gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
أيتها الشعوب الثائرة: حذار من ازدواجية المعايير
د.سعيد الشهابي

2011-06-28
 
  
بين اليأس والأمل، وبين النصر والهزيمة، وبين الاستقلال والتبعية، تتأرجح حظوظ الثورات العربية بعد ستة شهور من انطلاق شرارتها في تونس.
تداخل عوامل الداخل بالخارج، المبدئية بالانتهازية، وشمولية المبدأ بانتقائية المواقف، كل ذلك من القضايا التي ترتبط بشكل او آخر بما يجري على الساحات العربية اليوم. حتى نهاية العام الماضي كان امرا مستصعبا الاعتقاد بامكان اندلاع ثورات عربية بالنمط والسعة الجغرافية والشعبية التي حدثت، خصوصا مع استمرار هيمنة انظمة الاستبداد والديكتاتورية في العالم العربي. فاذا كانت الحرب العراقية الايرانية قد حالت دون تمدد الروح الثورية التي صاحبت انتصار الثورة الاسلامية في ايران في 1979، الى العالم العربي، فان استدعاء القوات الاجنبية في 1990 بذريعة 'تحرير الكويت' كان جدارا منيعا كرس الانطباع بعدم امكان احداث التغيير على ايدي الشعوب، واصبح اللاشعور العربي يؤمن بمقولة انور السادات بان 'امريكا تملك 99 بالمائة من الاوراق' في الشرق الاوسط سواء في ملف ازمة الصراع مع 'اسرائيل' ام التغييرات الداخلية. وما تزال الذاكرة تختزن قصة الانقضاض على التجربة الديمقراطية الوحيدة التي حدثت بعد ذلك التدخل، عندما تم وأد الانتخابات الجزائرية في 1992. وكان ثمن ذلك اكثر من 150 الف قتيل في ذلك البلد. كان التغيير الداخلي مستحيلا الا بموافقة الولايات المتحدة. ويمكن القول ان العقدين اللذين اعقبا استدعاء القوات الاجنبية كانا من أكثر العقود تخديرا للجماهير العربية. وحتى عندما حدثت انتفاضات هنا او هناك كان القمع الوحشي لها مدعوما سياسيا من قبل الوجود السياسي والعسكري الغربي في المنطقة. فكانت هناك 'انتفاضة الخبز' في 1984 بتونس، ومثلها في المغرب في العام نفسه، ثم في مصر في 1986 والاردن في 1989، وقد قمعت جميعا تحت الاشراف الامريكي. ثم حدثت الانتفاضة الشعبية في البحرين في النصف الثاني من التسعينات وقمعت بوحشية. ومع صعود اسعار النفط في مطلع القرن الجديد، اصبح للمال النفطي دور في تشكيل خريطة الهيمنة على المنطقة. وكان ثمة اعتقاد بان حوادث 11 سبتمبر الارهابية سوف تؤدي الى حالة استقطاب لصالح مشاريع الانفتاح والحرية والديمقراطية، ولكن القبضة الحديدية الانكلو- امريكية التي اشتدت بعد ازمة الكويت ساهمت في قمع تطلعات الشعوب العربية. لقد تكرست ظاهرة 'الأمركة' بشكل غير مسبوق، خصوصا بعد ما جرى في العراق.
