gulfissueslogo
د.علي الهيل
الجامعة والبعث والمجلس الخليجي.. وفرضية القاسم الأعظم المشترك بينها.. الإيباك ولوبياتها
أ. د. علي الهيل

لما كان 'العصر' كقيمة زمنية سيكولوجية لا يقاسُ بالضرورة حسابيا بقدر ما يمكن أن يقاس استثنائياً بأحداثه العظام فإن الشعوب العربية التي تمردت بصورة غير مسبوقة على سلطة الزمان وسلطة المكان بعد عقود من التسلط القمعي (منذ أن أرخ لها تونسيا محمد البوعزيزي، بإشعال جسده احتجاجا على تهميشه وحرمانه من فرصة عمل تحفظ له كرامته وآدميته وإنسانيته، وهو الحامل لشهادة جامعية، وصرخة ضد مصادري حقه وأحلامه من قِبَل رأس مؤسسة الجوقة وأزلامه، ومن عقله الفردي الذي فجر فعله الفردي الخلاق أشرقت على الأمة بأسرها شمس العقل الجمعي، الذي فجر بدوره الفعل الجماعي في الشوارع العربية بالشعارات والهتافات والمطالب ذاتها وعلى رأسها 'الشعب يريد إسقاط النظام'). أدخلت الشعوب العربية بثوراتها الشعبية (التي قامت ونجحت والتي تقاوم لتنجح والتي على وشك أن تقوم) الوطن العربي عن بكرة أبيه إلى عصر جديد.
إنه أهم نتاجات العقل الجمعي وفيه كسر المواطن العربي حاجز الخوف لأول مرة منذ هزيمة الاستعمار الأجنبي شعبيا على يد الشعوب العربية وإحلاله بمؤسسات حكم استبدادية مهيمنة تابعة له ونابعة منه تصدر منه وترفد عنه. إنهم الجبناء في التنظير الثوري الفرنسي الذي يقول إن الثورة ضد المستعمر 'يخطط لها المثقفون ويقوم بها المغامرون ويستولي عليها الجبناء' فلا قرت أعين الجبناء. فبعد عقود وبدءاً من نهايات 2011 فعلا لم تقر أعين الجبناء بسقوط بعض أعتى ديكتاتوريات القرن في الوطن العربي، وسقوط ما تبقى منها بات مسألة وقت. لقد كدنا نصدق في عصر ما قبل البوعزيزي أن الشعوب العربية عربية بالاسم وببروتوكول جامعة الدول العربية فقط ، وأن 'بلاد العرب أوطاني' دعاية عاطفية رخيصة، أما ما عدا ذلك فلا شيء يربط بين الشعوب العربية وهذا ما أراده ويريده وكلاء (الإيباك) وعملاؤهم من صهاينة الداخل، غير أن انفجار العقل الشعبي والتوحد العفوي للشعارات والهتافات والمطالب جعلنا نصدق العكس تماما، وهو أن الشعوب العربية جذورها وأصولها وهمومها واحدة، وأن مقولات الثورات الشعبية مثل 'لأننا هرمنا...هرمنا..' أو '... بن علي هرب..' أو 'مفيش خوف تاني' وغيرها الكثير، أخذت وما تفتأُ أصداؤها تتردد في كل بيت عربي وحتى 'زنقة..زنقة..' يستخدمها العرب صغارا وكبارا في كل مكان للتندر والفكاهة واستهزاءً بالقذافي، وأصبح المواطن العربي يستمتع بتفوه عبارة 'الوطن العربي' ملء فيه وعقله وقلبه. ولهذه الأسباب وغيرها بدأنا نعي الآن أكثر من أي وقت مضى لماذا أصرت بريطانيا بإملاءات من اللوبي الصهيوني اليهودي (كانت إسرائيل لم تقُم بعد) عام خمسة وأربعين وتسعمئة وألف على تأسيس هيكل ميت ومايزال كذلك، اسمه (الجامعة العربية) لكي تحول دون قيام وحدة بين الشعوب العربية، وبينها وبين الشعوب الإسلامية، ولماذا دفعت بميشيل عفلق وبالإملاءات نفسها لتأسيس أكذوبة كبرى أطلق عليها 'حزب البعث العربي الإشتراكي' في كل من العراق وسورية، وظلا عقودا في عداء مستفحل ومتفاقم، وكانا بَعصاً للعرب لا بعثا لهم، وكانت الغاية البريطانية هي الغاية نفسها، الحيلولة دون قيام وحدة بين الشعوب العربية وبينها وبين الشعوب الإسلامية. وكرر التاريخ نفسه مع ما يمكن أن يوصف مجازا أو جُزافاً بمجلس التعاون الخليجي، بدلا من تأسيس اتحاد خليجي وبالإملاءات عينها من الإيباك واللوبيات الصهيونية اليهودية الإسرائيلية لتكريس مؤسسات مشيخات القبائل أو العائلات الحاكمة، لأنها بدرجات متفاوتة موالية لها وبعيدا وبمعزل عن شعوب المنطقة.
