1-10-2001
في علم الثورات ثمة معايير ثابتة للحكم على نجاحها أو فشلها، وأن اختلال أي
منها يشي بمآل الثورة. وفي ظل الثورات العربية غير المكتملة، نواجه، الآن،
إشكالية مفهوم الثورة، بالنظر الى الفذلكات المضلّلة التي تحاول تصوير الثورة
وفق اجتهادات مستمدّة من الواقع الميداني، وليس كما يجب أن تكونه الثورة..في
رؤية بسيطة، يعتبر البعض إرغام الرئيس على التنحّي شكلاً من أشكال الثورة، فيما
يرى آخرون أن عزل الرئيس وبعض رجاله ثورة كاملة بحد ذاتها، وهكذا تتدرّج الثورة
في وعي المنظرّين لها وصولاً الى تغيير جذري لبنى النظام القديم السياسية
والإجتماعية والثقافية والإقتصادية..ولفرط قنوط شعوب المشرق بسبب طغيان الحكم
الفردي جعل من زوال الرئيس كافياً للحكم بنجاح الثورة..!
في الثورتين التونسية والمصرية، كان التناقض واضحاً بين البنى القديمة
والجديدة، السياسية والإجتماعية، وكان يمكن لكثافة الفعل الذاتي والظروف
الموضوعية أن تساهم في الإنتقال الديمقراطي..ولكن ما حصل أن الثورة الشعبية لم
تستكمل شروط نجاحها عبر تغيير جذري ودؤوب، ففي لحظة بلوغ التناقض ذروته بين
البنى القديمة والجديدة تفجّرت الثورة، ولكن الإستيعاب جاء في مرحلة لاحقة،
بحيث أصبحت البنى القديمة مندغمة في البنية الجديدة، فلم يعد هناك مائز حاد بين
ماهو قديم وماهو جديد.
ثمة من يقول أن ما جرى في تونس ومصر هو نصف ثورة عبر الشعب ونصف انقلاب عبر
الجيش، وذاك رأي يحظى بوجاهة دون تحفّظ ..فالذين وهبوا شهادة التنزيه للمؤسسة
العسكرية وقعوا ضحية فروضها، وكأنما خوّلوها كيما تحصد مازرعه الشعب.
بات معلوماً الآن، أكثر من أي وقت قصير مضى، أن بنية النظام الأمنية والسياسية
فضلاً عن البنى الإقتصادية والإجتماعية في كل من تونس ومصر لم تتغير، كما
ينبغي، بل يمكن القول أن ما جرى، في شكله النهائي، هو صراع داخل النظام القديم
وعملية إزاحة أو إعادة تموضع جرت داخل النظام الذي أريد إزالته، أي بكلمات أخرى
تغيّر الوجه وبقي الجسد.
نحن، في ضوء ما سبق، أمام معطيات صادمة في (ربيع العرب). في مصر ما قبل الثورة
كان هناك ألفان يحاكمون في محاكم عسكرية، ولكن بعد الثورة إرتفع العدد الى 12
ألف شخص يخضع لمحاكمات عسكرية..يعسف بعاطفتنا الثورية قرار المجلس العسكري
تمديد قانون الطوارىء الى حزيران (يونيو) 2012م. في تونس، تجري اعتقالات يومية
وبالمئات من قبل الأجهزة الأمنية (الموروثة من العهد البائد)، بإسم الثورة في
العلن، ومناوئة لها خلف الجدران.
وأيضاً، أصبح الحزب الوطني في مصر بمثابة جهاز تفريخ عالي الكفاءة، فهناك حتى
الآن خمسة أحزاب تناسلت من الحزب الوطني وتحمل سماته الوراثية (الشمولية)،
ويقال بأن مزيداً من الأحزاب سيظهر مع اقتراب موعد الإنتخابات البرلمانية،
وكذلك الحزب الحاكم في تونس الذي مازال رجاله يعملون في الجهاز البيروقراطي،
ويديرون شؤون الحكم، وهم من يقرر مستقبل الثورة والدولة معاً. وبكلمة، فإن رجال
النظام السابق في تونس ومصر يقبعون في أيقونات الدولة السفلى والعليا.
وحتى السلطة القضائية التي يفترض أن تكون أحد أهم أهداف الثورة لجهة ضمان
استقلالها باتت اليوم عرضة لتهديدات العسكر في تونس ومصر..
الثورة، كما تكشف تصريحات من خضعوا لتحقيق عناصر الأجهزة الأمنية المستحدثة،
مفردة ممقوتة من نظام ما بعد الثورة، هل يستوعب الثوّار الدرس؟
وكمحصّلة مقلقة: هناك من يبلغنا من الثوّار أن من يحكم في تونس ومصر ليس من صنع
الثورة، بل هم من رجال النظام السابق، أو بالأحرى أتباع الرئيس المخلوع، وهم من
يضطلع بمهمة إعادة إنتاج النظام القديم.