وهنا يفتح ملف التدخل الامريكي لاسقاط نظام صدام حسين الذي يمكن اعتبارها الاكثر إثارة للجدل والاختلاف والانقسام. صدام حسين لم يكن الحاكم المقبول من شعبه (بسبب سياساته القمعية) او من جيرانه (بسبب مغامراته في ايران والكويت) او من الولايات المتحدة (بسبب ما تعتبره واشنطن تمردا على ارادتها خصوصا بعد اجتياح الكويت). مع ذلك فان اسقاطه بالطريقة التي حدثت ما تزال تثير الاختلاف عندما يتم التطرق لها بالمناقشة او التحليل او التقييم. لكن المشكلة لا تقف هنا. بل انها تتجدد الآن في ظروف الثورات العربية خصوصا في ضوء ما يجري في ليبيا (وما قد يحدث في سورية). الثورات العربية تمر اليوم بمنعطف حاد، يفصل بين النصر والاجهاض. ولا تبدو اي من الثورات بمنأى عن ذلك المخاض العسير. فحتى مصر التي تحاكم ديكتاتورها بشتى التهم، تواجه ذلك المخاض. ففي ندوة أقامتها القوات المسلحة تحت عنوان 'خمسة عشر قرنا.. محبة وإخاء' يوم الخميس الماضي قال عضو المجلس الأعلى العسكري اللواء أركان حرب سامي دياب، أن من الأسلحة التي يواجهها الوطن من أعدائه 'تأييد المتطرفين تارة بالسلاح وتارة باحتضانهم، وأخرى بمدهم بالسلاح والعتاد، ورابعة بإبادتهم، وخامسة بإفشاء الفساد ونشر شتى وسائل الانحطاط خاصة بين الشباب بشتى الطرق تحت اسم الحرية والعولمة، وأن كل هذا بالتزامن مع تدمير كل ما هو حضاري من اللغة والفنون وغيرها المنتسبة للحضارة الإسلامية'. وتعاني تونس من محاولات اجهاض الثورة بالابقاء على النظام السابق كاملا ولكن بدون رئيسه، وهذا ما اكده الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة في ندوة في العاصمة البريطانية بمناسبة مرور ثلاثين عاما على تأسيس الحركة. الامريكيون أشاعوا ان اسقاط صدام حسين سوف يعقبه اقامة تجربة ديمقراطية رائدة في المنطقة. ولكن سرعان ما تمت اعادة صياغة مشروع التغيير بشكل قلل كثيرا من وهج 'التجربة الديمقراطية'، بدخول البلاد في دوامة من الصراع الطائفي الدموي لم تقل وحشية عما جرى في الجزائر. وهكذا فما ان تلوح في الافق بارقة امل بفجر واعد من الحرية حتى يلبد بالغيوم والاعاصير التي تحيل النهار الى ليل دامس.
لقد ساد اللغط على أشده ازاء تجربة العراق. وكان هنك شبه اجماع على رفض التدخل الامريكي بالقوة لاسقاط النظام. ولا بد من العودة الى الوراء قليلا لاسترجاع موقف النخب العربية والشعوب ايضا عندما رفضت جميعا استدعاء القوات الاجنبية تحت ذريعة 'تحرير الكويت'. يومها وضعت الفتوى الدينية في خدمة السياسة، فقد عقد في مكة في 1990 مؤتمر دعي 413 شخصية من علماء المسلمين والمحسوبين على قيادات الصحوة والرموز الدينية من كافة دول العالم الإسلامي الثماني والخمسين . وحضر منهم 398 شخصية أصدروا بيانا ختاميا شرع للوجود الأمريكي والتعاون معه ضد العراق بصفتها 'استعانة شرعية'. لكن تلك الفتوى قوبلت برفض الجماهير العربية ضد ذلك التدخل. هذا الموقف الشعبي يشبه موقف التدخل الامريكي في العراق في 2003، وهو تدخل جاء بقرار غربي وبدون طلب من شعب العراق، وان كانت فئات محدودة قد شجعت ذلك التدخل. هذان الموقفان عكسا رد الفعل الطبيعي من الامة التي تشبثت بقيمة الحرية حتى في احلك ظروفها، ورفضت الاستعانة بالاجنبي خصوصا في ازماتها الداخلية. وقد يناقش البعض في مدى واقعية هذا الموقف وعقلانيته وحكمته، ولكنه، أيا كان الامر، يؤكد فطرية الامة في مواقفها اذا لم تخضع للتأثيرات الخارجية او توجيه الطبقات العلمية والسياسية العليا. ان المبدأ الذي التزمته جماهير العرب والمسلمين في 1990 و 2003 يطرح للنقاش اليوم، حول الجهة نفسها التي كانت موضع النقاش آنذاك. فالتدخل الغربي في ليبيا لا يختلف كثيرا عن تدخله في الكويت او العراق، وكما كان سببا للجدل والاختلاف آنذاك، فانه اصبح مثارا للاختلاف اليوم. فنظام معمر القذافي استبدادي دموي، ثار الشعب بهدف اسقاطه، فتعرض للقصف والتدمير، وهو وضع لا يختلف كثيرا عما جرى في العراق بعد حرب 1991 عندما حدث ما يسمى 'الانتفاضة الشعبانية' ضد نظام صدام حسين، فسمحت الولايات المتحدة له باستعمال الطائرات لاجهاضها. اليوم يتكرر السيناريو نفسه، فتنقض قوات القذافي على الثوار في كافة المناطق بالقصف والقتل الجماعي. وهنا تصدر استغاثات هؤلاء الثوار للغرب بطلب التدخل العسكري. الغربيون تدخلوا في بداية الامر بالقصف الجوي لقوات القذافي، حتى وصل الامر الى حالة الجمود الميداني، بين طرفين متحاربين، النظام والثوار الذين تحولوا الى مقاتلين. الجدل يحتدم الآن حول مدى شرعية الاستعانة بالتدخل الخارجي على غرار ما جرى في الكويت والعراق مع الاخذ بعين الاعتبار تشابه الاوضاع الى حد كبير. انه تحد فكري ونفسي وايديولوجي وسياسي ومبدئي للجميع. والخشية هنا حدوث انفصام في الشخصية وتباين في المواقف وازدواجية في المعايير خصوصا في طبقات العلماء والقادة السياسيين وزعماء الاحزاب الاسلامية وغير الاسلامية والنخب المثقفة والاعلام والرأي العام الشعبي.
