gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
تداخل الرياضة والسياسة في عالم الرياضة الدولي
د.سعيد الشهابي
14-06-2011

يمكن القول ان قرار المقاطعة الرياضية لاي بلد يعتبر من اشد القرارات أثرا من الناحيتين النفسية والاعلامية، وقد يفوق في اثره المعنوي قرارات المقاطعة الاقتصادية. والسبب في ذلك ان الرياضة اصبحت مهيمنة على عقول الناس وقلوبهم، وتعتبر تعبيرا قريبا من الواقعية عن مزاج 'الرأي العام'. فقرارات المقاطعة السياسية او الحصار الاقتصادي تحظى بشكل عام باهتمام السياسيين والاقتصاديين (بالاضافة للاعلاميين)، بينما عندما يدور الجدل حول عقد دورة رياضية في بلد ما، او الغائها، فانها تصبح مثار اهتمام قطاع شعبي واسع، بالاضافة لاهتمام السياسيين والاقتصاديين ايضا.
ولذلك فعندما قرر الاتحاد الدولي للسيارات الغاء السباق الذي ضغطت حكومة البحرين لاعادة عقده، اتخذت القضية ابعادا اعلامية واسعة كان بالامكان تفاديها من قبل نظام الحكم في ذلك البلد الذي يعاني من اضطرابات سياسية وثورة شعبية ما تزال ترفض التوقف.
ومن المتوقع ان يثير قرار الالغاء جدالا حادا في دوائر ثلاث: دهاليز القرار في الاتحاد العالمي للسيارات، والاوساط الحكومية لبعض الدول التي ضغطت على الاتحاد للموافقة على اقامة السباق في البحرين، وفي اوساط عائلة آل خليفة التي تحكم البحرين. ويعود الجدل حول عقد السباق الى بداية الاضطرابات عندما أطلق الشباب البحراني دعوتهم للثورة في 14 شباط/فبراير. فقد كان من المقرر أن يقام السباق على حلبة صخير في افتتاح الموسم في اذار/ مارس الماضي لكنه تأجل بعد اندلاع الثورة.
وبعد منح البحرين عدة أشهر لتقرر ما اذا كانت في وضع يسمح باقامة السباق أعلن الاتحاد الدولي للسيارات يوم الجمعة 4 حزيران/ يونيو أنه سيعيد السباق لجدول بطولة العالم ليقام في 30 تشرين الاول/ أكتوبر. وتم تعديل موعد سباق جائزة الهند الكبرى الذي يقام لاول مرة الى 11 كانون الاول/ ديسمبر لكنه سيعود الان الى موعده الاصلي. وأشعل القرار غضب نشطاء حقوق الانسان ووقع أكثر من 455 ألف شخص التماسا على الانترنت يدعو فريق 'رد بول' بطل العالم وفرقا أخرى لمقاطعة سباق البحرين.
وشهد الاعلام الغربي في الاسبوعين الماضيين حملة واسعة ضد عقد السباق في البحرين، فكتبت الافتتاحيات ووجهت النداءات للجهات السياسية والرياضية المعنية من قبل نشطاء حقوق الانسان ورموز المعارضة البحرانية، الامر الذي جعل عقد السباق في البحرين امرا مستحيلا. فمن جهته، واجه الاتحاد العالمي للسيارات انتقادات غير مسبوقة، واتهم بانه تخلى عن الاخلاق والقيم، واصبح اكثر اهتماما بالمال. ووجهت اصابع الاتهام لبعض المسؤولين الكبار في لندن خصوصا ان قرار اقامة السباق في البحرين جاء بعد لقاء ولي العهد البحريني مع رئيس الوزراء البريطاني. وخرجت صحيفة 'اندبندنت' البريطانية بعنوان مثير جدا: 'كاميرون يحتضن الاستبداد'، بينما كتبت صحيفة 'التايمز' في 7 حزيران/يونيو افتتاحيتها بعنوان: 'السباق نحو الهاوية' واصفة القرار بانه 'عار وجشع'.
