القاعدة.. نقاط القوة:
أظهر المشهد السياسي والأمني في اليمن خلال الربع الأخير من العام الماضي 2009م
والربع الأول من العام الحالي 2010م تنظيم القاعدة على المسرحين الإقليمي
والدولي، بسبب ما وصل إليه التنظيم من تقنيات مبتكرة تمكن من خلالها اختراق
أكبر منظومة أمنية إقليمية، بمحاولة اغتيال الأمير محمد بن نائف في قصره بمدينة
جدة أواخر أغسطس 2009م، وبمحاولة تفجير طائرة أمريكية فوق ديترويت عشية أعياد
الميلاد أواخر ديسمبر العام الماضي.
وصار تنظيم القاعدة أمرا واقعا وجزءا من الهم السياسي والأمني والإعلامي، وقد
سجل التنظيم اختراقات أمنية على المستوى المحلي كان أبرزها نجاح أبرز قادته
اليوم من الهروب من سجن للأمن السياسي في العاصمة صنعاء مطلع فبراير 2006م، ثم
عمليات الاغتيالات المتتالية للقيادات الأمنية في محافظات شرقية وجنوبية والتي
بدأت منتصف العام 2007م باغتيال مدير مباحث محافظة مأرب -170 كم شرق صنعاء-
حمود قصيلة، ثم الرائد محمد ربيش في أكتوبر 2008م في نفس المحافظة، وفي أغسطس
2009م محاولة اغتيال قيادة أمنية إقليمية الأمير محمد بن نائف، وفي الربع
الأخير من العام 2009م نفذ التنظيم عملية اغتيال لخمس قيادات أمنية في حضرموت
جنوب البلاد، وإعدام مدير تحقيقات مآرب بسام طربوش بعد خطفه واحتجازه لأكثر من
أربعة أشهر، والحصول منه على قاعدة بيانات معلوماتية عن أشخاص وطرق عمل ملاحقة
القاعدة.
ويتمتع التنظيم بتركيبة بنيوية هيكلية معقدة وغامضة في نفس الوقت لمنع
اختراقها، حيث لا يظهر من التنظيم إلا رأسه الأمير ونائبه ومسؤول عسكري فقط، مع
اختفاء باقي الجسم مغمورا كمجلس الشورى والهيئة الشرعية والإعلامية التي دائما
ما نرى أثرها من خلال الإصدارات المكتوبة والمرئية والمسموعة على شبكة الإنترنت
المتنفس الوحيد له.
كما أن التنظيم استفاد من التجارب السابقة له في جزيرة العرب فترة تأسيسه في
السعودية (2003م- 2006م)، ومن الحالة الجهادية في العراق، فتجنبت القاعدة في
جزيرة العرب اليوم المواجهة مع المجتمع أو استفزازه، مما أفشل محاولات السلطة
المركزية والموالية لها من التحريض ضده نظرا لأن صفحته ما تزال -إلى حد ما- غير
مصبوغة بلون الدم، وما يزال التركيز على أن النظام هو من ينتج الأزمات والمشاكل
والاختلالات التي تعاني منها البلاد وليس تنظيم القاعدة.
وقد وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما نظام صنعاء أنه "ينتج الفقر وحركات
التمرد الدامية"(1)؛ والمسئولون البريطانيون أدركوا مؤخرا أن مشكلة اليمنيين في
النظام الذي لم يدفع بعجلة التنمية وليس في تنظيم القاعدة(2)؛ فأطراف المعادلة
الدولية تعتقد أن التنمية قد تساعد على إفقاد القاعدة بيئة التجنيد والاستقطاب
والانتشار. (3)
القاعدة.. نقاط الضعف:
وظهور تنظيم القاعدة بقوة في المشهد المحلي والإقليمي والدولي رغم عمره القصير
(2006م- 2009م)، أحدث داخل الساحة إرباكات وحراكا كبيرا على المستوى الفكري
والأمني والسياسي والإعلامي. وتبدأ حالة الفرز والاستقطاب داخل المجتمع بصورة
كبيرة كلما بدأ تنظيم القاعدة بالظهور على المسرح العملياتي أو الإعلامي.