ان الرفض المطلق للتدخل الغربي بقيادة امريكا في الكويت والعراق يفرض نفسه كمبدأ وموقف على الوضع الليبي. فاذا كان ذلك التدخل مرفوضا، فما الذي يجعل تدخل واشنطن هذه المرة مقبولا؟ خصوصا ان الفرق بين نظامي بغداد وطرابلس ضئيل جدا، وقد يدعي العراقيون ان نظامهم أكثر قسوة من نظام القذافي، مع ان القسوة ليست وحدها المعيار لتحديد الموقف ازاء التدخل العسكري. فاذا كان استدعاء القوات الاجنبية إبان أزمة الكويت مرفوضا، فان استدعاءها الان يجب ان يكون مرفوضا كذلك. واذا كان تدخلها في العراق قبل ثمانية اعوام غير مشروع، وهو تدخل كان بقرارها وليس وفق استدعاء من الشعب العراقي، فما الذي يجعله مشروعا هذه المرة؟ الامر المؤكد ان نظام القذافي يجب ان يسقط بعد ما اقترفه من جرائم بحق الشعب على مدى اكثر من اربعين عاما، وهذا امر ليس موضع خلاف بين الغالبية العاقلة من العرب والمسلمين. انما الاختلاف يكمن في مدى شرعية الاستعانة بالاجنبي للتدخل الذي لا يمكن ان يكون بدون ثمن. لقد كان صدام حسين اكثر مواجهة للغرب، واتهم بامتلاك اسلحة دمار شامل (مع ان ذلك لم يثبت حتى بعد اسقاط النظام والبحث الشاق عن تلك الاسلحة المزعومة)، بينما تتميز علاقات القذافي بالغرب وخصوصا امريكا بقدر من التصالح، فقد دفع تعويضات هائلة تجاوزت ثلاثة مليارات دولار لتسوية قضية تفجير طائرة (بان آم) الامريكية فوق لوكربي البريطانية، وسلم مشروعه النووي كاملا لواشنطن، حيث بعث اجهزته كاملة في شاحنات اليها، ولم يعد هناك من مشاكل كبيرة بين الطرفين. فما الذي يدفع التحالف الانكلو - امريكي للتدخل بهذا الشكل؟ ومن الذي يستطيع فرض شروط على ذلك التدخل؟ وهل يعقل ان يتدخلوا بدون مقابل وهم الذين ما برحوا يقتلون الابرياء بالصواريخ والطائرات بدون طيار في باكستان وافغانستان واليمن والصومال؟ اما من يقول بان تدخلهم يأتي بهدف انجاح الثورة او الدفاع عنها فهو ساذج لان منطق الثورة لا يدخل قاموس السياسة الغربية. هذا مع الاعتراف والتسليم بان خيارات الشعب الليبي في مواجهة ديكتاتوره محدودة، وانه يواجه خطر التعرض للمزيد من القصف والتدمير.
