ثمة اجماع على أن الوعي الوطني يتولد من الرأسمال الثقافي والرمزي المشترك
بين الامم والجماعات. وقد لاحظ علماء الاثنيات والاجتماع السياسي بأن الامم
العريقة ذات العناصر الثقافية المشتركة يكون فيها الوعي الوطني، أي وعيها
بذاتها وبهويتها الوطنية أكثر رسوخاً من الامم الحديثة التي لم تتبلور فيها هذه
العناصر. وتبدو الصورة أكثر وضوحاً بالنسبة للأمم التي تحتضن جماعات ثقافية
متنوعة، حينئذ تتعزز الحاجة الى تحفيز عناصر ثقافية مشتركة مستمدة من تراث هذه
الجماعات لجهة استخراج هوية وطنية جامعة. بكلمات أخرى، خلق اطار ثقافي عام
تتمثل فيه كل جماعة، يشكل الاساس الايديولجي للمرجعية الوطنية والاجماع العام.
والمناخ الذي يصنع فيه الوعي الوطني يتطلب استعداداً حقيقياً من كل الجماعات
للتنازل عن جزء من خصوصياتها الثقافية لصالح الاطار الوطني العام الذي يراد من
كافة الجماعات أن تنداث فيه، كما يتطلب مصالحة جماعية لجهة توكيد مرجعية هذا
الاطار الوطني.
مجتمعاتنا، وخصوصاً الخليجية منها، تعتبر بمقاييس الزمن حديثة التكوين، وهذا لا
ينتقص من كونها كذلك. ففي هذه المجتمعات من العناصر الثقافية المشتركة ما
يؤهلها لانتاج وعي وطني عام، ومن أهم هذه العناصر: الدين، الاقليم، اللغة،
العادات الاجتماعية.
بيد أن هذه العناصر المشتركة تعتمد كثيراً على طبيعة توجيهها، فقد تستثمر في
تشييد بناء وحدوي تضعن اليه جماعات عديدة متنوعة، وقد توظّف ـ هذه
العناصر ـ في أحيان أخرى لجهة تعزيز النوازع الانقسامية داخل كل جماعة، بحيث
تتحول هذه العناصر بمرور الوقت الى عناصر تجزئة وتقسيم وليس عناصر توحيد
وتكامل.
وليس بوسعنا هنا استعراض هذه العناصر، فهذا بحاجة الى مساحة بحثية كبيرة
نسبياً، وسنكتفي بتسيلط الضوء على العنصر الديني لدوره المركزي في تشكّل وعينا
الثقافي، للتعرف على طبيعة التوجيه الديني وانعكاسه على الوعي الوطني.
فليس ثمة شك في أن العنصر الديني يتبطن طاقة توحيدية هائلة تعجز العناصر
الاخرى، في أحيان كثيرة، عن توفيرها. فالاسلام جاء برسالة توحيدية وبنى اطاراً
مجتمعياً راسخاً اندمجت بداخله قبائل متناحرة وجماعات اثنية وقومية متعددة،
وتحوّل خلال قرن واحد الى هوية حضارية ساطعة ينتمي اليها طيف واسع من البشر.
ذلك كان الدور التاريخي للدين، ولكن هذا الدور، وبفعل اختلال التوجيه والتوظيف
السياسي والايديولوجي تحوّل الدين في القرون الاخيرة الى ساحة للصراعات
المذهبية والطائفية. فعوضاً عن تفتيش كل جماعة في ثقافتها ما يشحن الروح
الوطنية، فإذا بالانزلاق الطائفي يدفع بهذه الجماعة كي تحيل من ثقافتها الى
دباية تقذف بقنابل التكفير والتجريم ضد الجماعة الأخرى. فيكون الرد بأن تقوم
الجماعة الاخرى بتعبئة روح العداوة ون حملات الكراهية ضد خصمها الوهمي ، بل
اصبحت كل جماعة ترى في الاخرى العدو التاريخي الذي يهدد وجودها ويتآمر على
وحدتها، وبلغ التهالك بتبادل الاتهامات الى حد باتت معه هذه الجماعة تصدّق
مقولة موهومة بأن تلك الجماعة تحيك خيوط مؤامرة في الخفاء "بالتعاون مع اليهود
والنصارى" لنسف الكيان الاسلامي الذي تجسده الجماعة الاخرى. وللأسف هذه هي
البضاعة الثقافية التي مازالت رغم انتهاء صلاحيتها تغزو أسواقنا، والتي فيها
ايضاً امتحان لوعينا الوطني والديني معا.