ورغم تركيبة القاعدة التنظيمية المحكمة وتوزيع المهام وإدارتها الفائقة وقدرته
العالية لحماية نفسه من الاختراق خصوصا على المستوى التوجيهي للعمليات
والمسارات، إلا أن أهداف عملياته قد لا تبدو لدى شريحة واسعة من المجتمع
ومكوناته ومجموعاته وقيادات الرأي العام واضحة لهم بسبب ما يعانيه التنظيم من
ضعف على التواصل مع المحيط من حوله، ونقطة الضعف هذه تؤدي إلى استغلال ظاهرة
"الإرهاب" على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
وهناك عوامل ذاتية في التنظيم وعوامل خارجية تجعل تواصله مع محيطه العام ضعيفا
وسهلا للاختراق في الوعي وتجيير واستغلال القاعدة كورقة تحقق أهدافا قد لا تبدو
أن لها علاقة بأهداف التنظيم إنما بطموحات وأهداف دول كبرى لها أطماع في
المنطقة.
ومن أبرز العوامل الذاتية في ضعف العلاقات العامة للقاعدة هي التركيز على
المسار العملياتي القتالي والأمني، ومن العوامل الخارجية ملاحقة الأجهزة
الأمنية له ومطاردته مما يعقد تواصله مع الجمهور والمحيط العام لإيصال رسالته.
كما أن من العوامل الذاتية حديته في طرح أفكاره وافتقاره إلى أدوات التحاور مع
المخالفين نظرا للحالة الشعورية بـ"الظلم والخذلان" التي يعيشها التنظيم مما
يولد ردات فعل حادة تجاه منتقديه أو محاوريه.
ومن العوامل الخارجية أن السلطات والجهات -التي تفتح حوارا مع من تستطيع الوصول
إليه من القاعدة- تقوم على أساس التراجع، والتسليم بالأمر الواقع، وهو ما يرفضه
التنظيم في عقيدته الإيديولوجية التي تشكل القاعدة الفكرية الصلبة في ثقافته
التنظيمية والعسكرية والإعلامية.
ورغم اعتراف القاعدة وقادتها المحليين أو الدوليين بأنهم ليسوا مجموع المسلمين
ولكنهم مجرد طليعة من المسلمين وجماعة منها فقط(4)، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن
من بناء شبكة علاقات تتواصل مع باقي المجموعات والأطراف لتوضيح مواقفه وشرح
تفصيلات عملياته وأبعادها، سواء الأطراف الإسلامية في الساحة من مدراس دينية
مختلفة أو الأطراف العلمانية الأخرى، وهذا من الأسباب الرئيسية التي تصنع الجدل
بعد كل عملية ينفذها التنظيم، كما أن جهات محلية رسمية وعالمية تستغلها لتنفيذ
سياسات داخل البلاد.
وتكمن أهمية النقطة الأخيرة، التواصل مع الغير، لقطع الطريق أمام الذين يستغلون
ورقة الإرهاب لإحداث خلخلة داخل المجتمع ومحاولة تفكيكه ونقله إلى مرحلة
التمترس والمكايدات والاحتراب، واستنساخ التجربة العراقية التي نجح الاحتلال
فيها من توظيف أطراف إسلامية سنية لمحاربة "القاعدة" بالنيابة عنه، مستغلا حالة
الفراغ والقطيعة وعدم التواصل بين المجموعات الإسلامية الأخرى والقاعدة كأبرز
مكونات الحالة العراقية المسلحة.
ومن نقاط ضعفه الأخرى الجوهرية أن التنظيم يبدو "حالما" بعض الشيء حين
يتبنى مطالب وأهدافاً ليست بحجم تنظيم أو مجموعات وخلايا صغيرة؛ كإخراج
المشركين من جزيرة العرب، وإعادة سيادة وهيمنة الشريعة الإسلامية على كل
التشريعات(5)، وتجهيز جيش عدن أبين المكون من اثني عشر ألف مقاتل لنصر المسلمين
في كل مكان -بحسب حديث نبوي تستند عليه القاعدة في تحركها التكتيكي.
والنقطة الأبرز من نقاط ضعف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب تقديم حالة الموت في
سبيل الله على الحياة في سبيل الله، رغم أن الموت في الشريعة الإسلامية ليس
هدفا بحد ذاته إنما وسيلة لتحقيق هدف أبرز، يكاد أن تكون القاعدة واضحة المعالم
فيها، وهي إعادة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة، وحالة الموت في
الشريعة استثنائية لتحقيق الحياة في سبيل الله.
