أولاً- مقدمة
في شرق المشرق العربي، أو معظم الجزيرة العربية، يقولون عما هو جميل ومؤقت،
بأنه "ربيع فايت"، استمتع به أو خذ منه ما تستطيع، فالله وحده يعلم متى من
المحتمل أن يتكرر، وقد لا يتكرر في نفس البقعة لفترة طويلة قادمة. لقد كان شتاء
العرب طويلاً ومظلماً، ومن مصلحة العرب، كل العرب، أي حكاماً وشعوباً، أن يدوم
الربيع العربي، والشراكة الطوعية في الوطن بين الحاكم والمحكوم، هي ما يضمن ذلك
الدوام، أما البديل، فحتى الشتاء المظلم، سيكون رحمة، ولكنه غير قابل للعودة،
ولنا في بعض نماذج الربيع العربي ... مثال.
شغل العرب خلال معظم القرن الفائت، بوضع حجر الأساس لمشروعهم، ولكنهم توقفوا عن
استكمال ذلك الأساس، ودون أساسات، لا يمكن استكمال مشروع البناء، وحجر الأساس،
هو حاكم عربي، يبدأ إصلاحياً، وينتهي الأمر به في أن يتحول إلى كل المشروع، أو
هو الدولة. ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ومشروع الحكم في كل
العالم حولنا، تحول إلى مشروع دولة، ومشروع الدولة ببساطة، يعني نقل أو انتقال
الشعب من أصفار على يسار الرقم (01)، إلى أصفار ثم أرقام، على يسار الرقم (10)،
وذلك يحول الرقم من خانة الآحاد، إلى خانة العشرات، أي يضاعف قيمته عشر أضعاف
على أقل تقدير.
والربيع العربي حدث عنوة، إما بإخضاع الرقم لانحناءة قسرية، والعبور من فوقه
إلى يمينه، أو من ثقوب في الرقم ناتجة عن محاولات تفجيره للمرور من تلك الثقوب،
ونتائجها في الحالتين، ما بين الباهظة في الحالة الأولى، والمدمرة إذ أنها سوف
تؤدي إلى تفتت الرقم وتحوله إلى صفر آخر كما في الحالة الثانية. ولا مصلحة
لأحد، لا الشعب ولا الحاكم، في ولوج الربيع عنوة، وعلى الحكام العرب جميعاً، أن
يعرفوا بأن لا خيار سوى ولوج ذلك الربيع، وأفضله وأقله تكلفة، هو الخيار
الإرادي. لقد فشل العرب فشلاً ذريعاً في مشروعهم التنموي، لأن مشروع الحكم
يتناقض مع مشروع الدولة، ولا تنمية دون دولة، فالحصيلة كانت تخلف وبطالة، وفوق
تلك البيعة البائسة، قهراً وسلباً لكرامة الإنسان، والمقالة سوف تستعرض ماضي
العرب، وواقعهم، ومتطلبات المستقبل للربيع الدائم لمن يتبقى منهم دون إصابات
قاتلة.
ثانياً- الربيع العربي
1- بعض التاريخ
تختلف أقطار الوطن العربي عن ما حولها في عالم اليوم، باستثناء كوبا وشمال
كوريا وماينمار أو بورما، فحتى بداية الربيع العربي، لم يكن في الوطن العربي
مشروع دولة، كلها كانت مشروعات حكم، ومشروع الحكم بتكوينه وآلية الإبقاء عليه،
يتناقض مع مشروع الدولة. والتنمية الاقتصادية، بالمعنى الذي نعرفه، أي تحقيق
وضمان استمرار النمو المستدام، والعدالة النسبية في توزيع منافعه بين الأجيال
المتعاقبة وضمن الجيل الواحد، لا يمكن تحقيقه دون مشروع دولة، لذلك، لا مناص من
سقوط مشروع الحكم، لأنه لا يحقق أدنى مقومات الاستقرار اللازم لمشروع الدولة.
