الكتاب: العقيدة والسياسة في السعودية
المؤلف: د. فؤاد إبراهيم
الناشر: دار الملتقى، بيروت
عدد الصفحات: 347 صفحة من القطع المتوسط
العلاقة بين العقيدة الوهابية والمشروع السياسي السعودي، ليست بالعلاقة
المركّبة، كما نشاء تفسيرها أحياناً، وإن جاءت النتائج متخالفة مع طبيعة تكوّن
العلاقة. ولأن العقل البشري ينزع نحو سبر عميق لحقيقة التبدّلات الكبرى، التي
تكون من وجهة ما قائمة على معادلات معقّدة إجتماعية وثقافية وسياسية، فإنه لا
يحسب أن علاقة بسيطة يمكن أن تؤول إلى نتائج جبّارة. فهل يمكن، على سبيل
المثال، أن تنجب جلسة واحدة، كادت أن تكون عابرة لولا تدّخل عنصر المرأة، بين
الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبحسب الإتفاق المعلن، على
مكوث الشيخ في الدرعية وعدم مغادرتها خوفاً من انتقال الولاء إلى حاكم العيينة،
في مقابل أن يتنازل أمير الدرعية، محمد بن سعود عن المكوس والضرائب التي كان
يأخذها من الرعيّة على أن يتم تعويضها من أموال الجهاد، مشروع دولة تستوعب أغلب
مناطق الجزيرة العربية؟
وإذا كنا نقتفي، هنا بالتحديد، الجدل النيتشوي في تقرير قيمة القضية بالثمن
الذي تكلّفه وليس بما تحققه، فإننا نقف أمام ظاهرة تبعث على الحيرة، بالنظر إلى
العوامل المناهضة لنجاحها. في تلك الحقبة التاريخية، كانت القوتان العظميان
اللتان تتقاسمان الشرق هما الدولة العثمانية والدولة القاجارية، في وقت لم تحسم
فيه القوى الإستعمارية مراكز نفوذها الدائم. وفيما كانت المنطقة الواقعة ما بين
البصرة وصولاً إلى عمان ساحة صراع نفوذ بين العثمانيين والقاجاريين، كانت
الجزيرة العربية، وخصوصاً وسطها، خارج حسابات القوى الإقليمية والدولية في ذلك
الوقت.
كان بالإمكان رسوخ المعادلات القائمة، فلا شيء يعكّر صفو قوى النفوذ التقليدية،
باستثناء السجال الدائر بين العثمانيين والقاجاريين على العراق، وأجزاء من
الخليج، وبعض المناوشات المتفرّقة في بلاد الشام. فإذا كان لا بد من منافسة،
فيجب أن تتم على قاعدة أخرى، خارج قوانين السياسة المباشرة. إنها مديونية
المعنى التي شقّت درباً جديداً، تضفيه الوهابية ـ السعودية على رؤيتها الكونية
ومشروعها الدينيوي (الجامع بين الدين والدنيا). برؤية أخرى، إنه المقدّس الذي
يضفي على العنف معنى متعالياً، ويخرجه من دائرة المسائلة الدنيوية، ويهبه صفة
تمثيل الحقيقة، حيث تكتمل الثلاثية الوظيفية، بحسب محمد أركون.
لا يكّف نظام المعنى الديني الذي أوجدته العقيدة الوهابية عن إنتاج حزمة مبررات
تشحن الغريزة القتالية لدى المؤمنين بها، وتمدّهم بطاقة الإقدام ببسالة على
مواجهات، قد أوعز إليها يقينهم الديني، وشكّلت الغنائم المأمول حصولها حافزاً
إضافياً على خوضها دون هوادة.
فالرابطة الوثيقة بين الرؤية الأيديولوجية المؤسسة على تكفير المحيط المجاور،
والمشروع السياسي المحمول على تلك الرؤية صمّمت شكل التحالف الاستراتيجي بين
العلماء والأمراء، ورسمت أيضاً طبيعة الأدوار المنوطة بكل منهم في سياق العمل
الدؤوب لناحية إدخال الرؤية حيز المشروع العلمي. وفق هذا الترتيب، حقّق العلماء
والأمراء تجانساً نموذجياً لجهة تقاسم الأدوار أول مرة، ولتوحيد الرؤية العقدية
ومملياتها العلمية مرة أخرى. إذ لا يمكن الفصل، والحال هذه، بين الموقف
التيولوجي لدى العلماء عنه لدى الأمراء، إذ لم يكن بإمكان الأخيرون إعلان
الجهاد إلا بعد أن يصدر العلماء حكمهم الديني في المجتمعات المستهدفة. بل نجد
في حالات كثيرة أن العلماء والأمراء يتقاسمون مهمة صوغ الحكم الديني، كما تخبر
رسائلهم إلى البلدان، وعلماء المذاهب الأخرى، وولاة الأقطار العربية. ما نسعى
للإضاءة عليه هو أن التكفير كان أساس الغزو، ولا غزو إلا بعد تكفير، على الأقل
هكذا كان حال أغلب الغزوات التي تمّ تجريدها ضد المناطق منذ الدولة السعودية
الأولى وصولاً إلى الدولة السعودية الثالثة.