وهذا ما يفسر كثرة كوادره التي تسجل في قائمة "الاستشهاديين" انتظارا لتنفيذ
عمليات(6)، مما يجعل مساحاته الأخرى في حالة فراغ ونقص يصعب تعويضه، كالجانب
السياسي والإعلامي والعلاقات العامة، والجانب الشرعي في أماكن كثيرة من مناطق
عمله الجغرافية.
التحديات:
ويواجه التنظيم أكبر تحدٍ له إن لم يتمكن من الاندماج في المجتمع الذي يعيش
فيه، بسبب عدم انتشار مستوى الوعي والإدراك للواقع الذي يعيشونه والوسط الذي
ينتمون إليه، وأن الحالة اليمنية ليست الحالة الأفغانية أو الباكستانية أو
العراقية من حيث نوعية السكان والعوامل القبلية والدينية والدولة المركزية، لأن
الحالة الأفغانية حالة احتلالية ظاهرة بوجود قوات أكثر من ستين دولة بزعامة
أمريكا مما يعطي شرعية عملياتها هناك؛ بعكس الحالة في شبه الجزيرة
العربية التي يعتبر الوجود الغربي فيها والقواعد الأمريكية العسكرية
والاستخباراتية مقننة باتفاقيات أجازتها مؤسسات دينية رسمية في المنطقة؛
فالقاعدة بحاجة إلى توافق مع مجموعات إسلامية عريضة لكسر تقنين المؤسسات
الدينية للوجود الغربي في شبه الجزيرة العربية قبل الشروع في مواجهته عسكريا
وأمنيا.
كما أن الحالة اليمنية تقل فيها نسبة الأرضية الأيديولوجية التي يتحرك في
أوساطها تنظيم القاعدة، وحالة السكان بمجملهم لهم ولاءات متعددة للسلطة
المركزية؛ إما من خلال المصالح المباشرة مع رؤوس القبائل، أو من خلال وسطاء
آخرين كالمنظمات الجماهيرية والأحزاب والفعاليات السياسية المختلفة؛ وهذا ما لم
يكن موجودا في أفغانستان ومناطق القبائل في باكستان التي كانت تتمتع باستقلال
كامل، والدولة المركزية توقع على قانونية الحكم الذاتي، كمنطقة قبائل باكستان
في وزيرستان وباجور ووادي سوات وغيرها، أو انعدم السلطة القانونية والمركزية
نهائيا كمعظم مناطق جنوب وشرق أفغانستان.
وتواجه القاعدة تحديا في مدى قدرتها على تحقيق قراءة للنصوص الشرعية ضمن دائرة
موسعة من خارجها للمشاركة في نقاشها وإسقاطها على واقع اليوم، وفقدان التنظيم
لهذه الميزة يجعله يواجه مأزقا مع الأيام في إطار "نزع الشرعية"، وتحديا يؤدي
به إلى حالة التشظي والاضمحلال، لأنه سيبقى معزولا عن المجموعات الأخرى
الإسلامية، ومكونات المجتمع القبلية والدينية، ولن يستطيع فرض أفكاره ومعتقداته
بالقوة فقط إن لم تكن لديه المرونة على التواصل وفتح أبواب الحوار مع جميع فئات
المجتمع وعرض ما لديه.
ومن أبرز التحديات الظاهرة التي يواجهها تنظيم القاعدة هي محاولة التغلب على
الحصار المضروب عليه إعلاميا بسبب الملاحقات الأمنية ومطاردة عناصره وقياداته
لقتلهم أو اعتقالهم، ومحاولات السلطة المركزية في صنعاء بتقديم تسهيلات
للاستخبارات الأمريكية لتجعل التنظيم في حالة فرار دائم.
فعلى التنظيم بعد أن أصبح أمرا واقعا ومكونا من مكونات الحراك السياسي
والاجتماعي والأمني والإعلامي في اليمن وشبه الجزيرة العربية ككل أن يغير من
أساليبة، وكما كان محترفا في ابتكار تقنيات استخباراتية وقتالية أذهلت العالم
ونجحت في اختراق أجهزته ومؤسساته الأمنية حتى أعادت رعب الطائرات إلى سماء
أمريكا بعد تسع سنوات من حرب الإرهاب، فإن عليه اليوم أن يجدد من خطابه ووسائله
الإعلامية كي يثبت أنه جزء من النسيج الإسلامي والاجتماعي في شبه الجزيرة
العربية واليمن خاصة كونها المقر الحالي للقيادة الإقليمية.