ومشروع الحكم، غير قابل للديمومة، لأنه يعتمد قواعد أو أسس هشة، وتزداد خطراً
وهشاشة بمرور الزمن، أهمها، تقديم الولاء على الأداء في مناصب الدولة الرئيسية،
والدولة في الغالب تحتكر كل شيء، والثاني عصا الأمن الغليظة. والولاء ثمنه
الفساد والإفساد، والأمن ثمنه التغاضي عن الانحرافات حتى يتحول إلى سلطة مطلقة
طاغية وفاسدة، وقليلاً قليلاً، تنحسر الموارد المتاحة للسواد الأعظم من الناس،
ويزداد الشعور بالظلم والقهر مع ازدياد الكبت. ومع الانحراف الشديد في توزيع
منافع النمو، أو المكافأة للموالين وجهات الأمن، يزداد صراع القمة، وتضيق دائرة
الثقة، ومع الزمن، تنحصر في أقرب المقربين، صلبهم من رابطة الدم، وهكذا تحولت
الجمهوريات إلى وراثية أسوة بالملكيات.
وبلهجة بدو الشام، تضيق دائرة المستفيدين من المنسف، وتتوسع دائرة الخاضعين
للسيف، الحاكم الذي يبدأ بنفس إصلاحي، ينتهي الأمر به يعيش بدائرة ضيقة محكمة
لا يرى خارجها، وإغواء السلطة المطلقة والثروة الضخمة، يجعله لا يسمع سوى ما
يحب، ويخلق عالمه الخاص به، حيث تختزل الدولة في شخصه والمقربين جداً منه، فلا
مدينة ولا جامعة ولا إستاد رياضي ولا ميدان أو شارع رئيسي، سوى باسمه أو باسم
من يحب. ولا يختلف حاكم عربي في الجمهوريات أو الملكيات العربية عن الآخر، ولكن
تتفاوت فقط حدة اختزال الدولة في شخصه، طبقاً لاختلاف مدى تقدم المجتمع
وعراقته، وطبقاً للمدى الزمني الذي مر على حكم الزعيم.
في نوفمبر 2002، يقابل الإعلامي الأمريكي الشهير "دان راذر" صدام حسين، وفي
ختام مقابلة طويلة، يسأله عن مدى شعبيته، فيرد صدام حسين مبتسماً، بأنه للتو
استلم نتيجة الانتخابات الرئاسية، وكانت المشاركة الشعبية في الاقتراع 100%، أي
أن عزرائيل لم يطأ فضاء العراق ما بين تحصين جداول الناخبين وإجراء الانتخابات،
أي لبضعة أشهر، وتم التصويت له بنسبة 100%، ويضيف صدام، لا بأس لو أراد "دان"
خصم 5-10%، فالشعبية والحب لازالا طاغيان. وفي انتخابات نوفمبر 2010 في مصر،
فاز حزب الرئيس أو "حزب الحاكم" بـ 99% من مقاعد مجلس الشعب المصري، وأشرس
المنافسة لم تكن مع المعارضة، وإنما بين المحبين له، أو مرشحي الحزب الحاكم،
توطئة لتنفيذ عريضة التوقيع بالدم لشرعنة التوريث. ومن يستمع إلى خطاب القائد
العقيد القذافي –أو أي زعيم آخر- سوف يلحظ كم هو مهووس بعشق ملايين الليبيين
له، وأنصاره يرددون شعار "الله ومعمر وليبيا وبس"، أي "معمر" قبل ليبيا، وربما
يقولون أكثر من ذلك في جلساتهم الخاصة، أنهم، أي الزعماء، مغيبون.