خطابنا الديني داخل بيت العنكبوت
في غضون أقل من عقد أصبح الانترنت الوسيلة الاتصالية الاثرى بين شعوب وحضارات
العالم، فقد اختزلت ثورة الانترنت حدود العالم الثقافية والجغرافية الى نقطة
الصفر. ليس هناك ما يحول دون الانتقال من قارة الى أخرى، بل بين أقرب نقطة الى
أقصى نقطة في العالم سوى ثوان معدودة لتفتح نافذة واسعة على آخر بات جاهزاً
لاستقبال ضيوفه وتقديم كل المغريات المتاحة التي تتراوح بين مواد ثقافية،
وصفقات تجارية، وحوارات حضارية وأدبية، وساحات للتعارف والعلاقات الودية.
باختصار، ما يجري في شبكة الانترنت ليس سوى تجسيداً حقيقياً لنبوءة القرية
العالمية. نحن هنا لسنا بصدد تمجيد مرحلة العولمة كما يروّج لها السياسيون
وصناع القرار في الغرب، بل نحاول تقريب طبيعة العلاقات المحمومة بين مجتمع
الانترنت.
إن أهم جوهرة تقدمها هذه الشبكة ـ الانترنت ليس فقط كونها ألغت الجغرافيا
التواصل الانساني، فلم يعد لتلك الخارطة المشطّرة على الورق انعكاس على تواصل
مجتمع الانترنت، بل الأهم من ذلك أنها في طريقها لاكتساح تراث من التخاصم بين
بني الانسان وتداعياته المتمثلة في الانقطاعات النفسية والثقافية
والحضارية بين شعوب العالم، وبالتالي وفّرت الشبكة بيئة خصبة لأفراد المجتمع
الجديد أن يتواصلوا بمعزل عن هواجس الأمس: الحروب العالمية، ومحن التمييز
العنصري، ودعاوى التفوق الحضاري.
ويمثل الانترنت حالياً الساحة التي تختبر فيها استعداداتنا الثقافية لبناء وعي
وطني، فهذه الساحة المنفلتة، الى حد كبير، من عقال الرقابة تسمح للجماعات
الدينية على اختلاف توجهاتها المذهبية للتعبير عن نفسها بحرية تامة وتكشف عن
نفسها للآخر بصدق كامل. وهذا يدعونا للتأمل في طبيعة وعي هذه الجماعات بالمعاني
السياسية والدينية الكبرى مثل الوطن والامة ووحدة المجتمع.
وبكلمة صريحة ومباشرة، إن ما تبثه ساحات الحوار في مواقع الانترنت حالياً
والتي يتخذ الكثير منها قواعد محلية للانطلاق ليست سوى عملية استنقاع بالوعي
الوطني، وتطفيل للادراك الديني العام بما يحيل هذه الجماعات المتحاربة
على شبكة الانترنت الى مجرد مراهقين يمارسون لعبة "الاتاري" يكون الاسلام فيها
جزءا من هذه اللعبة الهابطة. هناك يتفنن اللاعبون في التراشق بآيات القرآن
الكريم والحديث النبوي الشريف، ليمزجوها بكلمات يصعب على قاموس البذاءة حمله.
ورغم ذلك فإن هؤلاء اللاعبين يطلقون على هذا التراشق "حواراً اسلامياً"،
فنادراً ما يخلو موقع من "ساحة حوار اسلامي"، ونتمنى ألاّ يطلع عليها غيرنا حتى
لا نتهم في عقولنا.
في (ساحة الحوار الاسلامي)، يتم تلغيم الوعي بفتاوى أقل ما يقال عنها أنها غير
مسئولة، ويتم استدعاء كل العطب التاريخي المتمثل في تراث الخلافات المذهبية،
لنبش قبور الاموات ودفن الاحياء مكانهم..وفي (ساحة الحوار الاسلامي)، يتم تمزيق
الوحدة الوطنية، باسم هذا شيعي "رافضي" وهذا سني "ناصبي". ومما يؤسف له أن ثمة
جهداً جبّاراً يبذله (المتحاورون!!) لبعث مقولات لو سكت عنها لكان الزمن كفيلاً
بدفنها.