المجلس العسكري في مصر أقدم على ما لم يجرؤ الرئيس المخلوع على فعله، عبر تهديم
الأنفاق واغلاقها بين مصر وقطاع غزّة، وتشديد الرقابة على معبر رفح وزيادة
ساعات الإغلاق.
ثمة خشية مشروعة تخبرنا بأن ما يقوم به النظام الإنتقالي ليس محثوثاً بتوفير
شروط التحول الديمقراطي، بل على العكس فهو خلال الفترة الماضية قد تحوّل الى
مثابة باب دوّار يعيد الشعب بأكمله الى الماضي، إلى النظام الشمولي..ولا نفهم
تخويل جهاز ينتمي الى نظام شمولي بإدارة عملية الانتقال الديمقراطي، ما لم تكن
ثمة (خديعة) كبرى قد وقعت في لحظة ذهول عام.
ليس صحيحاً القول بأن أزمنة الثورة مفتوحة، لأن ذلك يتعارض في الصميم مع روح
الثورة، فهي لا تملك خاصية البقاء أمداً طويلاً، خصوصاً في ظل محاولات متكررة
لاختطاف الثورة من قبل قوى مناهضة لها في الداخل والخارج..إن زخم الثورة في
تونس ومصر لم يعد هو نفسه كما في الأيام الأولى، فالأنظار، كما الكاميرا، لم
تعد تحدق بتونس ومصر، فهي تنشغل اليوم بثورات أخرى تقع الآن، وتتطلّع لأخرى
تأمل في وقوعها قريباً..
مؤسف القول، أن الطريق الذي تسلكه الثورة في تونس ومصر يمنعنا من الحكم بنجاحها
التام، على الأقل حتى الآن وفي المدى المنظور، فكلّ المؤشرات تخبر بأن لا شيء
يحرّض على التفاؤل. نعم، نحن، كما كل الخبراء والمراقبين، نشعر بأننا أمام مدى
زمني قصير جداً لنحكم بعد ذلك على نجاح أو فشل الثورة، تعويلاً على ما سينجم عن
قانون، وآليات، ونتائج الإنتخابات البرلمانية القادمة. لا ريب، أن اعتماد قانون
الإنتخاب السابق يعتبر محاولة مقصودة لاغتيال الثورة، فما بالك لو أن رموز
النظام السابق حقّقوا الأغلبية وعبر صناديق الإقتراع وبإسم الثورة، فكيف سيكون
الحال حينئذ؟
ولابد من نقطة نظام حازمة هنا، فإذا كان نجاح الثورة في تونس ومصر يتوقّف اليوم
على نتائج الإنتخابات البرلمانية والرئاسية، فالثورة أمام مأزق تاريخي حقيقي،
إذ لن تكون الثورة، وقتئذ، فعلاً شعبياً ناجحاً، لأن من يحكم بعد الثورة ليس
صانعيها. نلفت هنا إلى ما راود الثوّار في مصر من موقف إزاء الانتخابات
المقبلة، فلأول مرة يرفع الثوّار شعار مقاطعة الإٌنتخابات كرد فعل على بقاء
النظام القديم حاكماً (قانون الإنتخابات القديم هو الآخر يريد العودة بالثورة
إلى ماقبلها).
نواقص الثورة
ساد اعتقاد في الأيام الأولى من (ربيع العرب) بأن الشباب عبر مجموعات التواصل
الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية توصّلوا الى (الوصفة السحرية) التي سيكتب
عبرها تاريخ جديد للشعوب المقهورة، وستتحقق بها نهاية الأنظمة الشمولية..وهو
صحيح نسبياً، فيما لو استكمل الشباب باقي شروط الفعل الثوري التاريخي..
كان الاختراع الثوري الفريد في غاية البساطة، فهو لا يتطلب أكثر من تأسيس صفحة
على (الفيسبوك) أو (تويتر) وتحشيد أكبر عدد من الأفراد والمناصرين والإنتقال
بهم الى الشارع وهكذا تنطلق حركة الإحتجاجات..وتالياً الثورة.
فعل في حد ذاته يسير وبكلفة ضئيلة، ولكن يعتبر ناقصاً، أولاً لأن الشباب غفلوا
عن تصنيع رموز للثورة، إذ لا يمكن لأي ثورة أن تنجح بدون قيادة، خصوصاً في
مجتمع جبل على (ثقافة الرموز)..فالثورة اندلعت ولم تُعرَف هوية من ورائها الإ
على نطاق محدود، ولا الصفة التمثيلية لها، حيث كان أعضاء إئتلاف شباب الثورة
الذين تشكّلوا في لحظة متأخرة ما لبث أن غرقوا وسط التشكيلات القديمة والجديدة.