كان اختيار الحجاز مثالاً للعلاقة بين التكفير والغزو مقصوداً، ببساطة لأنه لا
يمكن تصوّر أن تعود مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى الجاهلية، وفق التصوّر
الوهابي، وهما جزءان من الحجاز الذي يمثّل، بحسب الباحثة الحجازية مي يماني،
مهد الإسلام. لقد أعيد تركيب مشهد تاريخي وثيولوجي عن مكة في العصر الجاهلي،
وتم إعداد جيوش الصحابة الفاتحين، وهم يحملون فؤوسهم لهدم الأوثان من فوق جدران
الكعبة. في منتصف القرن الثامن عشر، تنشق سيرة الإسلام التاريخي عن تجربة
إلهامية فريدة، تقتفي بصورة شبه حرفية، تجربة القرن الهجري الأول، بوصفها
التجربة المعيارية في الإسلام التاريخي.
تفشي الأدبيات الوهابية القديمة والحديثة سراً اسكاتولوجياً بتحويل مكة المكرمة
إلى المكان الذي يحتدم على أرضه الصراع النهائي بين الإيمان والكفر، ويضمر
وعداً بانتصار الحق على الباطل، ما جعل تكثيف الإهتمام بمكة التي توصم الرسائل
الوهابية أهلها بالشرك والضلال، ولا سبيل حينئذ لتطهيرها وإعادة الإسلام إلى
ربوعها سوى اعتماد الجهاد ضد قاطنيها، وإزالة كل مظاهر الشرك والبدع من فوق
مساجدها، ومقابرها، وآثارها. طمست بيوت النبي صلى الله عليه وآله، وأهل بيته
وزوجاته وصحابته، لأنها تحوّلت، من وجهة نظر القادمين الجدد، إلى أصنام تعبد من
دون الله.
وفق تلك الرؤية العقدية التوسّمية، تمّت عسكرة الدعوة، وبني الجيش العقائدي
لهدم الصروح القائمة، وإحلال نموذج دولة الدعوة، كما بشّر بها الشيخ إبن تيمية،
التي تضطلع بمهمة تطبيق الشرع تحقيقاً للعدل، ولكن الجيش العقائدي الذي يحقق
منجز الدولة، يسحب نموذجه الدعوي من التداول، كونه نموذجاً يقوم على الفتح،
واختراق الحدود، بما يتعارض وسيادة الدول وقوانين العلاقات الدولية. فالطموح
المنفلت لدى الجيش العقائدي الممثل في (الإخوان)، ينطوي على مصدر تهديد لدولة
إبن سعود، ولذلك قرر تفتيت بنية جيشه، فانتهى به الحال معهم من التفاهم إلى
التصادم، أما من بقي من فلولهم فعمل على إعادة دمجه في الجهاز البيروقراطي
الجديد، ولكن على أسس مختلفة، منضبطة وفق اشتراطات الدولة القطرية.
مع نشأة الدولة السعودية الحديثة العام 1932، برزت تحدّيات جديدة، أفرزتها
التحوّلات القهرية التي شهدتها الدولة على مستويات إجتماعية واقتصادية وسياسية.
وكان من الطبيعي أن تنجب برامج التحديث جنيناً ليبرالياً، وإن بدا غير مكتمل
النمو، ولكّنه شكّل هويّته الخاصة داخل الدولة، رغم محاولاته الإنفصال عنها. لم
تسمح الدولة لهذا الجنين أن ينمو خارجها، درءً لتداعيات مستقبلية تدركها جيداً،
فقد تنبّهت منذ وقت مبكر إلى أنها تنزع إلى استيراد التكنولوجيا من دون
أيديولوجيا، أي التعويض عن الحداثة بالتحديث، رغم أن غاية ما يمكن لخيار من هذا
القبيل تحقيقه هي تأجيل المفعولات الثقافية والسياسية لبرامج التحديث.
كان بإمكان الدولة أن تستوعب الإتجاه الليبرالي القابل لأن يكون عضداً لها، بعد
إخفاقه في التحرر من قبضتها، ولكنها اختارت أن تنجب نموذجها الليبرالي الخاص،
بإعادة تأهيل طفولي للأيديولوجية المشرعنة لها، أي إنتاج ليبرالية سلفية،
مصمّمة لدفع تهمة ارتباط التطرّف الديني بمنابع محلية. الليبرالية السلفية بكل
التناقض التام في بنية ثنوية كهذه، ورداءة النموذج المتولّد عنهما، حملت رسالة
متضاربة، فهي متشدّدة في الداخل متسامحة في الخارج.