القاعدة ذريعة أم تهديد حقيقي؟
حالة القلق من القاعدة لم تكن محلية بالدرجة الأولى ولكنها كانت من المحيط
الإقليمي والدولي، ولذلك فإن من أسباب اطمئنان النظام المحلي في حربه مع
القاعدة بينما قلقه يتنامى من الحركة الشيعية المسلحة في الشمال في صعدة
والحراك الانفصالي في الجنوب أن المجتمع الدولي ليس عونا معه في تلك الحروب
والمواجهات بينما يطمئن أن الغرب وأمريكا والدول الإقليمية تقدم له كافة الدعم
لحرب القاعدة.
ومن حسن حظ القاعدة ومن سوء حظ التحالف الدولي (الناتو) بقيادة أمريكا(7) أن
تنظيم القاعدة ينتشر في الشريط الذهبي لليمن الممتد من عمق الصحراء مخزن الثروة
النفطية والغازية إلى الطريق الساحلي المطل على ممر القوافل التجارية
والإمدادات والأساطيل العسكرية.
وهذا الشريط مليء بالشركات النفطية والغازية الأمريكية والبريطانية والفرنسية
والصينية والكورية الجنوبية، وآخرها الشركة الوطنية السعودية للمقاولات التي
تسعى للفوز بعقد تجهيز وتركيب وتشغيل محطة الكهرباء التي تعمل بالغاز، وهذا ما
يفسر أحد الأسباب لاهتمام الأمير محمد بن نايف باليمن، وكذلك تصريح أكبر مسئول
في مكافحة الإرهاب في دول الاتحاد الأوروبي من أن نشاط القاعدة المتنامي في
اليمن يمثل "تهديدا مباشرا للمصالح الأوروبية".(8)
وجاءت التقارير المتتابعة تصنع صورة عن اليمن أنها "دولة فاشلة" -وفق معايير
الأمن والسلامة للمصالح الأمريكية والغربية- أو أنها في طريقها للفشل، ويجب قرع
أجراس الخطر في العالم بأن اليمن "دولة ضعيفة.. لذا فنحن بالتأكيد بحاجة
إلى تعبئة المجتمع الدولي من أجل تجنب حدوث ذلك"(9).
وتصنيف الدولة الضعيفة تعني زيادة الطلعات الجوية التجسسية، وحشد للمجهود على
الأرض من أجل القضاء على القاعدة، وتصنيف الدولة الفاشلة تعني تدخلا مباشرا
–كالصومال- حين احتلتها أثيوبيا وبقيت الأجواء مفتوحة للطلعات الحربية
والتجسسية الأمريكية والغربية.
التركيز على اليمن ليس بسبب موقعها فقط، ولكن لأنها مخزن الرجال المسلحين
والمدربين الذين يمكن للقاعدة أن توجههم في برنامجها وفق منظومة فكرية يعتقدها
الشيخ أسامة بن لادن وتعتقدها القاعدة ومجموعات إسلامية متعددة؛ أن اليمن
"أرض المدد التي تنطلق منها الجيوش المسلمة لتحرير الأقصى وفلسطين وإعادة
الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة"(10).
فالطابع القبلي حافظ على أخلاقيات وسلوكيات تتفق مع برنامج القاعدة، مثل
أخلاقيات النصرة والمؤازرة والإيواء، والتضحية والشجاعة والفداء، وصفات شخصية
كالأنفة والعزة والكبرياء، وغالبا ما يكون القبلي أكثر جرأة في الإقدام على
المواجهة من غيره، رغم أن عمليات القاعدة حتى الآن في اليمن جميعها نفذها
مدنيون يعيشون حياة مدنية في صنعاء وعدن وحضرموت وتعز؛ مما يؤكد أن طبيعة
المجتمع اليمني بصورة عامة لا تزال تنتمي إلى ثقافة القبيلة.
هذه الأخلاقيات هي نفسها التي تكسر إرادة أكثر من ستين دولة –هي قوام حلف
الناتو بقيادة أمريكا- في أفغانستان اليوم. وتركز السياسات الغربية على ضرب
القبيلة بطرق متعددة، كالضرب العسكري المباشر كعملية المعجلة في أبين وأرحب في
17 ديسمبر 2009م، والقصف الصاروخي على منطقة رُفُض في شبوة 24 ديسمبر 2009م،
والجوف ومأرب في يناير 2010م.
