من ناحية التوقيت، لا يمكن الحكم بـ"براءة" المحكمة الدولية الخاصة
بلبنان....فصدور القرار الاتهامي بعيد إسقاط حكومة الحريري/جعجع/ الجميل، وقبل
عرض الحكومة اللبنانية الجديدة (حزب الله، ميشيل عون ونبيه بري) على البرلمان
لنيل الثقة بثلاثة أيام فقط، أمر لا يمكن أن يُدرج في عداد المصادفات، حتى وإن
أقسم طاقم الحكومة "أغلظ الأيمان" بأنه يعملون باستقلالية ونزاهة و"من دون
تسييس".
ومن ناحية المضمون، لا يمكن لمراقب حصيف، إلا أن يطعن في صدقية القرار والجهة
التي أصدرته، خصوصاً بعد أن يتأكد له، أن مضمون هذا القرار، قد سبق لصحيفة "دير
شبيغل" والتلفزيون الكندي والإعلام الإسرائيلي و"الفيغارو" الفرنسية،
نشره في أوقات متفاوتة، يعود بعضها لعامين خليا..فأي سرية وأية استقلالية وأية
نزاهة تلك التي تمكن إسرائيل من معرفة نتائج تحقيق قبل أكثر من عام على صدورها
؟!.
أما من ناحية النوايا، فلا يمكن النظر إلى تسريب "الأسماء الأربعة" المحسوبة
على حزب الله، والتي سبق لبعضها أن ورد ذكره في "التسريبات السابقة"، إلا بوصفه
فصلاً من فصول "الفتنة" التي يجري الإعداد لـ"إيقاظها"...والتي لم تبق وسيلة
لتحريكها إلا واستخدمت، ولم تبق أداة من أدوات "الحشد والتجييش" الطائفي
والمذهبي، إلا وجرى اللجوء إليها لتحقيق هذا الغرض.
لم تترك لنا المحكمة الخاصة، سبباً واحداً يدعونا للثقة بها وبقراراتها
ومداولاتها...من ديتلف ميليس الذي ينظر إليه حتى أبناء جلدته، بوصفه "وصمة عار"
على جبين القضاء الدولي....مروراً بالاستقالات الاحتجاجية لعناصر أساسية،
قضائية وإدارية في جهاز المحكمة...عطفاً على "فضيحة التسريبات" التي تتنافى
كلياً مع سرية التحقيقات، خصوصا حين تصدر عن جهات معادية "حتى النخاع" للجهة
"المتهمة"...وانتهاء بالتعديل والتبديل اللذان طرأا على لائحة الاتهام
والمتهمين مرات ومرات للتكيف مع "استهدافات" بعض الاستراتيجيات الدولية...فضلاً
عن إبقاء أبواب القضاء مفتوحة لسنوات قادمة، لتكييفه وإعادة تكييفه مع مقتضيات
اللحظة السياسية واحتياجات الاستراتيجيات الشرق أوسيطة لبعض عواصم القرار
الدولي...كل ذلك لم يبق لدينا "ذرة ثقة واحدة" بعدالة هذا القضاء ونزاهة ذاك
التحقيق.
والحقيقة أن الذين هتفوا لصدور القرار الاتهامي، واعتبروه لحظة تجسيد "العدالة
من أجل لبنان"...أو "لحظة العبور إلى الدولة"...ليسوا مسكونين بهاجس "العدالة"،
كما أن "الحقيقة" ليست ضالتهم، لم تكن كذلك من قبل، وهي ليست كذلك اليوم،
ولطالما دخلوا في صفقات وتسويات، عرضوا خلالها "حجب الحقيقة" و"تعليق
العدالة"...هؤلاء في غالبيتهم العظمى، هم أمراء حرب وطوائف وقبائل محتربة،
تُعدُّ "الدولة" آخر البنود المدرجة على سُلّم أولوياتهم...إنهم ينتظرون لحظة
القصاص و"تصفية الحساب" مع أخصامهم السياسيين، محلياً وإقليمياً...إنهم يتدثرون
بـ"العدالة"، والعدالة آخر هموهم واهتماتهم.
هؤلاء أنفسهم، هم الذين ضللوا التحقيق و"فبركوا" شهود الزور...وتغاضوا عن
"الاختراق الإسرائيلي" لشبكات الاتصالات...هؤلاء هم وقود "التدخل الأجني"
و"جسوره" المتقدمة...هؤلاء هم أنفسهم الذين يستعجلون تقسيم سوريا واستباحتها
على الطريقة العراقية...هؤلاء هم الذين يرقصون في جنائز الأقطار العربية الواحد
تلو الآخر...هؤلاء هم الذين لا يرون العالم إلا من "خرم إبرة" أضيق مصالح
الطوائف و"الإمارات" و"المليشيات"....هؤلاء هم الذين تطوعوا بعرض أنفسهم كذراع
متقدمة "للثورة المضادة" التي تنطلق من "العواصم إياها"، التي يدين لها هؤلاء
بالولاء والطاعة والتبعية.
لسنا من المتطيريين الذين يعقتدون أن عالم ما بعد صدور القرار لا يشبه عالم ما
قبل صدوره...ولا أحسب أن "حرباً أهلية" ستندلع لمجرد صدور القرار الظني...ولا
أظن أن الجيش أو الأجهزة الأمنية، ستجرد حملات البحث عن "المطلوبين"
واعتقالهم...ولا أرى أن القرار قد أحدث "فرقاً" لجهة توازنات القوى واصطفافاتها
في لبنان...ولكنه بلا شك، سيكون محاولة لإبقاء التوتر المذهبي والطائفي، ووسيلة
لحشد العصب المذهبي وشدّه...وأداة في الحرب على "سلاح حزب الله" و"مكانته"
و"رمزيته" التي بلغت حداً عظيماً في أعقاب حرب تموز...لا شك أن القرار /
المحاولة، سيضاف إلى عشرات المحاولات التي بذلت وتبذل، لنزع "شرعية" المقاومة
وتبديد ما أحاط بها من "هالة قداسة"، توطئة لـ"شيطنتها" و"تعهيرها" إن أمكن.
ولسنا نبالغ إن قلنا، إن الحلقة القادمة في مسلسل "القرارات الاتهامية"، سيطال
سوريا، وعائلة الرئيس الأسد شخصياً، إن هو أحجم عن القيام بما هو مطلوب
منه...وسيكون قرار من هذا النوع، إلى جانب قرار تحويل ملف سوريا النووي إلى
مجلس الأمني الدولي، فضلا عن قرارات تصدر عن مجلس الأمن تندد بالإجرام الرسمي
بحق الانتفاضة، ستكون كل هذه القرارات بمثابة أدوات وأوراق ستسخدم في "حرب
التطويق والعزل والحصار" التي يراد لها تحقيق هدف قديم متجدد لعدد من العواصم
العربية والدولية: عزل إيران، وفك عرى التحالف السوري – الإيراني، وتجفيف منابع
الدعم والإسناد للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية...لقد جرّبوا ذلك مراراً
وتكراراً، وفي ظني أنهم يلعبون بأقوى، وربما آخر أوراقهم على هذا الصعيد، فهل
سينجحون هذه المرة، حيث فشلوا في المرات السابقة؟.
أسئلة وتساؤلات برسم تطورات الوضع في سوريا ومصائر الانتفاضة وسلوك النظام
وقدرته على فهم ما يجري من حوله من تفاعلات وتطورات.