برغم امتداد ربيع الثورات العربية الى موسم الصيف الحار جدا هذا العام، بدون
حسم واضح للامور، تطغى على الساحة السياسية افكار وأحاسيس متباينة تتراوح بين
اليأس من امكان التغيير المطلوب في ظل ما يبدو من هيمنة قوى الثورة المضادة،
والأمل بالتغلب على روح الهزيمة والتخلف والتقاعس، ومعها اساليب النفاق والتآمر
والتثبيط من كافة الاطراف المشاركة في اجهاض الثورة. فاذا كانت ضربات شعبي تونس
ومصر قد تركت تلك القوى تترنح وتفقد توازنها على مدى الشهرين الاولين بعد
استشهاد المواطن التونسي محمد بوعزيزي في 17 كانون الاول/ديسمبر الماضي، فان
تلك القوى سرعان ما استعادت توازنها وبدأت تشن ثورتها المضادة بأشرس الاساليب
وعلى أوسع نطاق، وبأقذر الوسائل.
وقد مضى الآن شهور ستة منذ انطلاق الثورة المضادة، وما يزال المشهد مضطربا ينذر
بالخطر على الثورات التي كانت تمثل لدى الجماهير العربية بارقة 'الامل الوحيدة
للخروج من عقود التخلف والاستبداد وتجاوز 'العصر الامريكي' الذي أضعف العالم
العربي الى أدنى المستويات. وخلال هذه الفترة بدا المشهد اكثر اضطرابا على
مستويات عديدة. انها اضطرابات فكرية وسياسية وحضارية تتواصل مشاهدها عبر
الاعلام بشكل ظاهر احيانا وخفي اغلب الاحيان. فالتغيير الذي تنشده الثورات
العربية لن يكون محصورا في نتائجه وتداعياته بمجالات الحكم. ففي نظر الغرب على
الاقل، انه لا ينفك عن ظاهرة 'الصحوة الاسلامية' التي تصاعدت بعد الثورة
الاسلامية في ايران قبل اكثر من ثلاثة عقود، وما تزال تضغط على العالم في
علاقاته السياسية ومواقفه الايديولوجية وآفاق تعايشه في ظل استمرار الحراك
السياسي في عالم المسلمين وما يمثله من تحد مباشر للنظام السياسي العالمي الذي
تتزعمه الولايات المتحدة خصوصا بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.
ان حدوث تغييرات جوهرية في انظمة الحكم العربية سيكون معاكسا في نتائجه لما حدث
قبل عشرين عاما في اوروبا الشرقية عندما تفكك الاتحاد السوفييتي، وتدخل الغرب
بقوة لدعم ثورات الشعوب التي كانت ترزح تحت وطأة الاتحاد السوفييتي. كان ذلك
التغيير ليس مقبولا فحسب، بل مطلوبا لاسباب ثقافية ودينية وايديولوجية. فلم
يتردد الغرب لحظة واحدة في دعم الثورات التي اطاحت بالانظمة الشيوعية الواحد
تلو الآخر، بل اعتبرت ذلك تطورا ضروريا لاعادة صياغة النظام الدولي بالغاء نظام
القطبين، وترسيخ أسس 'العالم الحر' في كل اوروبا..
أول مستويات الاضطراب يتمثل بالصراع 'بين قوى الثورة والثورة المضادة. فاذا كان
جيل الشباب الذي استيقظ على واقع يزداد مرارة وتخلفا واستبدادا وقمعا يمثل
الطرف الاول فقد تزعمت المملكة العربية السعودية الثورة المضادة وخصصت مليارات
الدولارات لضمان فشل كافة الثورات العربية، بدون استثناء. هذا الصراع محتدم على
نطاق واسع. وفي مؤتمر القاهرة الذي عقد قبل اسبوعين، اتضح وعي شباب الثورة
العرب عندما تحمسوا لما طرحته الدكتورة رباب المهدي، الاستاذة بجامعة القاهرة،
بان سقوط النظام السعودي يمثل الخطوة الاستراتيجية الاهم لضمان نجاح الثورات،
لقد أدرك شباب مصر بان السعودية التي سعت لمنع سقوط حسني مبارك ومارست ضغوطا
كبيرة على واشنطن لمنع ذلك السقوط، ما تزال تتآمر على الثورة وتحرك القوى
السياسية والدينية التي تسير في ركابها لاختلاق ظروف التوتر والاختلاف الداخلي
على ارضيات دينية (بين المسلمين والمسيحيين) ومذهبية (بين السلفيين والصوفيين
والشيعة)، وتضغط بشكل خاص على المجلس العسكري لتأجيل وتيرة الاصلاح والانتقال
الى الحكم المدني. وما يحدث في مصر يحدث في البلدان الاخرى من سعي متواصل
لاجهاض الثورات. فالسعودية تدخلت بقوة في اليمن لدعم نظام علي عبد الله صالح،
بحمايته من السقوط واضعاف وحدة الثوار بتحريك الخلافات المذهبية والمناطقية
والعشائرية بشكل متواصل. وبعد اصابة الرئيس اليمني في التفجير الذي استهدفه في
قصره، نقل الى الرياض للعلاج، وما يزال يطل بين الحين والآخر عبر وسائل الاعلام
السعودي لمنع حسم الثورة في صنعاء والمدن الاخرى.