وكان الإصرار على إخلاء الميادين في تونس ومصر يستهدف، بدرجة أساسية، إفراغ
هوية ومخزون ومضمون الثورة..حين عاد صنّاع الثورة الى الميادين، وجدوها خلواً
من الزخم الشعبي السابق، ومن الكاميرات، ومن الرادع الثوري أيضاً، فقد كانت
أيدي الأجهزة الأمنية مكفوفة بفعل الثورة نفسها، ولكن حين قرّر الثوّار إستعادة
منجزهم في مرحلة تراخي الزخم الشعبي واجهوا تدابير قمعية كالتي شهدوها في العهد
السابق..
كان يمكن للكتلة الشبابية، وهي غالبية الشعب في تونس ومصر وفي عموم البلدان
العربية، أن تشكّل نفسها في أحزاب، وأن تفرز قيادات منها، وتخوض معركة إنقاذ
الثورة منذ الأيام الأولى للثورة، ولكن لم يحصل ذلك، وأن التفكير فيه جاء
متأخراً، أي بعد أن قطفت الأحزاب التقليدية أو المصنّعة حديثاً وفقاً لمتطلبات
المرحلة الجديدة ثمار الثورة.
شباب الثورة لا يكتمون غيظهم إزاء من سرق منجزهم الثوري، سواء كان من مشتقات
الحزب الوطني السابق، أو من الاخوان المسلمين، أو من التيار السلفي أو
سواهم..وفي تصويب التجربة نزعم بأن تشتت إئتلاف شباب الثورة في مرحلة مبكّرة
خلق فرصة اختطاف مشروعه الثوري، فيما كانت المهمة الأولى المطلوبة فور تنحّي
الرئيس هو تشكيل مجلس قيادة الثورة من الشباب الذين صنعوا الثورة في تونس ومصر،
دون السماح لأي جهة كانت مدنية أو عسكرية تنتمي للنظام السابق بأن تحكم حتى وإن
في المرحلة الانتقالية، لأن ما يُرسَى فيها سيحكم، بلا مناص، مسيرة الدولة في
المرحلة المقبلة..
غياب التصوّر الفلسفي للثورة، هو الآخر نقص خطير في كل الثورات العربية
تقريباً، فمن غير الممكن أن تحدث حركة إحتجاجات شعبية تغييراً جذرياً في بنية
النظام السياسي والإجتماعي دون فلسفة ثورية ترسم الحدود الفاصلة بين ما
كان/القديم وما يجب أن يكون/الجديد، كما تصوغ بوضوح فضائل الإنتقال الى النظام
الجديد ورذائل القديم. إن فلسفة الثورة من شأنها توجيه الشعب نحو مبررات
الثورة، وأهدافها، وطبيعة الأخطار المحدقة بها، وإذا ما نجحت في اختراق
الإنتماءات التقليدية للشعب، فتكون متصالحة مع معتقداتهم، فإنها بذلك حقّقت في
ذاتها الشرط الجوهري لنجاح الثورة، المتوقّف، حكماً، على إمكانية تعبيرها عن
إتجاهات تفكير الناس وولاءاتهم، وفي الوقت نفسه توقعاتهم.
وأخيراً، أن إغفال دور العامل الخارجي (الإقليمي والدولي) في الثورات العربية،
أضعف مناعتها الذاتية والمكتسبة على السواء. ففي اللحظة التي تنحّى فيها الرئيس
في تونس ومصر، أصبحت الثورة في مواجهة خصوم من نوع آخر، وإن كانوا بأزياء
محلية، وربما جاءت الضربات الإستباقية في ليبيا واليمن وإلى حد ما سوريا لتجعل
من العامل الخارجي حاسماً وبصورة لافتة في الثورة..نبهّنا في اليوم التالي
لتنحي مبارك بأن دولاً إقليمية ستبعث حلفائها في تونس ومصر من أجل المشاغبة
والمشاركة وسيتحول بعضها الى (صرّاف آلي) متنقّل لشراء الولاءات وحرف مسار
الثورة (الجماعات السلفية في مصر المدعومة سعودياً تعكس جزءً من صورة التدخّل
الخارجي).
كان على شباب الثورات العربية إحتواء الأخطاء القاتلة في (ربيع العرب) منذ
الأيام الأولى، لأن انكشاف الجبهة الداخلية في لحظة التحوّل الثوري، والتسلل
المباغت لقوى مضادة للثورة مدعومة من الخارج، يفضي الى عقم الثورة، والحيلولة
دون وضعها حملاً في هيئة دولة ديمقراطية شعبية تكفل العدل والمساواة وفق مبدأ
المواطنة..
كل الثورات العربية تواجه أخطاراً جديّة تندّك في مصيرها، وأن الشباب الذين
قادوا الثورة معنيون أكثر من أي لحظة تاريخية أخرى بأن يخوضوا إمتحان استرداد
المنجز الثوري المختطف، فلا يجوز التفريط في نضال الشعوب، فضلاً عن تسليمه
لأعداء الثورة..
القدس العربي