gulfissueslogo
شرط سيادة الدولة
موقع قضايا الخليج

 ينشق عن وعي الدولة مدخلان: وطن وسلطة، حيث يبدأ الافتراق في تسوية أزمة الدولة من منظورين متنافرين. وهذا التنافر يعبّر عن أزمة تكوين الدولة المشرقية عموماً، التي شهدت تشويهاً خلقياً منذ نشأتها الاولى، حيث كان مشروع الدولة الوطنية ينبني على قاعدة سلطانية تستمد عناصرها من التراث الاستبدادي الشرقي.

يلزم التذكير ابتداءً، أن الأوضاع السياسية الاقليمية والدولية لم تتح فرصة كافية لشعوب الشرق لتنشئة ثقافة سياسية حديثة كفيلة بإنتاج وتطوير نموذج دولة وطنية ذات صفة تمثيلية بطابع سواسي، كما فشلت الأنظمة السياسية المشرقية التي خلفت عهد الاستعمار الغربي في إدارة عملية الانتقال الى الدولة الوطنية، بل على الضد ساهمت في تكريس النموذج السلطاني الشرقي، حيث تقمّص أهل الحكم السلف الذي مارس تأثيراً أخّاذاً،  فتحوّلت الدول المشرقية الى مملوكيات.

تعين هذه المقدّمة المكثّفة على فتح المناظرة المتصاعدة حول سيادة الدولة التي جذبت قدراً مبالغاً من الاهتمام الاقليمي والدولي، في ضوء التجاذب السياسي الحاصل في لبنان عقب العدوان الاسرائيلي وانتصار المقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006. تجدر الإشارة هنا الى أن مناظرة الدولة تعبر حدود لبنان لتستوعب المشرق العربي برمته، حيث مازالت مسألة الدولة خاضعة للفحص البحثي، وستبقى كذلك طالما بقيت حالة التنافر بين الدولة والمجتمع. فهناك من يشأ تشكيل دولة تكون شفيعاً لسلطة مركزية وبين من يريدها معيناً على إستدراك وتصحيح الخطأ التاريخي، متمثلاً في إقامة سلطة مستبدة تكفّلت، عبر أدوات قاهرة، بإقامة الدولة والوطن، فجاء جنين الوطن حاملاً معه السمات الوراثية للسلطة التي أنشأته، وليس نابعاً عن إرادة المجتمع بكافة أطيافه، المسؤولة حكماً عن تخليق الوطن.

ما ذلك الوطن إن لم يكن المجتمع ذاته، وما ذلك التضامن الذي سيغدو المصدر الرئيسي لاستقرار واستمرار الدولة إن لم يكن قائماً على المشاركة الجماعية. وإذ لا يمكن لروح الوطن أن تجد ذاتها الا حين تسري في ألياف الوعي المجتمعي، فإن الدولة كتمظهر أمة تصبح تجسيداً لارادة جماعية وتمثيلاً مشتركاً. ثمة خطأ فادح في تصوير الدولة كأداة إلغاء بإسم تحقيق السيادة، إذ تصبح الأخيرة مجرد تغليف لنيّة إحتكار السلطة. فالسيادة تحقق ذاتها عبر بسط سلطة المجتمع الممثّل في دولة، وأن الأخيرة تصبح التعبير القانوني عنه أي كونها ناظماً لسلطة المجتمع وليست مهيمناً عليه.

إن تضخّم رقعة هيمنة الدولة لا يمنحها مشروعية ولا يحقق لها سيادة، بل قد تصبح في حال انفكاكها عن المجتمع مجرد أداة سلطوية، سيما حين تختّل عملية التمثيل السياسي لفئات المجتمع كافة في الجهاز الاداري للدولة. لقد أريد للدولة أن تتخفف من أعبائها في ظل امكانية انتاج المجتمع لمؤسساته الأهلية القادرة على استيعاب جزء من مهمات الدولة، ولذلك نزعت الدول الديمقراطية الى تحرير قطاعات عديدة كانت تابعة لها ونقلها الى المجتمع باعتباره مصدر السلطة ومنشأها، فيما اكتفت الدولة برعاية الأمن والدفاع تحقيقاً للهيمنة بالمفهوم الغرامشي، وليس السيطرة بالمفهوم الهوبزي.

يعتقد صموئيل هنتغتون أن أهم فارق سياسي بين الدول لا صلة له بشكل الحكومة (ديمقراطية حزبية، قبلية، انقلابية عسكرية) وانما يتصل بشكل رئيسي بدرجة الحكومة. هذا الفارق يمثل مفتاحاً لفهم التطابق المدهش في الانظمة السياسية العربية على اختلاف أشكالها، والسبب في ذلك أن درجة الحكومة، أي درجة تغلغل السلطة السياسية في الشأن العام تكاد تتفشى بصورة تفقد الدولة الهدف الاساسي من أصل نشأتها والوظيفية الرئيسية التي قررت لها.