في ضوء هذا القرار الذي ستكون له تبعاته السياسية داخل البحرين وخارجها، اصبح من الضروري تسليط الضوء على العلاقة بين الرياضة والسياسة في عالم مولع بظاهرة النجومية في عوالم الفن والرياضة، واقل اهتماما بالقيم والمعايير الاخلاقية. فقرار الغاء اقامة السباق في البحرين يتضمن ابعادا اخرى بجانب البعدين السياسي والاقتصادي. ولا يمكن النظر الى ذلك بدون اعادة قراءة الملفات الرياضية العالمية ومدى تداخلها بالشأن السياسي. ونظرة الى التاريخ الطويل من هذا التداخل تكشف عمق الترابط بينهما وتكشف حقيقة اخرى مفادها ان النظام العالمي القائم يسعى لتحويل الرياضة الى اداة اخرى للهيمنة وبسط النفوذ. وسيظل عالم الرياضة ساحة اخرى للصراع والسباق على النفوذ، خصوصا الالعاب الاولمبية وكأس العالم.
وسيظل الأمل راسخا بان تتحرر الرياضة من تلك النوازع من جهة ومن تحويلها الى عالم يهيمن عليه المال، ويتحول الرياضيون فيه الى 'نجوم' صنعها ذلك المال، وتكونت اجسامها ومهاراتها الرياضية بفعل الوفرة المالية التي لا تتوفر لغيرهم. فالرياضة اليوم تتحول تدريجيا، الى 'مهنة' وتبتعد عن طبيعتها الشعبية كممارسة يومية يقوم بها سائر الناس. ولذلك تحول الرياضيون الى 'نخب' غير منفصلة عن عالم السياسة. وكثيرا ما تحولت هذه النخب الى اذرع للانظمة السياسية تستعملها ضد مناوئيها او منافسيها. ويعتقد ان قرار العودة الى البحرين الذي أحدث شروخا داخل الاتحاد الدولي للسيارات ونقاشات حادة سوف يكون هو الآخر مادة للجدل والخلاف، لانه أثار علامات استفهام واسعة حول مدى التزام الاتحاد بالقيم الانسانية والاخلاقية، ومدى خضوعه للتأثيرات السياسية والمالية. وفي الوقت نفسه، كشف بونا شاسعا بين الفرق المتسابقة التي اتخذ اغلبها موقفا مبدئيا ضد قرار العودة للبحرين، والمسؤولين الكبار الذين خضعوا لضغوط مالية وسياسية لم يتضح مداها بعد.
في جوانبها المشرقة، ساهمت الرياضة العالمية في مكافحة الانظمة الجائرة خصوصا النظام العنصري في جنوب افريقيا، كما كانت مضمارا للتنافس خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
واذا كانت حادثة استهداف الفريق الاسرائيلي في ميونيخ في 1972 من قبل مجموعة فلسطينية بقيادة محمد داود عودة، تمثل توسيعا ملحوظا لمدى النشاط السياسي المقاوم للاحتلال الاسرائيلي، فانها في الوقت نفسه كشفت دور الالعاب في جذب الانظار للقضايا السياسية، ووسعت دائرة نضال المجموعات المقاتلة التي تصر على توسيع دائرة عملها خارج حدود بلدانها، وكسر الحواجز الجغرافية والسياسية التي تعتقد انها تحول دون ممارسة ما تعتقده 'حقا مشروعا' في النضال ضد الانظمة والحكومات التي تعتبرها مسؤولة عن مصادرة حقوقها. وجاء الاحتلال السوفياتي لافغانستان في 1979 ليكون نقطة تحول في التعامل الدولي مع المشاريع الرياضية الدولية. ففي ذلك العام استدعت حكومة بابراك كارمل، القوات السوفياتية لحمايته في مقابل منافسه، حفيظ الله امين، وبدأت حقبة الوجود السوفياتي العسكري في افغانستان الذي اعتبره الغرب احتلالا برغم انه كان بدعوة من كارمل. فقد اصدر الرئيس الامريكي، جيمي كارتر، مهلة حتى 20 كانون الثاني/يناير 1980 لخروج القوات السوفياتية والا فسوف تقاطع الولايات المتحدة وحلفاؤها الدولة الاولمبية التي كان مزمعا عقدها في موسكو في صيف ذلك العام. وحيث لم يحدث الانسحاب فقد تمت المقاطعة بمشاركة ستين من الدول الصديقة للولايات المتحدة.