أو عن طريق محاولات لإيجاد الاختراقات النفسية في القبيلة أولا، كمرتكز أساسي،
من خلال تحريك التناقضات والمتناقضات والمغريات، كما في العراق وأفغانستان
وباكستان والصومال واليمن وقريبا لبنان وسوريا.
وكان أول تصريح عن أن اليمن ستكون "أفغانستان أخرى" للرئيس الأمريكي السابق
جورج دبليو بوش في نوفمبر 2001م، في نفس بيان إعلانه انتهاء العمليات العسكرية
القتالية في أفغانستان، وجاء تصريح جيل دي كيرشوف -منسق مكافحة الإرهاب في
الاتحاد الأوروبي- مؤخرا منتصف العام الماضي لتكرار التوصيف من خشية الدول
الغربية وقلقها "من تحول اليمن إلى أفغانستان أخرى.. وأن اليمن مهددة بأن تسير
في درب أفغانستان فتكون ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة والمسلحين الإسلاميين"(11).
وقبل ثلاثة أيام من اندلاع المواجهات في مأرب زار اليمن -من شهر يوليو 2009م-
الجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات المركزية الأمريكية(12) لمراجعة خطة بثلاثة
رؤوس؛ القضاء على تنظيم القاعدة (وليس الحركة الشيعية المسلحة –الحوثيين-
أو الحراك الجنوبي)، ومحاصرة الصومال، ومحاولة منع اليمن من تحولها إلى
أفغانستان أخرى.
وجاءت زيارة بترايوس ضمن برنامج أمريكي تحرك لتعميمه على حكام المنطقة خمسة من
كبار المسؤولين الأمريكيين بشكل حثيث في الفضاء
العربي، متنقلين بين القاهرة وتل أبيب وعمَّان والرياض والبحرين ودمشق وبغداد
وصنعاء. وهؤلاء لم يكونوا سياحا بطبيعة الحال، لكنهم كانوا في مهمة واحدة،
تتعلق بالطبخة التي يجرى إعدادها. الخمسة هم: روبرت غيتس وزير الدفاع، وجيمس
جونز مستشار الأمن القومي، وروبرت ميتشل مبعوث الرئيس أوباما إلى الشرق الأوسط،
والجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة المركزية، وجيفري فيلتمان مساعد وزير
الخارجية، فحين يتقاطر الخمسة على المنطقة في وقت متقارب لكي يخاطبوا قادتها،
فذلك يعني أن ثمة حدثا كبيرا استدعى ذلك. (13)
ديفيد بترايوس.. كيف يعمل؟
يقوم بترايوس بطلعات جوية ولقاءات ميدانية مع مكونات ميدان الصراع الذي حدده
مسرحا لعملياته، فيلاحظ البنية التحتية التي تمكنه من إيصال رسالته وقواته في
إطار ثلاث ركائز، الوسائل الإعلامية والطرقات الممهدة ومدى توفرها في مسرح
عملياته، والإسلام المعتدل ومدى نفوذه وتأثيره، وشيوخ القبائل وشبكة المصالح
المرتبطة بهم. (14)
فحين قدم إلى أفغانستان قام بترايوس بتشخيص ميدان المعركة والمناطق القبلية
هناك بتوصيفه البسيط، "حيث تنتهي الطريق تبدأ طالبان"(15)، فكيف بطرق اليمن؟!
ووجد انعدام وسائل الإعلام التي ستنقل رسالته كبنية تحتية أساسية لخطته، واعتبر
أن ميدان المعركة يعاني من الانحراف الاستراتيجي في أفغانستان، والتكتيكات
المتعارضة، وعدد الجنود القليل، ويرجعها كأسباب رئيسية لفشل حلف الناتو في حسم
معركته مع طالبان والقاعدة هناك(16). وقد حان الوقت لا عتماد استراتيجية أكثر
ابتكارا وعدوانية(17).