ثمة مقولة رائجة في بعض البلدان العربية مفادها: "لا تفكر فالحكومة تفكر عنك" وهي كفيلة باختصار الفارق الكيبر الذي تحدث عنه هنتغتون في كتابه (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة). فالتمدد اللامحدود للسلطة الى حد اختراق مجال التفكير عند الافراد يحيل السلطة جثة ضخمة متحرّكة، ويحيل المواطنين مجرد نزلاء في أرض لا تربطهم بها سوى ما تكفيهم مؤونة الاكل والشرب.

فالتورّم المتزايد في الجهاز البيروقراطي جعل من الدولة مجرد آلة ضخمة مترهلة، أو بناء يحتشد بداخله عدد هائل من الكسالى والمنتفعين. وما حدث نتيجة ذلك، أن نشوء عدد متزايد من السياسيين قد ضاعف من المطالب على الجهاز السياسي، بمعنى أن تضخم الدولة ضاعف من مسئولياتها، كما ضاعف من ضغوط المواطنين عليها، وبالتالي فإن تزايد توقعات المواطن من الدولة العاجزة عن تلبية هذه التوقعات أسفر عن مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت بدرجة من التعقيد بحيث أصبح من العسير جداً تسويته او حتى ادارته.
في واقع الامر، أن النزعة الفئوية داخل الجهاز الاداري للدولة يوفر مبرر تحريرها من قائمة الالتزامات الضرورية تجاه مواطنيها رغم اختراقها المشين للمجال العام، بكل متوالياته. وتحرير الدولة من التزاماتها يرهن كل ثرواتها وأمنها واستقرارها لمجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الخاصة.

فالدولة، بما هي اداة لاجماع وطني، لن تحقق وظيفتها طالما أن سلطة الهيمنة فيها تكاد تكون لصالح جماعة معينة وقاهرة لجماعات اخرى، فهي بهذا السلوك الاحتكاري للسلطة تصبح طرفاً في النزاع بل قد تكون مولّداً له وأحد مصادره الرئيسية. وحال كهذه، يصعب الحديث فيها عن دولة وطنية حيث سياسات الدولة لا تعبّر عن إرادة وطنية جامعة وتوحيدية، فقد تتجه الى تفجير تناقضات السلطة ذاتها فتصبح الاخيرة عامل تقسيم وإجهاض لمبررات الوحدة الوطنية.

المحاصصة السياسية تفترض عملية دمج سياسي باشراك الفرقاء كافة في صناعة القرار وفي المراكز العليا للدولة دون حاجة للجوء الى نظام لامركزي كيما يضمن عدم تحقق الصدام ويوفر فرص الامن والعدل والمواطنة المتكافئة.

إن الدعوات المتظافرة لدعم خيار المحاصصة السياسية من أجل تسوية الاختلال الخطير في عملية التمثيل السياسي يهدف الى ازالة مبررات التوتر الداخلي ومشاعر الغبن المتفاقمة لدى المتضررين. بيد ان هذه الدعوات تفقد قيمتها في ظل الاحباط الناشيء عن الشك في قدرة الدولة على التوصل الى صيغة مضمونة وجادة تكفل حصصاً متكافئة في السلطة لكل الفرقاء. وهنا ينبري خيار التكامل الثقافي التنوعي  (Multicultural Integration)، والذي يؤسس لمناخ ثقافي متسامح يتيح فرص الانفتاح الثقافي بين الجماعات المتباينة ويتجه الى خلق اجواء الحوار الثقافي المشدود لغاياته السياسية، بما يجعل امكانيات اكتساب وتداخل واختلاط العناصر الثقافية المتباينة قابلة للتثمير في شق قناة ثقافية عامة تتولى القوى السياسية كافة رعايتها وشحنها فتصبح بمرور الوقت قناة ثقافية عليا لجماعات ترى فيها صورتها، وحضورها، وسهمها الثقافي وأخيراً مصدراً نهائياً لهويتها العليا، وللهوية الوطنية لما تحمله من عناصر ثقافية جامعة. وهذه السياسة تمثل مطلب عدد من الساسة والفرقاء الذين يستشعرون خطورة "الواحدية السياسية" حيث السلطة تكون مرهونة بصورة شبه كاملة لفريق واحد أو عدد ضئيل من الافراد النافذين.

مما سبق يمكن القول، أن الدولة التي يراد تجسيدها وطنياً لا تحقق وجودها عبر احتكار أو مركزة السلطة بل من خلال تحقيق درجة تمثيل متكافىء للفرقاء كافة، وبها وحدها يمكن الحديث عن بناء وطن له سيادة، حيث تصبح الدولة تجسيداً لارادة المجتمع بكل قواه الاجتماعية والسياسية.

التحرير
 

copy_r