وعليه فقد قلنا في المقال السابق إن المجلس الخليجي (الذي لا يمت بأي صلة للشعوب ويتصرف وكأن الشعوب خارج الحدود الجينو بيولوجية للعائلات الحاكمة لا وجود لها، وإنْ وجدت بشكل أو بآخر فهي أصفار على الشمال) ليس من خيار أمام المجلس في عصر الثورات الشعبية التي تجاوزته سوى أن يطور صيغته الشكلية والمضمونية إلى اتحاد خليجي يضع الشعوب في قلب العملية السياسية أسوة بالاتحاد الأوروبي، إن أرادت العائلات الحاكمة أن تنجو بنفسها، بحيث يتم التمهيد لهذا التطور المفصلي المأمول بمبادرات تبدأ بالتحول إلى مملكات دستورية، كما هو الحال مع العائلات المالكة الأوروبية البريطانية والهولندية والبلجيكية والسويدية والإسبانية، وحتى تلك الآسيوية كالعائلة الحاكمة الماليزية واليابانية وغيرهما، بحيث تصبح العائلات الحاكمة الخليجية حاليا عائلات رمزية وظيفتها الأساسية الحفاظ على الوحدة الوطنية بين قبائل دول المنطقة، ثم يتم انتخاب برلمانات منتخبة ديمقراطياً من الشعب في كل بلد خليجي مباشرة، وآليات ذلك معروفة ومعمول بها في دول الإتحاد الأوروبي ولا ضير من الاستعانة أو الاستفادة منها. وأكدنا أن مثل هذه القفزة النوعية التي تتوق إليها الشعوب وتتطلع بشغف إلى تحقيقها يمكن أن تفضي إلى تطبيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بين الشعوب بشكل عادل أو على الأقل إحراز الحد الأدنى منها وهو المفتقد كثيرا في كثير من بلدان المجلس، ناهيك عن الحد الأعلى منها، وهي من بين جوانب كثيرة أخرى مفتقدة. وخلصنا إلى القول إن مبادرات جسورة كهذه من العائلات الحاكمة إن هم قاموا بها كُلفتها ستكون حتماً أقل بكثير من مخرجات ونتائج وتداعيات الاحتجاجات وستوفر عليهم تكاليف باهظة عانت منها وما تزال تعاني منها تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والبحرين وعمان وغيرها، وإن ذلك سيحول دون تدهور الاقتصاد ومن بين أهمها احتمال إقدام وكالة فيتش الإئتمانية الدولية بتخفيض الحد الإئتماني لدول المنطقة، كما حدث مع الدول العربية الأخرى، لأن الفوضى ستؤثر سلبا على الإنتاج إضافة إلى أن مثل هذه الإصلاحات الدستورية والسياسية ستفوت الفرصة على كل من يحاول الاصطياد في الماء العكر (كما يحدث في البحرين مما أجهض سلامة توجه الاحتجاجات) ويراهن على نزول المواطنين الخليجيين إلى الشارع واللجوء والاحتكام إليه بصورة أكبر مما حدث سابقا، مما سيؤدي إلى الإضرار بأوجه النهضة التي صُرف عليها أكثر من زهاء التريليون دولار خلال العقود الثلاثة الماضية، كما ترجح الإحصاءات الصادرة مثلا عن مركز الخليج للدراسات في دولة قطر وهي وغيرها من تداعيات وعواقب قد لا تُحمد عقباها. ولكن... قد تُحمد عقباها كما كتب لي أحد القراء على فرضية السيناريو الآتي: كمرحلة أولى يزحف للعمل وطلب الرزق الى عمق الجزيرة العربية والخليج أربعة الى خمسة ملايين يمني ومليون عماني غير مسلحين الا بالمعول والقلم وحقيبة سفر على الظهر.
كمرحلة لاحقة تفتح الحدود العربية عنوة بواسطة الشعب العربي بين كل دولتين ولطلب الرزق والمرحلة الاخيرة تحرير فلسطين بذات الطريقة. من يستطيع وقف هذه الجحافل المباركة؟ هذا إذا ما بقيت الحال على ما هي عليه واستمر المجلس الخليجي ودوله الأعضاء فرادى وجماعات الإصغاء إلى دول الغرب التي توجهها وتملي عليها الإيباك واللوبيات الصهيونية اليهودية الإسرائيلية خدمة لمصالح إسرائيل وبمساعدة صهاينة الداخل، وهم كثر، لتبقى بلدان الخليج حبيسة مجلس عشائري ليس للشعوب التواقة للحرية والعدالة والكرامة أي دور فيه لأن الشعوب ببساطة ـ ولسنا في حاجة لنفترض ـ تنظر إليها الإيباك ولوبياتها وإسرائيل والغرب برمته بالتالي على أنها خطر محدق بها وبالمجلس الخليجي العين الساهرة على مصالحها ومصالح إسرائيل والغرب ما هو إلا مجرد واجهة.

copy_r