ولو استعرنا مؤشراً رقمياً على ما يؤدي إليه اختزال مشروع الدولة بمشروع الحكم،
نلحظ أن علاقة النمو الاقتصادي بمنافعه عكسية على مستوى دائرة "السيف" الواسعة،
وهو ما يؤدي حتماً إلى تحول كل بلد عربي إلى برميل بارود. إذ تشير آخر الأرقام
المنشورة في 02/05/2011 لـ IIF أو "Institute of International Finance"، إلى
تفوق الدول العربية في أرقام البطالة، وضمنها تفوق بطالة الشباب المتعلم، أو
أعواد الكبريت. ففي كل الدول العربية، بلغ معدل البطالة الكلي في عام 2009 نحو
11.5%، ولكن، بطالة الشباب ضمنه بلغت أكثر من الضعف، أو 25.2%، بينما هذه
المعدلات لجنوب وشرق آسيا 4.8% للبطالة الكلية و11.3% لبطالة الشباب، وفي
أمريكا اللاتينية 7.7% و15.7% على التوالي. وواضح تفوق معدلات بطالة الدول
العربية، ولا فرق في ذلك بين أغنياء العرب وفقرائهم، فمعدل البطالة الكلي في
السعودية طبقاً لنفس المصدر هو 10.2% وضمنه بطالة الشباب 23.2%، وفي مصر 9.5%
للبطالة الكلية، و27.2% لبطالة الشباب. والمستقبل حتى أسوأ مما تعرضه الأرقام،
فالهرم السكاني في المنطقة عريض القاعدة، وفي بعض الدول العربية يبلغ اتساع
القاعدة نحو ضعف المتوسط العالمي، ذلك يعني أن وضع سوق العمل سوف يكون أكثر
سوءاً لارتفاع معدلات تدفق العمالة الجديدة إليه. وواقع الحال أسوأ حتى في
الحاضر، فمعظم الدول العربية، إن لم يكن جميعها، لا تنشر أرقاماً صحيحة عن وضع
البطالة، فهي ولأسباب سياسية، ونتيجة غياب منظمات المجتمع المدني، تبالغ في
خفضها. وبعض الحاضر أسوأ في سوق العمل لبعض الدول الصغيرة والغنية، لأنها تشتري
استقرارها المؤقت بخفض البطالة السافرة مؤقتاً باستبدالها بالبطالة المقنعة
مرتفعة التكلفة، بما يخرب رأس المال البشري ويقوض تنافسية اقتصادها، وينقل
الانفجار الأكثر عنفاً إلى المستقبل.
لقد وفر الماضي خلطة شديدة الانفجار في معظم الدول العربية، فالفساد الكبير أو
الإثراء غير المشروع، وعصا الأمن الغليظة، بما تعنيه من احتباس للبخار، مع
بطالة مرتفعة وحقيقتها أعلى من المعلنة، ومضاعفة للشباب ضمنها. لذلك، لم يكن
مستغرباً، عندما أشعل البوعزيزي فتيل ثورة تونس، وأن تمتد الشعلة من المحيط إلى
الخليج.
2- بعض الحاضر
الوطن العربي أمام واقع لا يختلف عما حدث في أوروبا الشرقية ما بين حراك بداية
الثمانينات في بولندا "ليش فاليسا" عندما بدأ حراك ثورة العمال على مشروع حكم
العمال، وانتهى بسقوط جدار برلين في آخر الثمانينات، وسقوط الاتحاد السوفيتي في
بداية التسعينات. وفي آخر كلمة للرئيس أوباما عند زيارته لبولندا قبل نحو شهر،
طلب منها تعليم تجربتها في التحول الديمقراطي السلمي للدول العربية، بينما
لازالت الدول التي قاومت التحول الإرادي مثل دول الاتحاد السوفييتي والاتحاد
اليوغسلافي، ولاحقاً أوكرانيا وبيلاروسيا، يعانون من تداعيات خطرة لإطالة أمد
التحول الطوعي.
وعند قراءة حاضر الوطن العربي، لا يقارن ما حدث في تونس ومصر بما يحدث في ليبيا
أو اليمن أو سوريا، ففي تونس ومصر، لم تنحاز المؤسسة العسكرية لمشروع الحكم على
حساب الدولة، واختزل ذلك كثيراً من الوقت، وقلل من تكلفة التحول. النموذج
الآخر، هو تلك الدول التي أسست مؤسستها العسكرية لحماية أمن الحكم وليس أمن
الدولة، وسلمت قياداتها للأقارب ممن ارتبطت سلامتهم ونفوذهم ومصالحهم، بسلامة
الحاكم ودوام حكمه، وفي سبيل بقاء غير مستحق، لا بأس بزوال الدولة. السيناريو
المحتمل للدول التي دخلت حقبة مبكرة من الحروب الأهلية، سوف يكون سيناريو قريب
–وليس مشابه- لما حدث للعراق منذ عام 2003، والعراق دولة أسسها صحيحة، وإن
انحرفت إلى لبننة الديمقراطية، أي طائفيتها، ولكن آليات تفعيلها ضعيفة، بعد
تدمير كل أسس المجتمع المدني تماماً من قبل مشروع الحكم.