على أية حال، فإن محاولات التوليف لا تقتصر على مجرد احتواء أخطار خارجية أو
تطوير نموذج داخلي، غير ممكن إلا بإجراء جراحي، بل هي تعبير أيضاً عن تجاذب خفي
بين أهل الدعوة وأهل الدولة. فقد اختار كل منهما أن يعيد تظهير نفسه، وكل وفق
طريقته وحساباته الخاصة، فالديني السلفي، وخصوصاً الصحوي، إختار لهجة الإعتدال
لمحاكاة تحوّلات لا يمكن بخطاب متشدّد أن يعبرها بأمان، وكذلك اختار السياسي أن
ينجو بدولته من آثام الإرهاب عبر تصنيع خطاب ديني معتدل. ولكن بين النزعتين،
يضطرم النزاع بين من يريد الدعوة رافعة للدولة، ومن يريد الأخيرة أداة تبشير
بالدعوة. ومن هنا ينبعث سؤال التشدّد الديني بحثاً عن هوية صانعه، والمستفيد
والخاسر منه، لنعبر بعد ذلك إلى الحديث عن معضلة المشروعية الدينية التي لا
يمكن إنجازها إلا وفق شروط يحدّدها الديني السلفي، فتنبجس في لحظة ما عن
انشقاقات متوالية من ثنائية السلطة. وفي ظل وجود شخص ما داخل العائلة المالكة
من يعتقد بأنها ملزمة باحترام السلفية بشكل دقيق، تصبح إمكانية التسوية قائمة
على الدوام.
بيد أن التجاذبات ومحاولات التسوية بين العقيدة والسياسة لاتصمد أمام نزعة
إثبات الوجود القارّة في كل منهما، خصوصاً حين تلتقي المكوّنات عند خطوط التماس
الكبرى، التي تحدّد مصير كل منها. فثمة ما يهدف الديني إلى تحقيقه في المجتمع،
بانبعاثاته السياسية التي تزوّد الديني بقوة تسليحية على المناجزة مع الدولة
تحقيقاً لوجوده الإجتماعي، وتثبيتاً لقدرته على الصمود أمام تحوّلات الدولة،
بما يجعله قوة غير قابلة للضمور. يحلو للسياسي، الماسك بأزمّة قيادة الدولة، أن
يدير مناورة في المساحة التي يتمسرح عليها، بتضييق الخناق على الديني حين يريد
تحميله موبقة التعطيل، ويلجأ إليه حين يتغيا إحباط محاجّة خصومه. ولكن للسلفي
آلياته الخاصة في التمظهر السياسي، فهو لا يكّف عن تزويد أنصاره في الداخل
والخارج بتوجيهات سياسية بلغة دينية محض. فقد تعارض الوهابية، على سبيل المثال،
العمل السياسي حين ترتاب في خسائر محتملة تتكبّدها، ولكنها على استعداد لوضع
لمسة القداسة على السياسة التي تدرأ عنها خسائر منظورة أو تنطوي على مكاسب
محتملة، ولذلك فقد يعارض العلماء الإنتخابات في موطنهم، باعتباره خاضعاً للمجال
السيادي الخاص بهم، ولكن قد تصدر الفتاوى المحرّضة على الإنخراط في المنافسة
الإنتخابية درءً لشرور المرشّحين الآخرين، وتمهيد السبيل لأسلمة الدولة.
وفي سياق مراقبة الخطاب السلفي، ثبوته وتحوّله، نقف أمام نماذج مثيرة قد تفعل
فعلها داخل منظومة معقّدة من التصوّرات، والعقائد، وحتى التقاليد الإجتماعية،
المرتبطة بضروب السلوك الخاص بمكان وسكّان قبل أن تندك في بنية الخطاب السلفي.
لا غرو أن المخزون الأسطوري القابع في اللاوعي السلفي يمثّل أحد مصادر التوجيه
الديني السلفي، وهو ما يسمح له بالتفجّر بطريقة عفوية، وأحياناً متناقضة مع
خطوط اعتقادية أخرى داخل المدرسة السلفية، ولكنها عملية تشكيل العقائد شديدة
التعقيد التي تأبى فصل ماهو ديني محض وماهو شعبي موروث، ولربما أضفت السياسة
لونها الخاص لتضع العقيدة في مواجهة نفسها، وبين خصوم متناسلين من داخلها.
على مستوى الثوابت تبدو موضوعة الوحدة، وإن شئنا التقريب بين المذاهب
الإسلامية، شائكة في الوعي السلفي، من أبعاد عقدية وسياسية، فلا يمكن إغفال
التواطؤ الشفهي بين الديني والسياسي على منابذة موضوعة التقريب، باعتبارها
ثابتة. ومن وحي هذه المنابذة الثابتة، تندلع تبدّلات الموقف من الآخر، فما كان
بالأمس منبوذاً لكونه تقريبياً، يصبح حميمياً بعد أن ينتبذ من التقريب مكاناً
قصيّاً، كما حصل في تبدّل الموقف من فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي نال من
العقاب السلفي ما لم ينله عالم دين آخر بين المسلمين.
تبدّل آخر نلحظه في مسار مشايخ الصحوة، الذين بدّلوا وجهة سيرهم السياسي،
وقبلوا خيار العبور بالدعوة إلى الدولة على إيقاعات ثقافية معصرنة بدرجات
متفاوتة، بغرض إزالة آثار الصخب الصحوي والمشاغبة السياسية المكلفة، والتموضع
في خانة الكتيبة المؤهّلة لتمثيل أيديولوجية الدولة في طورها الجديد.