ورد الاتحاد السوفياتي بخطوة مماثلة عندما اعلن انه سوف يقاطع الدورة الاولمبية المزمع عقدها في مدينة لوس أنجلوس الامريكية في 1984، وتبعه حلفاؤه في الدول الشرقية، بذريعة 'هيمنة الطابع التجاري على الالعاب وغياب الاجراءات الامنية'، واتهمت دول المعسكر الشرقي آنذاك الولايات المتحدة باستغلال الالعاب لـ 'أغراض سياسية' و'اثارة الدعاية المضادة للاتحاد السوفياتي'.
ثم دخلت قضية التمييز العنصري في جنوب افريقيا على خط 'تسييس' الرياضة، وان كان التسييس قائما منذ انطلاق تلك الالعاب. فقد دأب نظام الفصل العنصري على التمييز ضد الاغلبية السوداء في المجال الرياضي والجوانب الحياتية الاخرى، وشمل الفصل تخصيص مداخل وحمامات ومقاعد للسود في الملاعب العامة، بل ان بعض الملاعب وحلبات السباق كانت مخصصة للبيض فحسب. ففي 1964 سحبت اللجنة الاولمبية الدولية دعوتها جنوب افريقيا للمشاركة في الدورة الصيفية للعام 1964. وفي 1970 اصدرت المنظمة قرارها الرسمي بمنع جنوب افريقيا من المشاركة في الالعاب الاولمبية. وفي 1976 طالبت الدول الافريقية بتعليق نيوزيلاندا من المشاركة في دورة ذلك العام بسبب اتصالها مع جنوب افريقيا بما في ذلك زيارة اتحاد لعبة الركبي لنيوزيلاندا، وعندما رفضت اللجنة الاولمبية الدولية ذلك الطلب انسحبت تلك الدول من الدورة، الامر الذي ادى الى تبني 'اتفاقية جلينيجلز' في 1977 من قبل دول الكومنولث. ثم تبنت الامم المتحدة في 10 كانون الاول/ديسمبر 1985 'الميثاق الدولي لمكافحة الفصل العنصري في الالعاب'.
وبعد سقوط النظام العنصري أعلنت المجموعة الاوربية في حزيران/يونيو 1991 ان حكومات دولها سوف تنهي مقاطعة جنوب افريقيا. ويعتبر احتضانها كأس العالم للعبة الركبي في 1995 عودة جنوب افريقا للمشهد الرياضي الدولي. وثمة مواقف سياسية تتخذها بعض الدول لتوضيح سياساتها تجاه بعض القضايا.
في عالم يحفل بالتوترات والاضطرابات السياسية والخلافات الايديولوجية، لم يعد هناك فضاء اممي يخلو من مماحكات بين الدول. وما جرى في الاسبوعين الماضيين بشأن سباق الفورمولا كشف العديد من الحقائق. اولها ان المال النفطي يلعب دورا مهما في التأثير على المواقف والسياسات. وكان ذلك واضحا من خلال التقارير التي بثتها وسائل الاعلام الدولية.
وكان الامتعاض واضحا في صفوف ذوي الاتجاهات الليبرالية الذين يسوؤهم ما يجري. وفي الاسابيع الاخيرة طالب العديد من الدول الاوروبية علي رأسها المانيا الفيفا بفتح تحقيق رسمي في فوز قطر بنسخة المونديال بسبب المزاعم التي تدعي ان قطر دفعت رشاوى لبعض اعضاء اللجنة التنفيذية بالفيفا اثناء التصويت.