ولا يخفي اليمنيون غضبهم ازاء هذا التدخل الذي ادى الى تواصل سقوط الشهداء وسفك
الدماء. اما تدخلها في ليبيا، عبر بوابة الجامعة العربية، فقد حول الثورة الى
حرب اهلية بمشاركة قوات حلف الناتو التي دمرت، مع قوات القذافي، البنية التحتية
للبلاد وحالت دون انتصار الخيار الشعبي بالاساليب السلمية.
وتدخلت السعودية بشكل عسكري مباشر لقمع ثورة شعب البحرين، وما تزال قواتها
تتحدى شباب الثورة في ذلك البلد الخليجي بالمشاركة اليومية في قمع الاحتجاجات
والتظاهرات وهدم المساجد واعتقال المواطنين وتعذيبهم. وكان هناك ما يشبه
الاجماع 'بين المشاركين في مؤتمر القاهرة على ان ربيع الثورة في العالم العربي
توقف في اليوم الذي اخترقت فيه القوات السعودية الحدود مع البحرين وقامت بقمع
دموي شرس لثورتها.
منذ ذلك اليوم اتضح مدى اصرار قوى الثورة المضادة على اجهاض الثورات، ومدى
تواطؤ الغربيين في ذلك، ومنذ ذلك اليوم تم الترويج لمقولات الصراع الطائفي
لمحاصرة الطروحات الوطنية المنفتحة، وافشال مشروع التغيير الهادف للقطيعة مع
الماضي القريب في ظل الاستبداد والديكتاتورية..
ثاني المشاهد المضطربة العلاقة بين شباب الثورة وقوى المعارضة التقليدية، وهي
علاقة شابها الكثير من التوتر بسبب الاختلاف العميق حول اساليب التغيير (بين
الثورة او التطور التدريجي) وسقفه (بين إسقاط الانظمة القائمة او اصلاحها)
وموقع الغرب في تلك العملية (بين الاعتماد على النفس بشكل كامل واعتبار الغرب
طرفا مباشرا كرس ظاهرة الاستبداد ودعمها، او السعي لاسترضائه او طمأنته او
المساومة معه او السعي لاقناعه باحداث اصلاحات محدودة). هذه الاختلافات ساهمت
في تأجيل حسم الخيار الثوري واحدثت اختلافات في السياسات والمواقف ازاء انظمة
الاستبداد والتحكم. ففيما يصر شباب الثورة على الاستمرار في العمل الجماهيري
لاسقاط الانظمة، تميل الاحزاب والقوى التقليدية لخيارات اخرى من بينها
الاستعداد للتعايش مع الانظمة القائمة وفق مقولة 'الاصلاح التدريجي' بديلا
للخيار الثوري.
وفي الوقت الذي تسعى قوى المعارضة للحفاظ على قدر من الوحدة في صفوفها فان
طبيعة الطرحين تؤدي الى صراع حتمي بين الجانبين، الامر الذي يؤثر على معنويات
الجماهير، ويضعف الحراك السياسي في الشارع، ويوفر للانظمة فرصا واسعة لالتقاط
الانفاس وطرح المبادرات الجوفاء بهدف كسب الوقت وتأجيل الحسم وشل إرادة التغيير
لدى الاجيال الشابة التي كسرت حواجز الخوف وتمردت على اليأس وأصرت على تحقيق
التغيير وفق رؤاها التي لم تتلوث بما تروجه الانظمة. فاذا كانت قوى المعارضة
'التقليدية قد استمرأت مسايرة الاستبداد، ووفرت له قدرا من الشرعية باظهار
معارضة هامشية لبرامجه ومشاريعه وسياساته، فان قوى الثورة الشابة تمتلك من
العزم والارادة ما جعلها قادرة على الاستمرار في الخيار الثوري ورفض المساومة
على الاهداف الرئيسية للقوى الشعبية والاصرار على تخليص البلدان من الانظمة
التسلطية التي فشلت في تطوير البلاد العربية وفرضت عليها حقبا سوداء طويلة.
حالة الاستقطاب هذه تفرض نفسها اليوم في البلدان التي ثارت شعوبها، وادت الى
تراجع في الاداء وضعف في الاخراج وشتات في الموقف، وضعف للموقف الوطني المعارض.
وسوف يتواصل هذا الصراع خصوصا مع استمرار انظمة القمع في انتهاك حقوق شعوبها
ورفض الاصلاح والاستمرار في اساليب القمع والاضطهاد. بل ان بعض هذه الانظمة ما
يزال يتصرف وكأن شيئا لم يكن، فيمارس الاعتقال التعسفي والسجن والتعذيب، ويصدر
الاحكام الجائرة بحق الثوار، كل ذلك تحت مرأى العالم الغربي ومسمعه.
اما ثالث مستويات الاضطراب فيشمل العالم الغربي، وما يعانيه من اضطراب في
السياسات والرؤى والاستراتيجيات. ويعمق من اضطراب الموقف الغربي اوضاعه
الاقتصادية السيئة التي تضغط عليه باتجاهات متضاربة.