لا بد من الاعتراف هنا بان الكتابة حول موضوع التدخل الانكلو - امريكي في لبيبا من اعقد الامور واشدها ضغطا على النفس والمشاعر، خصوصا مع مشاهدة الاطفال والنساء المحاصرين من قبل قوات القذافي. فالمفترض ان قيم الحرية ثابتة لا تخضع للمقاييس والمصالح، وان المبادىء ثابتة ومنفصلة عن المصالح وقد تتضارب معها احيانا. مع ذلك فما ان يكتب مفكر حر رأيا لا يوافق قوى الثورة المضادة حتى تنبري له الاقلام المأجورة بالدولار النفطي من كل حدب وصوب لتسفيه رأيه وكيل الاتهامات واللعنات والنعوت اللاذعة له. ويندر ان يواجه الرأي بالرأي والدليل بالدليل، بل استبدل الحوار العلمي بالبلطجة الاخلاقية والفكرية، واستبدل الفكر والحكمة والمنطق والمبدأ بالسباب والشتائم، فلم يعد هناك ما هو مقدس، على المستويين المادي والمعنوي. فاذا كانت ارواح شباب الامة قد رخصت على هؤلاء الحكام الظالمين ومن يدعمهم في واشنطن ولندن، فلربما اصبحت القيم والاخلاق والانتماء لدين الاسلام وقيم القرآن أرخص وأشد تعرضا للهتك والاستخفاف والازدراء. واذا كانت بلطجية حسني مبارك قد استهدفوا الثوار في ارواحهم، فان بلطجة ما بعد ثورة مصر توسعت وأضيفت اليها ابعاد فكرية تهدف لاستئصال قيم الامة التي يفترض انها تعمقت على الاقل في نفوس رواد المشروع الاسلامي المعاصر. فمن يجرؤ اليوم على استعمال مفردات من نوع 'الأسلمة' او 'الشريعة' او 'الجهاد' أو 'الاسلام هو الحل'؟ ففي غضون اقل من عشرة اعوام تحولت هذه المصطلحات الى محرَمات لغوية وسياسية، وهيمنت على الثقافة الشعبية العامة نزعات تسعى لاقناع الغرب بان العرب والمسلمين قد 'تحرروا' من كل ذلك. لم يحدث ذلك عفويا بل كان ضمن مشروع 'التطهير الفكري' الذي تظاهر بانه تراجع عن ربط الارهاب بالاسلام. فبعد حوادث 11 سبتمبر، سعى الاسلاميون جميعا في لحظة غضب شاملة للاحتجاج ضد ربط الاسلام بالارهاب. ونظرا لاحتياج واشنطن وحلفائها لمواقفهم في ما سمي 'الحرب ضد الارهاب' استبدلت صفة الاسلام بـ 'الجهاد'، واشيع مصطلح 'الجهاديون' لوصف الارهابيين. وبذلك تم الحفاظ على مصطلح الاسلام بعدم ربطه مباشرة بالارهاب (في بعض الاحيان وليس كلها، وفقا لمقتضى المصلحة الغربية) بعد افراغه من واحد من اهم مرتكزاته 'الجهاد'، حتى اصبح الجهاد قيمة مرفوضة في الثقافة السياسية للحركات الاسلامية، خشية اثارة حفيظة الغربيين، اصبح مرادفا للارهاب. ان ثورة ليبيا، وكذلك بقية ثورات العالم العربي، تتحول تدريجيا من علاج لجراح طالما نزفت بسبب قمع الجلادين والمستبدين، الى جروح تتجدد يوميا مع امعان قوى الثورة المضادة بهدف الاجهاض على ما بقي من اصوات حرة تصر على استعادة الحرية والكرامة بأي ثمن. فما صراخ النساء والاطفال في غرف التعذيب حتى هذه اللحظة الا مؤشر لصعوبة مهمة التحرر من الاستبداد. ما تأجيل الحسم في اليمن عبر التدخل السعودي المباشر بدعم علي عبد الله صالح الا خطوات تهدف للقضاء على معنويات الثوار الذين قدموا من التضحيات الكثير. وما الاحكام القاسية بسجن قادة الثورة في البحرين الا واحد من الجروح الناجمة عن تدخل قوى الثورة المضادة لاجهاض حركات الشعوب. ان قوى الثورة المضادة تساوم الشعوب الثائرة بين تسليم الامر كله لها، بما في ذلك انظمة الحكم الجديدة واتجاهاتها وولاءاتها، او تجرع غصص الموت بالصواريخ والدبابات وبالرصاص الحي في الشوارع او الموت بمباضع الجلادين في غرف التعذيب. برغم ذلك فان ذلك ليست نهاية المطاف للشعوب الثائرة، فان صمدت فترة اطول وتمسكت بقيم الاستقلال والحرية، وحافظت على نقاء ثوراتها، فسيكون النصر حليفها، لان الشعوب لا تقهر، بشرط ان لا تستسلم قياداتها او تساوم على القيم والمبادىء الاساسية للثورة، او تمارس ازدواجية المعايير او تضعف امام القمع والابتلاء.

عن القدس العربي

copy_r