مركز القدس للدراسات السياسية
ظهور الحركات السلفية في ميدان التحرير أثار فزع قطاعات واسعة من المصريين،
في الصدارة منهم بالطبع، المسيحيين الأقباط والتيارات السياسية اليسارية
والليبرالية والقومية، فضلا عن حركات نسائية ومنظمات المجتمع المدني والنخب
الحديثة.
وزاد الطين بلّة، أن هؤلاء الذين نزلوا بكثافة على الميدان، رفعوا شعارات تذهب
في الاتجاه المغاير لكل ما توافق عليه المصريون خلال الأشهر الست الفائتة، بمن
فيهم الإخوان المسلمين، الذين تحدثوا عن دولة مدنية ديمقراطية، وشددوا على
"المواطنة المتساوية" كأساس للحقوق الواجبات...السلفيون رددوا شعارات تطالب
بأسلمة الدولة والمجتمع، وتطبيق الشريعة.
سلفيو ميدان التحرير، في طبعتهم "الوهابية" الأكثر تشدداً، تجاوزا كل الأعراف
التي كرّسها هذا الميدان، حيث لم نر فيه سوي علم جمهورية مصر العربية، أما
هؤلاء فقد أصروا على ما تقول وكالات الأنباء والناطقون باسم شباب الميدان
وأحزابه، أصروا على رفع علم المملكة العربية السعودية، في إشارة لتحديد لونهم
السياسي وهويتهم العقائدية.
مصادر السلفيين، لم تعد تخفي أجندتها، معظمهم على الأقل، هم يتحدثون عن خمسة
ملايين سلفي، سيكون لهم القول الفصل في الانتخابات المقبلة...هم سيستبسلون في
الدفاع عن المادة الثانية من الدستور التي تتحدث عن "دين الدولة"...هم سينافحون
عن "حاكمية الشرع والشرعية" مهما جاءت ردات فعل الآخرين.
المصادر المصرية القلقة من نمو هذا التيار، بدأت تتحدث عن تشكيل جبهة وطنية
متحدة في مواجهته...جبهة تتكون من أحزاب وكتاب وشخصيات وطنية وإسلاميين
متنورين، بمن فيهم الإخوان المسلمين، هدفها الدفاع عن "برنامج الثورة" ومنع
الوهابية من اختطاف "راية الثورة" وتجييرها...الدفاع عن إرث مصر وموروثها، فمثل
هذه الحركات والأفكار والمدارس، غريبة عن تراث مصر وتقاليدها وتاريخها، وهي
وفدت إلى البلاد مع ملايين المصريين العائدين من العمل في دول الخليج، وألوف
الدارسين والدعاة والوعاظ الذين يؤمونها في سياقات الدعوة والتبليغ.
المصادر ذاتها، تتحدث عن "سيل متدفق" من المال والبترودولار، الذي يصب في جيوب
هؤلاء تحت شتى الأسماء والمسميّات والعناوين...أموال من المفترض أن تصب في صالح
صناديق الإغاثة والإعالة والمساعدة، فإذا بها تجيير لصالح صناديق الاقتراع
بدلاً من ذلك، وهذا أمر ستكون له نتائجه الملموسة في تقرير مستقبل أول انتخابات
تجري بعد انهيار نظام مبارك، عندما سنشهد على "زواج المتعة" بين "فقه البداوة"
والبترودولار.
السلفيون في طبعتهم الوهابية الأكثر تشددا، هم رأس حربة "الثورة المضادة" في
مصر...هؤلاء استخدمتهم الأجهزة الأمنية في النظام السابق، لموازنة النفوذ
المتزايد للتيار الإخواني، وللتحريض ضد إيران وحلفائها، خصوصا حماس وحزب
الله...ثم استقدمتهم الأجهزة لمواجهة نذر التغيير، وها هي فلول النظام المنحل،
تأتلف مع هؤلاء لقطع الطريق على الثورة والحيلولة بينها وبين تحقيق مراميها
وأهدافها.
ما يفعله هؤلاء في بر مصر وصعيدها ودواخلها، هو حلقة في سلسلة الثورة المضادة،
التي تستهدف إجهاض ربيع العرب، وتحويله إلى خريف قائظ جاف وشيك، يستبدل اليابس
بالأخضر...هؤلاء هم من يسحل الجنود السوريين في الشوارع ويلقي بجثثهم في نهر
العاصي...هؤلاء هم من يعيثون فساداً ضد إنجازات تونس المدنية طوال سنوات
التحديث...هؤلاء هم الرديف الاحتياطي في مواجهة إيران وحلفائها من جهة، وفي
التصدي لربيع العرب من جهة ثانية...هؤلاء الذين خاضوا الحروب والمعارك في كل
مكان، لم يكرم الله وجوهم بإطلاق رصاصة واحدة ضد إسرائيل ؟!.
لكن تجارب التاريخ، قديمها وحديثها، تظهر أن سحر هؤلاء سرعان ما ينقلب على
الساحر، وأنهم يعضون اليد التي امتدت إليهم أولاً...وأن أولى رصاصاتهم غالباً
ما تستقر في صدر من احتضنهم...أوليست هذه أولى دروس تجربة "العائدون من
أفغانستان"...أوليست هذه خبرة السادات في تعامله مع هذا التيار...أوليست هذه
خبرة لبنان (بعض لبنان بالأحرى) مع فتح الإسلام؟...أوليست هذه خبرة النظام
السوري مع الذي يتصدون له بالرصاص هذه الأيام، بعد أن ظنّ أنه وحده القادر على
توظيفهم وتوجيههم واستخدامهم خدمة لأغراض سياساته وحسابات استراتيجيته.
لنتحد خلف الجبهة المتحدة التي يتنادى مصريون إصلاحيون شرفاء لبنائها وتفعيلها
دفاعاً عن حاضر مصر ومستقبلها ووحدة أهلها وترابها...فهؤلاء ما حلّوا أرضا، إلا
وغرسوا فيها بذور الانقسام المذهبي والتفتيت الطائفي والحرب الأهلية، فالحذر
الحذر.