بقية الدول العربية، لديها نفس الخليط القابل للانفجار، وهي إما أنها واجهتها
أمنياً مثل البحرين، أو أنها تحاول الإصلاح دستورياً مثل المغرب، أو تحاول شراء
الوقت مثل دول الخليج الغنية. وبعد نحو 6 شهور فقط على بداية انتفاضة تونس –17
ديسمبر 2010-، يظل الوقت مبكراً لتقويم مسار الأحداث في المنظومة التي تبدو
مستقرة، ولكنها حتماً غير مؤمنة ضد الأحداث، وهو ما سوف نعرض له عند الحديث عن
بعض المستقبل. وذلك يجعل حساب التكاليف لهذه المنظومة، وتحديداً التكاليف
المباشرة في الوقت الحاضر، أمراً صعباً، لذلك سوف لن يشملها تحليل تكاليف
الحاضر المباشرة.
وتشير تحليلات أولية، إلى أن أوضاع كلا من تونس ومصر سوف تسوء قبل أن تتحسن،
فالنمو السالب وارتفاع معدلات البطالة واستنزاف احتياطي النقد الأجنبي هي ثمن
لا يمكن اجتنابه. فنمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 سيكون سالباً بنحو
-1.5% لتونس وفي مصر سالباً بنحو -2.5%، مقارنة بنمو موجب لتونس في عام 2010
بنحو 3.4% ولمصر بنحو 5%. ويذكر وزير التكوين المهني والتشغيل التونسي بتاريخ
27/05/2011 من باريس، أن معدل البطالة قفز إلى 16% بعد أن كان 13.3% في عام
2009. وفي 29/05/2011، يذكر رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء
المصري أن معدل البطالة في مصر في الربع الأول من عام 2011 ارتفع إلى 11.9% بعد
أن كان 9.5% في نهاية عام 2009. ويعتمد الاقتصادان بشكل رئيسي على تدفقات النقد
الأجنبي من السياحة التي أصيبت بضربة –هبطت حجوزاتها في تونس للصيف الحالي بنحو
55% مقارنة بالصيف الفائت-، والاستثمار الأجنبي المباشر الذي توقف، وتحويلات
العاملين في الخارج، وبعضها توقف بالكامل تقريباً، مثل التحويلات من ليبيا.
وهذا الوضع الاقتصادي الخانق، سوف يسوء قبل أن يتحسن، فالانفلات الأمني، وسواد
الروح الانتقامية، ومحاولة اختطاف الثورة، والبحث عن النموذج للخروج من هذا
الوضع، فيه بعض التجربة والخطأ، كلها ستؤدي إلى تأخير بلوغ المستوى الضروري من
الاستقرار لدوران عجلة الاقتصاد من جديد. ورغم ذلك، ليس هناك طريق اخترعه العقل
البشري في الانتقال من مشروع الحكم إلى مشروع الدولة سوى هذا الطريق، وتونس
ومصر سيقدمان مستقبلاً نموذجان لابد من تقليدهما في كل الدول العربية الأخرى،
الفارق، بأنهما سيكونان أقل نماذج التحول كلفة مقارنة بالدول الثلاث الأخرى.
وأوضاع الدول التي بات العنف فيها يمثل بداية حروب أهلية، أكثر سوءاً بكثير،
وفي بداية مايو 2011، قدر تقرير لـ IIF، أن يبلغ النمو السالب في كلاً من اليمن
وسوريا في عام 2011 نحو -4% و-3% على التوالي، بينما لم تتوفر أرقام ليبيا. وفي
29 مايو 2011، يذكر وزير الصناعة والتجارة اليمني بأن اليمن تخسر نحو 5 مليار
دولار أمريكي بسبب الأزمة، محذراً من أن الانهيار يحيق بالبلد ما لم يتلقى
مساعدات. ولإعطاء بعض المعنى لحجم الخسائر المقارن، من المتوقع أن تبلغ خسائر
اليابان من الضربة الثلاثية، أو الزلزال والتسونامي والتسرب الإشعاعي، نحو 235
مليار دولار أمريكي، وتساوي نحو 4% من حجم ناتجها المحلي الإجمالي. بينما خسارة
الـ 5 مليار دولار أمريكي في اليمن تساوي 16.0% من ناتجها المحلي الإجمالي، أي
أربعة أضعاف خسائر اليابان، وتبقى خسائر الطبيعة بلا أحقاد وثارات شخصية،
والأخيرة تكلفتها أكبر وأعمق. وما نعرفه، هو أن هذه الدول تسير في حساب
التكاليف إلى الأسوأ، وما نعرفه هو أننا لن نصاب بالدهشة إذا سلكت دول عربية
أخرى نفس الطريق، وما لا نعرف، هو المدى الزمني لخروج أي بلد مأزوم من أزمته،
وحساب تكاليفها، ومعها إمكانات تعافيه من عدمها، أو احتمال التحول إلى دولة
فاشلة.
