في واقعنا السياسي، ثمة نزعة شديدة للهروب من الواقع بتلبيسه رداء
المؤامرة، هذه النزعة التي ما فتئت تسلخ الحقيقة لتقذف بضحاياها خارج واقع
معاش. مغذيات الوهم مستمدة ظاهراً من السجل التاريخي العربي والاسلامي المشحون
بذاكرة منشطرة تتأجج بداخلها صور الإنقسامات الفرقية التي تشكّلت منذ الفتنة
الكبرى في عهد الخليفة عثمان (رض) وانداحت في وقت لاحق في هيئة تمزّقات عصبانية
تلفّعت تارة برداء مدرسي وتارة برداء تيار فكري وثالثة برداء سياسي حزبي..
إن قيام الدولة الحديثة كإطار متجاوز للتمزقات الإجتماعية والفكرية كان يمكن له
أن يسهم في كبح تمادي النزوعات الخاصة والانتماءات الفرعية التي تستبطن تهديداً
محتملاً للتماسك الداخلي وأيضاً لفئات إجتماعية متنوعة أصبحت جزءً من المكوّن
السكاني للدولة، وكان يمكن أيضاً للمواطنة أن تكون جوهر الرابطة المشتركة بين
عموم أفراد الدولة.. لقد نجحت دول عديدة في تحقيق الإنسجام الداخلي بين شعوبها،
عبر سياسات الإدماج المتوازنة والعادلة وإرساء قاعدة المشاركة الفاعلة للطيف
الشعبي العام بكافة تنوعاته الفكرية والسياسية والاثنية، وصولاً الى صوغ خطاب
وطني يجد فيه الأفراد من كل الأطياف الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية
تعبيراً ثقافياً مشتركاً عنهم.
في مقابل تلك الصورة النموذجية، عانت الدولة العربية الحديثة من تركة التمزّقات
الفرقية المبعوثة نقمة للشعوب العربية والاسلامية..ومن المفارقات المثيرة تصاهر
نزعتي العلمنة والطائفية السياسية في بعض دولنا العربية، وأن إعادة إنتاج
المخزون الإنقسامي الداخلي في الفعل السياسي اليومي أصبح شرطاً تكوينياً لبقاء
هذه الدول واستقرارها، وليس في ذلك غرابة، فالسلطة في وعي قادة هذه الدول فئوية
وإحتكارية وغير تمثيلية، وترى في اللعب على التناقضات أسلوباً أمثل لتعزيز
السلطة السياسية الشمولية.
إن اللجوء الى تراث العرب والمسلمين السجالي وتوظيفه في لعب سياسية لا تمت إليه
بصلة ليس سوى ازدراءً للعقل وعبثاً بالضمير، لأننا ندرك سلفاً بأن النظام
السياسي العربي من المحيط الى الخليج ليس دينياً، وأن العامل الديني لم يكن سوى
طلاءً خارجياً لنظام سياسي غارق في علمانيته المشوّهة.
قد يعين ما سبق على مقاربة واحدة من الموضوعات الملتهبة، أعني موضوع الطائفية
الذي نهب اهتمام نخبة واسعة من الباحثين والمثقفين وخاض في تفاصيلها المحسوبون
على تيار الصحوة الإسلامية.. ليس هناك ما يطلق المكبوت الداخلي من عقاله بأكثر
مما تفعله المنازع الطائفية المؤسسة على تراث سجالي مندّس في ثنايا الضمير
والكرامة والهوية بتشوهاتها الأيديولوجية ونزعتها السيكوباثية الإنغلاقية
والعدوانية والاقتلاعية. تحضير التاريخ العبء في رواق السياسة اليومية يلبّي
بعضاً من أغراض السلطة في بعض دولنا، فهو يشغل المجتمع بتمزقاته الفكرية
والاجتماعية، رغم فعله التدميري لأسس الدولة الوطنية القائمة على أساس توافق
الجماعات واندماجها في بنية النظام السياسي، وهو ما تمَّ عملياً، فحتى الآن لم
يصدق على الغالبية الساحقة من الدول العربية مسمى الدولة الوطنية لانعدام
شروطها ومتطلباتها.