ونكاية بالزمن وبنا، ضحايا هذا النهج التقسيمي، فإن المتحاربين وإيغالا في
التخلف، فإنهم يتمترسون خلف خطاب تجهيلي يراد منه شرعنة عمليات
التدميرالمتبادل، بل يتسلح كل متحاور بمنطق ديني صلب، محشواً بالآيات الكريمة
والحديث النبوي الشريف، وتعليق (علماء الأمة وسلفها!)، لتكون الذخيرة الدينية
جاهزة لتفجير وعينا الوطني ووحدتنا المجتمعية وسلامنا الاهلي.
وهذه الذخيرة الدينية هي المتعهدة بتوفير الغطاء الشرعي لاستعمال لغة العنف
(بأشكال مختلفة) كوسيلة تخاطب بين الجماعتين. فمن هذه الاشكال، العنف
الالكتروني الذي يتم به نسف موقع الخصم وتدميره، أو الدخول عليه وسرقة
محتوياته، باعتبار أن ذلك مكفول دينياً يباركه علماء الامة سلفها وخلفها!!.
يشعر الزائر لتلك المواقع بالخجل والحزن وبخاصة بعد قدومه من حلقة حوار راقية
في موقع آخر (وللأسف غير اسلامي)، فهذه المواقع ليست فقط مغلقة حوارياً على
أصحابها فحسب، ولكن، المؤسف، أن ما يقال فيها ليس أكثر من نشر غسيل لواقع
متخلف تجسده هذه المواقع بصدق. وهنيئاً للباحثين المتطلعين لبذل أقل جهد من أجل
اكبر فائدة، كيما يغرفوا من المواد المبثوثة والمنتجة في هذه المواقع. وليس
مدهشاً البتة، أن تحمل هذه المواقع أقصى ما في الخطاب العصبوي من ذخيرة قابلة
للانفجار، وما في ايديولوجيا تنزيه الذات من مقالات سريعة الاشتعال. فما فيها
كفيل بإعادة تطييف المجابهات الايديولوجية المنتجة منذ القرن الرابع الهجري
وحتى هذه اللحظة.
هذه المجابهات لم تحدث أدنى تعديل في ميزان القوى العقدية فحسب، بل إن أقصى ما
تفضي اليه ـ هذه المجابهات ـ أن موقعاً جديداً مضاداً يمكن أن يولد على الجبهة
الأخرى من أناس يندرجون في نفس التصنيف العصبوي. ففي السابق كان الكتاب يقابل
بكتاب، والكاسيت يواجه الكاسيت، واليوم المجابهة ستكون موقعاً على الانترنت في
مقابل موقع آخر، وهلم جرا. والسبب في ذلك كله، أن هؤلاء جميعاً يتوسلون بنفس
الخطاب المتعالي الاقصائي وينتمون الى نفس الجحفل المسكون بوهم ملكية الحقيقة
المطلقة.
تبدّلت وسائلنا ولكن بقينا أوفياء لخطابنا المتوهج ناراً، فهكذا تعلمنا
جميعاً كيف نأتمّ بمن سلف. فليس هناك ما يميّز الكتاب السجالي المخطوط بأيدي
اسلافنا في القرن الرابع الهجري عن مادة سجالية اخرى منزلة في موقع على
الانترنت سوى تبدّل الاناء اللهم الا أن مادة الانترنت قد تكون أقل اشتعالاً
وأسرع انتشاراً. بل وأكثر من ذلك، أن تراثاً سجالياً تطلب اعداده عشرة قرون
قابل في ساعات معدودة أن يكون في متناول اطفال قابعين في قرية نائية من هذا
العالم. ولربما ـ وهنا الطامة ـ أن يتوهم هؤلاء أنهم يبثون علوم الدين وسنن سيد
المرسلين ودرر الاسلاف الاولين والآخرين.