يصف بترايوس ميدان عمله في اليمن، جغرافيا: صحراوية وجبلية وساحلية مفتوحة،
اجتماعيا: قبلية ومدنية وتصل الخدمات مناطق القبائل التي يريد أن تعمل خطته في
أوساطها، لأنه يستخدم الإعلام كركيزة أساسية في خطته، ويستخدم شيوخ القبائل
موظفا أعرافهم وتقاليدهم، ويلتقي بهم على الأرض بعد أن يتجول من على طائرته من
الجو متأملا مساحة عمله وميدانه الجغرافي. يبدأ بوضع الخطة، بثلاثة أهداف
أساسية: سحب الدعم الشعبي عن تنظيم القاعدة (تفكيك الحاضنة)، وتثبيت أركان
الجيش المحلي الموالي والمدرب والمزود بخبرات أمريكية (عملية الإحلال)، وتوفير
الحماية الآمنة للمصالح (بناء شبكات الشركاء). ويضع الأهداف التي يطمع لتحققها،
رغم أن نجاحه إذا تحقق "هش وقابل للتراجع"(18) وهي: القضاء على تنظيم القاعدة
الذي اجتمعت من أجل القضاء عليه أكثر من ثمانين دولة في فرنسا -مايو 2009م-
للبحث في السبل الكفيلة التي تقضي على تنظيم القاعدة، ومن أجل القضاء على
القاعدة جاء أوباما وقال للمسلمين "السلام عليكم" في جامعة القاهرة، وتلا بعض
آي القران الكريم محاولا توحيد طاقات الشعوب العربية والإسلامية خلفه في معركته
ضد القاعدة.
يبحث بترايوس دائما عن أدوات العمل في الميدان، فإلى جانب القوة العسكرية هناك
النفاق المدني، المتمثل في توزيع الحلوى على الأطفال الذين قتلت القوات
الأمريكية آباءهم، وهناك بناء مساجد في بعض المناطق، ودعم أعمال إغاثية وخيرية
لتحسين الصورة وسماح السكان المحليين للجنود الأمريكيين بالتنقل في أوساطهم
لملاحقة الإرهابيين.
يعتمد بترايوس على المتناقضات والتناقضات الموجودة داخل المجتمع، فيقوم بتحريض
الشيعي على السني، والسني الإخواني على الجهادي، وحين تبدأ خطة بترايوس بالعمل
في أي بلد فإن القتلى في صفوف المدنيين في الأسواق تتضاعف، وعلى أبواب المساجد،
ويجري اغتيال أئمة وخطباء مساجد، لأنه يعمل في الوسط الإسلامي ويستغل حساسية
الصراع الديني فيقوم بترايوس بتحويله من صراع حضارات إلى صراع داخل أبناء
الحضارة الواحدة.
ويعتمد بترايوس على ثلاث أدوات في إدارة لعبة الصراع: وسائل الإعلام بجميع
أنواعها، والإسلام المعتدل الذي يدخل معه في تحالفات إعلامية وأمنية، وشيوخ
القبائل الذين يسعى دائما لشرائهم بالأموال. وقد أعلن قائد الأمن المركزي ابن
شقيق الرئيس اليمني يحيى محمد عبدالله صالح، والذي يوجد في معسكره عشرات
المدربين والخبراء الأمريكيين لتدريب قواته على ملاحقة القاعدة كقوات خاصة
لملاحقة الإرهاب، في فبراير الماضي 2010م أنه سوف يشتري القبائل كي تبيع له
عناصر القاعدة. (19)
المستقبل:
مستقبل القاعدة في اليمن وشبه الجزيرة العربية مرهون بعوامل ذاتية وعوامل
خارجية، العوامل الذاتية تتعلق بمدى قدرة التنظيم على التطوير من خطابه بحيث
يصبح مفهوما للعوام والنخبة على السواء، ومكشوفة وواضحة أهدافهم وبرامجهم
وعلاقتها بالحالة الراهنة للمواطنين في شبه الجزيرة العربية، ولا يبقى الخطاب
محصورا فقط على طلبة العلم الشرعي أو متبنيا قضايا فقط من خارج الحدود.
وتتعلق أيضا بمقدرته على الاندماج في أوساط المجتمع وبناء شبكات تواصل مع جميع
مكوناته وفعالياته السياسية على الساحة دون الاستهانة أو احتقار أي طرف سواء
كان علمانيا أو إسلاميا إخوانيا أو سلفيا أو غيره، أو قبليا أو حضريا.