هذا الاضطراب كان واضحا في خطاب مسؤوليه ومن بينهم وزير الخارجية البريطاني،
ويليام هيغ الذي توقع مستقبلا مضطربا للدول التي شهدت ثورات شعبية واسعة.
الغريب في الامر ان الزعماء الغربيين انفسهم يتحدثون عن 'الثورة المضادة'
ويطرحون رؤاهم وكأنهم بمعزل عما يجري، في الوقت الذي تؤكد فيه الادلة على
تورطهم فيها وعملهم الحثيث لحماية الانظمة التي تعتبرها 'صديقة للغرب'. تصريحات
الوزير البريطاني تهدف لاعطاء الانطباع بان الغرب يدعم الديمقراطية في الشرق
الاوسط، ولكن المشكلة ان هناك 'ضعفا اقتصاديا وثورات مضادة'.
فمن يقف وراء هذه الثورات؟ ولماذا يسمح الغرب لها بافشال التوجه نحو
الديمقراطية؟ الغرب يرفع شعار ترويج الديمقراطية ويتشدق بها ولكنه في احسن
تقدير، اكتفى بالتفرج، ان لم يكن المشاركة العملية في قمع الثورات. ويمكن القول
بان الغرب يرتكب خطأ استراتيجيا بهذه المواقف والسياسات، وسوف يدفع فواتير ذلك
ليس في المستقبل البعيد، فيما لو تواصل الوضع الحالي بجموده.
ولن يستطيع احد احتواء التطرف والعنف المتوقعين فيما لو ساد الاحباط صفوف الجيل
الشاب الذي شمر عن ذراعيه ونزل الميدان بهدف التغيير. لقد كانت فرصة ثمينة امام
الغرب لدعم التغيير واستبدال انظمة الحكم الاستبدادية في المنطقة، بانظمة حكم
عصرية تنبثق عن الشعوب وتستند 'الى نظم دستورية، بدلا من دعم انظمة حكم تأسست
على توارث الحكم والثروة والهيمنة. هذا النفاق الغربي الذي يتباكى على
الديمقراطية ولكنه يدعم اعداءها من الحكام، ويروج مقولات حقوق الانسان، 'يتغاضى
عما يحدث في غرف التعذيب من جرائم ضد الانسانية، ويتحدث عن حق تقرير المصير
'ولكنه يحرم الشعوب العربية، ومن بينها شعب فلسطين، من ذلك الحق. هذا الفشل
الذريع في الالتزام بقيم الديمقراطية وحقوق الانسان، ودعم انظمة الاستبداد
والقمع سيظل واحدا من اهم سمات الثورة المضادة التي بدأت ملامحها وشخوصها
والدول الداعمة لها تتضح تدريجيا.
الغرب يقف اليوم على الجانب الخطأ من التاريخ، ويرتكب بذلك خطيئة دونها كافة
خطاياه الاخرى، بينما تقف الشعوب مشمرة 'عن سواعد الجد وساعية لاصلاح اوطانها
بتغيير انظمة الحكم لديها التي اثبتت عدم قدرتها على تحمل اعباء التغيير
والاصلاح، وانها عاجزة عن استيعاب رسالة الشارع الثائر المدوي الموجهة مباشرة
لانظمة الاستبداد. فالثورات العربية ليست حدثا عابرا او هامشيا، بل انها تؤسس
لنقلة حضارية نوعية تفصل بين ماض قريب أسود حكمه الطغيان والاستبداد والظلم،
ومستقبل واعد تصنعه سواعد الشباب الثائر في هذه البلدان.
الغرب امام خيارين تاريخيين: فاما الوقوف بصدق (وهذا مستبعد) مع ارادة التغيير
الديمقراطي او الاستمرار في دعم قوى الثورة المضادة. وفي الوقت نفسه فانه مطالب
بالتخلي عن ازدواجية معاييره إزاء ثورات المنطقة، والتعامل معها بايجابية وتجرد
للاسراع في احداث التغييرات المنشودة. يتطلب هذا الموقف استعدادا 'نفسيا
وسياسيا لم يتوفر بعد لدى دول الغرب الكبرى. الامر المؤكد ان الاضطرابات على
المستويات المذكورة لن تثني شباب الثورة عن مسيرة التغيير، وان هذا الاضطراب
سوف ينقشع مع استمرار ارادة التغيير لدى جيل الشباب الثائر. وما عودة شباب مصر
الى الشارع مجددا الا تجديد لارادة التغيير وهو امر مقلق لقوى الثورة المضادة.
ان العالم على موعد مع عهد ديمقراطي عصري يسود كافة بلدان العالمين العربي
والاسلامي، فليستفد 'المعنيون بهذه القضايا من الزخم الذي وفرته الثورة العربية
العارمة، وليتشبثوا بشعار التغيير كخطوة على طريق الاصلاح ابتداء بقلع جذور
الفساد والافساد، وصولا الى 'بناء الدولة الحديثة ذات الاستقلال الكامل
والمتحررة من قبضة الاستبداد والتبعية والقمع.