3- بعض المستقبل
في تقرير أعده فريق صندوق النقد الدولي وقدمه إلى قمة "الثمانية الكبار" "G8"
في دوفيل – فرنسا بتاريخ 26-27/05/2011، يذكر في مقدمته، بأن الاستقرار
الاجتماعي والسياسي لن يتحقق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما لم تنجح
في خلق ما بين 50-75 مليون فرصة عمل جديدة خلال عقد من الزمن. وذلك لن يتحقق
إذا استمر نموذج التنمية القديم الذي ساد في الفترة ما بين 1980-2010، فخلالها
حققت المنطقة معدل نمو اقتصادي حقيقي منخفض، أو 3% مقابل معدل 4.5% للدول
النامية والناشئة الأخرى. والنمو لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كان
الأدنى في العالم، أو 0.5%، فقط بسبب ارتفاع معدل النمو السكاني البالغ 2.5%،
والبطالة كانت الأعلى في العالم وراوحت ما بين 10-12%، وضمنها كانت بطالة
الشباب أكثر من الضعف، وبطالة المتعلمين منهم هي الأعلى، بما يعنيه من انفصال
التعليم عن متطلبات سوق العمل. ويقدر التقرير حاجة الدول التي شملها العنف إلى
تمويل خارجي للسنوات الثلاث 2011-2013 بنحو 160 مليار دولار أمريكي، ودون الأخذ
في الاعتبار تكلفة أي برامج إصلاح جديدة.
كان الوطن العربي على مدى جيل كامل –وقبل ذلك بكثير- فاشل في تبني مشروع تنمية،
لأن موارده استخدمت في الإبقاء على مشروعات حكم، وأول متطلبات النجاح في
المستقبل، هو التحول إلى مشروع دولة في كل قطرعربي. ومشروع الدولة في كل قطر،
يعني أن السلطة السياسية مؤقتة، والكيان دائم، بينما في مشروعات الحكم، السلطة
دائمة، والكيان في مهب الريح، لذلك مهما بلغت تكلفة التحول، هي ضرورة لا فكاك
منها، ولا استثناء لها. ويشير الواقع العربي إلى انقسام الدول العربية إلى ثلاث
فئات، الأولى حسمت أمرها بتكلفة عالية، ولكن محتملة على المدى المتوسط إلى
الطويل، مثل تونس ومصر، وأخرى دخلت نفق العنف، وبلغ حدود التصفية ما بين مناصري
مشروع الحكم ومناصري مشروع الدولة، وسوف تنتهي بتكاليف هائلة، وربما غير
محتملة. وفئة ثالثة لازالت ظاهرياً ونسبياً هادئة، ولكنها تحمل داخلها كل
التناقضات التي تفضي إن عاجلاً أو آجلاً إلى نفس المصير، ولا أحد يريد لأي منها
ولوج مرحلة العنف.
قبل بضعة سنوات، استخدمت قناة CNN الإخبارية جملة قالها الملك عبدالله ملك
الأردن، وكررتها كثيراً باستخدامها مقدمة لبرنامج، ملخص الجملة هو، "أن
الديمقراطية تعني أشياء مختلفة للأمم المختلفة"، ولم تكن جملة صحيحة.
فالديمقراطية لكل العالم تعني شيء واحد، حكم الناس من قبل غالبيتهم ولمصلحة
معظمهم، أي لا سيادة لفرد أو لقلة على الناس، والشعب مصدر السلطات، حينها فقط
تخلق دولة الدستور الديمقراطي والقانون، وحينها فقط، إما أن تنجح السلطة
السياسية في تحقيق احتياجات معظم الناس، أو ترحل بسلام وتستبدل بواسطة صناديق
الاقتراع. وتؤكد المؤشرات بأن أسبانيا حالياً لديها مؤشرات كمية أكثر سوءاً،
فالبطالة الكلية 21.3%، وبطالة الشباب ضمنها 45%، لذلك خسر الحزب الاشتراكي
الحاكم آخر انتخابات بلدية، وقام بتسمية زعامة مختلفة، وسوف يخسر الانتخابات
العامة القادمة، فلدى أسبانيا آلية سلمية للتغيير الإرادي السلمي. ولكن العرب،
حاولوا، خلافاً لكل العالم، حياكة ديمقراطية خاصة بهم، وكانت الفاتورة باهظة
التكاليف، والبضاعة رديئة وقليلة، وحان وقت انتقال العرب طوعاً إلى قاعدة
لتداول السلطة، تم بنائها وترميمها باستمرار على مدى 4 قرون تقريباً، وسقط كل
ما عداها.
