنتصر ثوراتها، وسوف تصل آثاره الى كافة زوايا العالم العربي، ولن تكون دول مجلس التعاون الخليجي بمنأى عنه، خصوصا مع استمرارها في رفض اللحاق بركب التغيير الذي يجتاح المطقة. فبقاء هذه الدول خارج عملية التغيير السياسي الذي تأخر كثيرا ستكون له آثاره المدمرة ليس ضمن الحدود الجغرافية لتلك الدول بل على العالم العربي كله، لانه سوف يؤدي الى حالة استقطاب تزداد وضوحا مع تعمق الظاهرة الديمقراطية في البلدان الثائرة، وسوف تواصل السعودية التصدي لمنع انتشار تلك الظاهرة بالمال والسلاح والعلاقات مع الغرب. انه صراع سوف يتخذ ابعادا ايديولوجية في المستقبل غير البعيد، بين منظومتين: احداهما تتبنى تسعى لبناء الدولة الحديثة التي تدار من الشعوب من خلال ممثليهم المنتخبين وفق دساتير توافقية تعاقدية، والاخرى تصر على حصر الحكم بعائلات تملك وتحكم وفق قيم التوريث والحكم المطلق على غرار منطق التفويض الالهي الذي حكم الغرب في العصور الوسطى. وبذلك لن تكون البحرين وحدها المستهدفة بالتدخل الذي تقوده السعودية، بل سيشمل الاستهداف كافة الشعوب الثائرة. وسوف تجد النخب المثقفة والناشطة نفسها بين خيارين صعبين: بين الانتماء للثورة او الانحياز للثورة المضادة.
 
 

copy_r