ولكن جوزيف بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم 'فيفا' رفض فتح تحقيق في فوز قطر بشرف تنظيم كأس العالم 2022 الا بشرط واحد هو وجود طلب رسمي من لجنة القيم او لجنة الحلول الجديدة بالاتحاد. ثانيها: ان نظام الحكم في البحرين يسعى لاظهار الوضع طبيعيا، برغم استمرار التوتر السياسي الذي لم يتوقف منذ انطلاق ثورة الشباب في 14 شباط/فبراير. وقد ارتكب مسؤولوها الكبار خطأ كبيرا بالهرولة لاعادة سباق السيارات فورمولا 1، لان تلك المبادرة فشلت واصبح عليهم تقديم تبرير منطقي لهذا الفشل. ثالثها: ان هذه الهرولة فسحت المجال امام الجهات الاعلامية الدولية لاعادة فتح ملفات عديدة ترتبط بالوضع الداخلي من بينها محاكمة الاطباء والممرضات، وغياب اي مظهر للاصلاح الحقيقي، واستمرار هيمنة العائلة الحاكمة على كافة الصعدان. رابعها: شعور اصدقاء الحكم بقدر من الحرج بسبب استمرار فتح تلك الملفات وما يقتضيه ذلك من اعادة النظر في المواقف والسياسات للرد على الاتهامات الموجهة للدول الغربية بتجاهل الوضع وانتهاج سياسات مزدوجة، والتعامل بمكيالين. خامسها: ان الرياضة ذات الطابع الدولي تحتاج الى اعادة صياغة منطلقاتها واهدافها، واخضاعها للنقاش العام وفتح ملفاتها بشفافية لمعرفة مدى انتشار الفساد بين موظفيها الكبار. سادسا: ان الغاء قرار عقد السباق المقبل لفورمولا 1 في البحرين يعتبر انتكاسة للسياسة الخارجية لهذه الدولة الخليجية التي تحركت على الصعيد الدولي بدعم سياسي ومالي سعودي، على امل تحييد الدعاية المضادة لها، وكسر شوكة المحتجين المطالبين بالاصلاح السياسي الحقيقي.
لم يعد هناك مجال للتشكيك في تداخل الرياضة بالسياسة، وان الرياضة تحولت من ممارسة شعبية الى 'مهنة'، وان النظام السياسي العالمي يعتبر الرياضة من بين وسائل تمدده بين شعوب العالم وهيمنته عليها. مع ذلك فثمة مجال محدود للتأثير على قرارات الجهات المعنية بالرياضة الدولية خصوصا الدورات الاولمبية وكأس العالم، خصوصا اذا كانت تلك القرارات تتجاهل انتهاكات حقوق الانسان او تمثل اختراقا للقيم الانسانية او المواثيق الدولية. لقد كان احرى بحكومة البحرين السعي لاصلاح اوضاع البلاد والقيام باصلاحات معقولة تلبي مطالب المتحجين، بدلا من السعي للتعتيم على اوضاعها الداخلية باستضافة الفعاليات الدولية من مؤتمرات ومعارض ودورات رياضية. فالاعلام وحده لا يكفي لحسم المواقف السياسية واعلان الانتصار على الثورات الشعبية. وكما اظهرت تفاعلات قرار عودة سباق الفورمولا 1 الى البحرين، فان بامكان المعارضين التأثير على القرارات الدولية وافشال خطط الانظمة التي تستبدل الاصلاح بالقمع وتستعين بالتشويش لاخفاء الحقيقة. انه درس بليغ للانظمة المطالبة بالاصلاح بان الشعوب الباحثة عن الحرية لا تعدم وسيلة التأثير حتى في عالم تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها المدعومون بالمال النفطي الهائل.
 
 

القدس العربي

copy_r