وأكاد أجزم، بأن السنوات العشر القادمة حاسمة، ولن تترك بلداً عربياً دون تغيير
جوهري، وأمام ما تبقى من تلك الدول خياران لا ثالث لهما، إما التغيير الإرادي
الواعي قليل التكلفة، وإما واحد من نموذجي التغيير العربي، أي العنيف المؤقت،
أو العنيف جداً والكارثي. وإن ترددت تلك الدول في أخذ خيار التغيير الإرادي،
فالوقت هو الفاصل فقط بين ولوج أحدها والأخرى خيار التغيير العنيف، ويمكن
استعارة مثال قاطع لإثبات تلك الخلاصة. فالجزيرة العربية تضم 7 دول عربية، طال
العنف بدرجات متفاوتة ثلاث منها، هي أقلها ثراء مؤقت، بينما بدت الدول الأربع
الأخرى أكثر استقراراً باستخدام الأموال لشراء وقت إضافي، ودفعت الأربع أو وعدت
بالدفع لاثنتان من جيرانها ببعض المال لشراء الهدوء المؤقت فيهما، أو 20 مليار
دولار أمريكي على مدى 10 سنوات. والمال لن ينجح بديلاً للتغيير الإصلاحي
الإرادي، ولا دعوة الأردن والمغرب للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، أو
مقايضة المال بالأمن، بديل، فدروب الأمن والاستقرار واضحة، وهي مشروع مجتمع
متجانس ومتماسك يوفر مقومات الأمن ومتطلبات التنمية، ينجح فيه الاقتصاد في
تحقيق ما يحتاجه الناس، ويخلق ما يكفي من فرص عمل، ذلك هو مشروع الدولة مقابل
مشروع الحكم.
والتقرير السابق ذكره المقدم من فريق صندوق النقد الدولي لاجتماع قمة الثمانية
الكبار، يذكر، بأن نسبة صادرات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العربية غير
النفطية في عام 2009 أي الدول العربية، بلغت 28% فقط من ناتجها المحلي
الإجمالي. بينما هذه النسبة لدول حوض الباسيفيك –باستثناء اليابان والصين
والهند- بلغت 56% من ناتجها المحلي الإجمالي، أو ضعف النسبة لدول المنطقة غير
النفطية، ذلك يعني أن مناطق العالم الأخرى تصنع وتزرع ما يحتاجه العالم خارجها،
بينما منطقتنا عاجزة، وتستهلك ما يصنعه ويزرعه الآخرون، ولا تبيع للآخرين ما
يسهم في تمويل شراء احتياجاتها غير بيع أصل زائل، وهو نموذج غير قابل للصمود.
ولنا مصلحة جميعاً، في أن لا نحرق مواردنا في الهدم وفي صراع مع بعضنا البعض،
وما لم نفعل ذلك مبكراً، فقد نفشل في المستقبل في تبني أي نهج ناجح، وعليه لابد
لعملنا وتركيزنا من أن ينصب على التفاهم حول الانتقال الإرادي إلى مشروع
الدولة.
خاتمة
ما بين وفاة الشاعر الفذ التونسي الذي تنبأ بكسر الشعب للقيد إذا آمن بإرادة
الحياة، وإحراق الفيزيائي الشاب التونسي نفسه بعد منعه من العيش ببيع الخضار،
76 عاماً، فشل فيها العرب في صناعة أمة صلبة منافسة، وفشلت فيها كل أقطاره في
صناعة نموذج ناجح. وكانت حصيلتها على مستوى الأمة، تحقيق أدنى معدلات النمو
الكلي، ونحو 0.5% فقط من نصيب الفرد العربي من ذلك النمو، مقابل 7 أضعافه للدول
النامية والناشئة، وحقق العرب وكل قطر عربي أعلى معدلات البطالة الكلية وأكثر
من ضعفها بطالة الشباب، والأعلى لدى المتعلمين منهم ويظل واقعها أسوأ من
المنشور، فتحولت دولهم إلى براميل بارود، وشبابهم إلى أعواد كبريت.