والعوامل الخارجية: تفكك السلطة المركزية وقيام سلطات على أنقاضها وليس دول،
وضعف التحالف الدولي في حرب الإرهاب بسب الاستنزاف في أفغانستان والعراق
والتهديدات العالمية للقاعدة والأزمة المالية، وتمكن القاعدة من صناعة حدث
كالحادي عشر من سبتمبر أو يقترب منه في أمريكا أو العواصم الغربية.. وهي تمنيات
يراهن عليها التنظيم.
وفق المعطيات السابقة فإن تنظيم القاعدة هو من سيحدد مستقبل نفسه بنفسه، فإن لم
يتوسع في الدماء وسعى إلى حقنها فالمحيط العام الذي يعمل فيه قد يساعده لفترة
زمنية قصيرة إذا بقيت حالة التنافس بين طرفي النظام؛ السلطة والمعارضة، وفي
حالة نجاح المبادرة الأمريكية المعلنة للتوفيق بين الطرفين المتنافسين فإن
الجهود ستتوحد بشكل أكبر مما هي عليه اليوم لملاحقة القاعدة.
ومع ظهور قوى أخرى كالحراك الانفصالي في المحافظات الجنوبية، والحركة الشيعية
المسلحة في محافظات شمالية (الحوثيين)، فإن تنظيم القاعدة يحتل موقعا في تركيبة
القوى الفاعلة على الساحة اليمنية، إلا أن القاعدة تحتل ببعدها العالمي مكانة
دولية وحشدا للأعداء أكثر من الجبهات المفتوحة في الشمال والجنوب.
الهوامش:
1- خطاب أوباما بشأن اليمن، موقع البيت الأبيض، ديسمبر 2009م.
2- وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية،
فبراير 2010م.
3- المصدر السابق.
4- مصطفي أبو اليزيد، القيادة العامة للقيادة في أفغانستان، لقاء اليوم،
الجزيرة، يونيو 2009م، وأبو بصير ناصر الوحيشي، الجزيرة نت، 2009م.
5- أبو بصير ناصر الوحيشي، أمير القاعدة في جزيرة العرب، حوار صحفي، الجزيرة
نت، يناير 2009م.
6- أعلن التنظيم في بيان رسمي في أبريل 2009م عن تشكيل كتيبة الأهوال، وقال في
العدد الأخير (12) من مجلة صدى الملاحم الناطقة باسمه: إن هناك آلاف
الاستشهاديين ينتظرون إشارة البدء لتنفيذ عمليات داخل وخارج البلاد ضد ما
أسماها أهداف التحالف الغربي الأمريكي وحلفائه المحليين.
7- يضم حلف الناتو حتى الآن ستين دولة -من بينها تركيا- تحتل أفغانستان وترتب
لعملياتها في الصومال واليمن.
8- جيل دي كيرشوف -منسق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، وكالة رويترز، 16
يونيو 2009م.
9- المرجع السابق.
10- أبو مصعب السوري، واجب أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم، منبر
التوحيد والجهاد.
11- جيل دي كيرشوف -منسق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، مرجع سابق.
12- تشرف القيادة المركزية الأمريكية على 20 بلدا: أفغانستان، البحرين، مصر،
إيران، العراق، الأردن، كازاخستان، الكويت، قرغيزستان، لبنان، عمان، باكستان،
قطر، المملكة العربية السعودية، سوريا، طاجيكستان، تركمانستان، الإمارات
العربية المتحدة، أوزبكستان، واليمن. والمياه الدولية المدرجة هي البحر الأحمر
والخليج الفارسي والغربي من المحيط الهندي. وسوريا ولبنان هي أحدث إضافة إلى
ذلك، منذ 10 مارس 2004م.
13- فهمي هويدي، احتشام هنا واحتشاد هناك، الجزيرة نت، عالم المعرفة، 4 أغسطس
2009م.
14- Counterinsurgency Field Manual، DAVID H. PETRAEUS، military site US
15- المرجع السابق.
16- المرجع السابق.
17- ناثييل سيه فيك -ضابط مارينز سابق في القوات الأمريكية في العراق
وأفغانستان، وجون إيه ناجل -ضابط سابق في الجيش الأمريكي في العراق ومشارك في
تأليف كتاب بترايوس Counterinsurgency Field Manua، مجلة فورن بوليسي، الطبعة
العربية، يناير/فبراير 2009م.
18- ديفيد بترايوس، شهادة له أمام الكونجرس عن الوضع في العراق، أواخر العام
2008م.
19- وكالات، فبراير 2010م.