من المفارقات المدهشة أن هذه المواقع صممت وغذيت من قبل أشخاص يفترض أنهم
الأكثر تأهيلاً لارساء أسس الحوار والانفتاح، وبالتالي فمن لم تصبه نفحة
التفكير الحر، ونسبية الحقائق في مسقط رأسه، فلا شك أنه تعرض لها خلال سني
دراسته، وغير ذلك يصدق عليه "عنزة ولو طارت". ومن المفارقات ايضاً أن المواقع
الاخرى تفتتح صفحاتها الرئيسية بترحيب ودعوة مفتوحة لا مشروطة لكل الزائرين،
وتقديم كل التسهيلات كي تبقي على زوارها أقصى فترة ممكنة، أما المواقع اياها،
فعلى العكس فإنها تبدأ، أولاً، بتحميل زائريها وزر القابعين في غير قائمتها، ثم
تتوالى سلسلة الاوزار والاقصاءات، فتحمّلهم كل خطيئة ارتكبت في هذا الكون
بدءا من مقتل هابيل حتى انثقاب الأوزون، ثم تطالب بتنفيذ أقصى العقوبات
الجماعية، أولاً بالقذف بهم خارج حدود الدنيا، ثم تخوّل نفسها دور الخالق عز
وجل لتنهي حسابهم الاخروي بالحكم عليهم بالنار وبئس القرار، وحينئذ تهدأ
غضبتها المقدسة.
عذر الماضين أنهم كانوا يتحاربون من مواقع يجهل كل منهم صاحبه، ولذلك ترى
سجالاتهم الكلامية قائمة في الغالب على أساس تقرير أن لا سبيل الى اللقاء
بينهم أبداً، ولذلك حرموا أتباعهم بما في ذلك أبناء هذا العصر حتى من فرص
مراجعة ما قاله أسلافهم، ناهيك عن تخطئة مقولاتهم التي تحوّلت الى ما يشبه النص
الموحى بل قد يفوق في تأثيره الروحي والتوجيهي الآية الكريمة والسنة الشريفة.
ذاك كان عذر الماضين، ولكن ما عذر اللاحقين، الذين جلب اليهم ما يوصمونه
بالكافر، أي الغرب كل أسباب التواصل المعرفي، وقدّم لهم الكرة الارضية في هيئة
كبسولة ممثلة في الانترنت، في حين لا زالوا كما تخبر مواقعهم على شبكة الانترنت
يعتصمون بنفس المزاعم البالية، أنهم صفوة الخلق وحملة الكلمة المطّهرة والدعوة
النزيهة، والفرقة الناجية.
قادة هذه المواقع تمارس نفس الاستبداد الذي تشكو الآخرين من ممارسته ضدها، فهي
تستأصل حق الآخر في التعبير عن نفسه ليس نظرياً فقط بل وشرعياً، فتعتبر استئصال
الآخر فريضة منزلة، وتتبع ما تزعم أنه من املاءات الشريعة السمحة! ولكنها في
ذات الوقت تشكو من تضافر أهل الزمان عليها لحرمانها من حقها في البوح بما تحسبه
"قول الحق ودعوة الصدق". فلها الحق في الاعراب عما تدعيه، ولكن، في ذات الوقت،
لابد من التذكير أن الحقوق يعضدها بعضها بعضاً، فالحقوق متبادلة، بصرف النظر عن
انتماءات الافراد عنصرياً أو دينياً.
مؤسف القول بأن ثمة عالماً مقيتاً يعيد انتاج نفسه ويكرر خطابه المتهرئ. فبينما
يكرّس طيف من المواقع المثّبتة في شبكة الانترنت على ازالة الحواجز النفسية
والقيود الثقافية بين الجماعات الفكرية والدينية في العالم، هناك مواقع اخرى
منهمكة في نصب الحواجز النفسية والثقافية ليس بينها وبين الآخر بل وبين ذاتها،
بل سهّل هذا المارد الجديد لبعض المتخشبين في العصبيات المتوشحة لبوساً دينياً
أن تتراشق على هذه الشبكة المكشوفة عالمياً بالتمترس خلف نفس اللغة المدقعة
ثقافياً، تلك المنبعثة من نفايات القرون الساحقة. بكلمات أخرى، إن ثورة
الانترنت، بالنسبة لهؤلاء، قرّبت جبهات المواجهة عوضاً عن تقريب فرص الحوار،
ومكّنت المولعين بالخطاب التنزيهي من تقديم أقصى استعراضات القوة الوهمية.