وبدلاً من معالجة تلك الأوضاع بعلاج مسبباتها، اكتفوا بحجر الأساس في مشروع
الدولة، أي مشروع الحكم، وأداروا مشروع الحكم بتقديم الولاء على الأداء، فانتشر
الفساد، وساءت جداً مؤشرات توزيع منافع النمو لصالح الفاسدين. وتولت اليد
الغليظة جداً للأمن، إخفاء الخطايا بالاستخدام المسرف للعنف، وتحولت معظم أجهزة
الأمن إلى مفسدة مطلقة، ومع ازدياد الجشع وانحسار المكافأة وضخامة البخار
المحبوس، تآكلت دائرة المنسف وانحصرت في رابطة الدم.
ولم تصل إلى نظم الحكم العربية الرسالة بانحسار دول حجر الأساس أو مشروعات
الحكم في كل العالم، فأشعل البوعزيزي فتيل امتدت ناره من المحيط إلى الخليج،
وفي تقديري، أنها 10 سنوات أو نحوها تفصل كل الأقطار العربية عن حقبة التغيير
الإرادي أو القسري. والإفادة من دروس الربيع العربي تحت التنفيذ، أكثر من كافية
لدعوة صادقة وجادة من أجل التغيير الإرادي، أما البديل، فهو دفع فاتورة التحول
القسري، وبعضها غير محتمل، ويحول بعض دولنا إلى دول فاشلة، أسوة بالصومال
وأفغانستان.
وأشد المخاطر التي تواجه التحول الإرادي إلى ربيع دائم، خاصية الاستحواذ على
مستوى القمة، فالتاريخ العربي ما بين دولة الخلافة الأولى التي قتل فيها ثلاثة
من الخلفاء الراشدين الأربعة، ودولة الخلافة العثمانية الأخيرة التي يقطع في
الخليفة نسل إخوته لمنع منافسته ونسله على السلطة، لا توفر استثناءاً للتداول
السلمي للسلطة. ولم تستفد أنظمة الحكم العربية الحالية مما حدث لأوروبا
الشرقية، ولا لصدام حسين، ولا حتى لمبارك وبن علي والبقية، فالكل يعتقد أنه
استثناء، وذلك غير صحيح. الأمر الآخر، هو خاصية الإقصاء على مستوى القاعدة،
فثقافتنا فيما يبدو لا تتسامح مع الاختلاف، فأنت أما معي أو ضدي، حتى لو كانت
مساحة الالتقاء ضعف مساحة الاختلاف، تظل خصماً أو حتى غير موجود. فالقوى
السياسية الشعبية، ومنظمات المجتمع المدني، غير ديمقراطية داخلها، ولا تجاه
الغير، رغم أنها تردد، أن السياسة هي "فن الممكن"، ولكنه يبقى في حيز الشعار،
أما الواقع، فالسياسة، فهي أنا.
يبقى الأمل في نموذج ماليزيا التي نجحت وبتفوق في مشروع دولتها، وتبعتها تركيا
بعد حكم العسكر حامي العلمانية من زمن أتاتورك، ويحكمها حالياً حزب إسلامي،
يحترم دستور الدولة المدنية، ويطمح في تحويل تركيا إلى عاشر أكبر اقتصاد في
العالم بحلول العام 2020. دولتان إسلاميتان بدءاً بخانة العشرات، وانتقلتا
حالياً إلى خانة المئات، وتخطت مصر خانة الآحاد، ومخاضها طويل حتى تستقر في
خانة العشرات، ولكن طريقها صحيح، ومن المتوقع أن تقدم نموذج عربي يحتذي، وسوف
تدخل خانة المئات، والرهان هو على الوقت.
---------
الكويت 13-6-2011
*مداخلة رئيسية قدمت في اللقاء التخصصي لمنتدى التنمية، دبي 9-6-2011. سوف تنشر
هذه الورقة قريبا مع بقية الأوراق وما جرى عليها من نقاش في كتاب بعنوان "معالم
نظام حكم ديمقراطي منشود في دول مجلس التعاون"، يقوم بتنسيقه وتحريره الدكتور
علي خليفه الكواري.