فالتراشق بين المواقع المتمذهبة على شبكة الانترنت لا تقدم أكثر من دليل على أن
هذا الخطاب العصباني المؤدلج مهما تزّيف تكنولوجياً فهو لا يغير من حقيقة
الخواء المطلق الذي يتميز به، وهو في كل الاحوال يسمّر أتباعه في المربع الاول،
أي في المربع الذي حسب الضالعون فيه أنهم طالوا الثرية من علم الأولين
والآخرين.
ولابد هنا من استثناء بعض المواقع الاسلامية الذي نأى عن الانجرار نحو خطاب آسن
وإن تمظهر في شكل ديني، هذه المواقع تستحق وقفة اجلال لأنها تقدّم
الاسلام في تسامحه، وانفتاحه، وسلامه، واجتهاده، وجاذبيته، دون أن تفرض على
الزائر لها سلطة سبقية أو تملي عليه أحكاماً قبلية، هي بكلمة فخر للمسلمين وإن
نالت منها المواقع المجاورة.
ومع ذلك يظل السؤال الفارض نفسه دائماً: والى متى؟ ولمصلحة من كل هذا؟
سؤال نثيره في وجه المفتونين بتاريخ الخصومات والانقسامات، كي ينتقلوا من
التاريخ العبء الى التاريخ الحافز ويفتشوا فيه عن مصادر اجماعنا، فلسنا
بحاجة الى "اسرائيل" كي تدير حروب الطائفية بالنيابة عنا، فرغم كوننا مجتمعات
استهلاكية، فإن الطائفية التقسيمية هي البضاعة الوحيدة التي تصنّع محلياً
وبكفاءة عالية ايضاً، بل ولدينا فائضاً انتاجياً هائلاً يمكن تصديره لساحات
أخرى.
رسالتنا الوطنية نبعث بها الى علماء السنة والشيعة ، ونقول إن الفتاوى،
والمقالات، والكتب والدراسات المذهبية في صورتها المتوترة الراهنة تمثل المادة
الانفجارية التي يتم بها نسف الوعي الوطني وتزيد الفواصل الثقافية
والمفارز الاجتماعية والنفسية بين أبناء الشعب الواحد. وإن المسئولية باتت
جماعية لاحراق هذا التراث الملغوم الذي يحاصر وعينا الوطني ويحول دون تناميه.
فنحن نعيش في مجتمعات حديثة لم تأخذ فرصتها الكاملة في تشكيل وعيها الوطني،
ولابد من بناء ثقافة وطنية مشتركة تحتوي على عناصر الجذب لكل الجماعات
وتؤهلها للدخول في مصالحة وطنية تثمر في بناء اطار مشترك ينضوي فيه كل الافراد
على أساس المواطنة دون الاضرار بخصوصياتهم الثقافية والمذهبية والاجتماعية.
واذا كان الماضي لم يسمح لهذه الجماعة بالانفتاح على الأخرى لوجود مناخات
متوترة، وانعزالات اختيارية وقسرية بين هذه الجماعات، فإن منطق العصر والظروف
العصيبة التي تشهدها بلداننا والتحديات الداخلية والخارجية تشكل حافزاً قوياً
لهذه الجماعات من اجل سحب المبادرة من يد المتراشقين على شبكات الانترنت وفي
الندوات الشبابية أو المنتديات الطائفية ووضعها في يد ذوي الحكمة من هذه الامة
من علماء ومثقفين ورجال فكر وسياسيين متحررين من ربقة التاريخ العبء، ليتكفلوا
بتشجيع ثقافة وطنية مشتركة وتعميمها بين أبناء البلد الواحد.
كلمة أخيرة، إننا اليوم أمام تحوّل اتصالي كوني، وهذا يدعونا كي نطوّر خطاباً
دينياً يتسم بالعمق والنضج والمسئولية، يتولى صياغته الراشدون من أبناء هذه
الأمة، المتحررين من ربقة تقديس السلف حقاً كان أم باطلاً، المعذرين أخوانهم
فيما اجتهدوا فيه، والمحتملين منهم ما لم يتبينوه، غير المتسامحين مع العابثين،
بوعي أو خلافه، بوحدة الوطن والامة.