gulfissueslogo
الموقف التاريخي المطلوب: مع الثورة ام الثورة المضادة؟
د.سعيد الشهابي

 
2011-05-31
  
سوف يشهد التاريخ على ان اجهاض حركة التغيير الديمقراطي العربية سيكون واحدة من كبرى الجرائم ضد الانسانية ترتكبها قوى الثورة المضادة، فهو يتم بتخطيط واع ومتواصل، وبأساليب تضليلية غير واضحة المعالم للمراقب العادي لانه يتم من وراء الكواليس وتحت غطاء 'دعم' الديمقراطية.
ومن خلال متابعة تطور الثورات التي ابتدأت بتونس، يتضح ان وتيرة التغيير أقل كثيرا مما كان الثائرون الذين ملأوا الشوارع والساحات بأعداد غير مسبوقة في حركة التغيير العربية منذ عقود يتوقعون. فاذا كان شعبا تونس ومصر قد حققا انجازا كبيرا بخلع رئيسيهما، الا انهما ما يزالان ينتظران التحول نحو الديمقراطية الحقيقية، ويواجهان ضغوطا سرية وعلنية متصاعدة من قبل قوى الثورة المضادة تهدف لتحجيم مدى التغيير ومحاصرة الدور الشعبي في الحكم والادارة. يتم ذلك بتوافق تقوم به قوى الثورة المضادة لاحتواء الانظمة الجديدة ضمن فلك النفوذ الغربي، ومحاصرة روح التغيير ضمن الحدود القطرية لكي لا تتحول الى أيقونات للتغيير في المحيط العربي. ينطبق هذا الامر على الوضع في تونس، ولا يختلف كثيرا في مصر. فبرغم تفاؤل الكثيرين بان الجيش لعب دورا ايجابيا في عملية انتقال السلطة فثمة ادراك لتلكؤ قياداته في تنفيذ مشروع التحول الكفيل بايصال الشعب الى نظام ديمقراطي يحقق اهداف الشعب والثورة. فقد دعا النشطاء الذين قادوا الانتفاضة التي اطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك في شباط/فبراير الماضي الى 'ثورة ثانية' على ما يرون انه تباطؤ في الاصلاحات ومحاكمات مسؤولين سابقين بتهم فساد واساءة استغلال السلطة. وخرجت الاسبوع الماضي تظاهرات حاشدة لمنع حالة الركود التي تهيمن على المشهد السياسي، سواء كان ذلك ناجما عن عجز ذاتي في الهيكل العسكري ام نتيجة اجندة خارجية تفرضها قوى الثورة المضادة لمنع تحقق التغيير السياسي المنشود في كبرى الدول العربية. الامر المؤكد ان ثمة صراعا يحدث في السر والعلن على النفوذ في المنطقة بين التيار التغييري الذي كان من المفترض ان تقوده مصر بعد سقوط حسني مبارك وقوى الثورة المضادة المتمثلة بالسعودية و'اسرائيل' والولايات المتحدة وبريطانيا.
ماذا يعني ذلك؟ وماذا يعني تلكؤ الثورات الاخرى؟ فكلا الثورتين تمكنتا من اسقاط رئيسي بلديهما في غضون فترة لا تتجاوز الشهر، بينما ما تزال الثورات الاخرى تراوح مكانها، او ربما اجهضت تماما (كما هو الحال في الاردن والمغرب). انطلقت الثورات جميعا على خلفية واقع شعوبها المتخلف وتطرف النخب الحاكمة في استبدادها وقمعها، مع اختلافات محدودة في مستويات الاستبداد والقمع، فكيف سقط زين العابدين بن علي واعقبه حسني مبارك، بينما ما يزال حكام البحرين وليبيا واليمن وسورية مكانهم؟ الامر المؤكد ان الثورتين التونسية والمصرية فاجأتا اصحاب القرار السياسي في الغرب وفي دول المنطقة، فتوالت التطورات بسرعة ولم يستطع احد منع سقوط حاكمي البلدين. ولكن سرعان ما تحركت قوى الثورة المضادة التي كانت قد بدأت تنظم نفسها بعد اسابيع قليلة من اندلاع ثورة تونس، بل انها حاولت منع سقوط بن علي، وضغطت السعودية بشكل مكشوف على ادارة اوباما لمنع سقوط مبارك، ولكنها فشلت في ذلك. فتغيرت خطة عمل تلك القوى، واستبدلت منع سقوط الزعماء كما حدث في تونس ومصر بعرقلة الثورة ومسيرتها، بأية صورة، ومهما كان ثمن ذلك. وجاء التدخل الغربي في ليبيا متحمسا في ظاهره لاحداث التغيير، ولكن لوحظ بشكل تدريجي ان نتائج تلك الثورة لا يمكن ان تكون خارج المنظورات والارادات الغربية. ومن خلال ما جرى يمكن استنتاج نظرية جدية مفادها ان التغيير السياسي في الدول العربية مؤجل حتى يتم التوصل الى 'تفاهم' بين قوى الثورة المضادة والعالم الغربي، وعلى وجه الخصوص: الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد تم العمل وفق هذه النظرية في اغلب المحاور الثورية. فتدخلت السعودية، وهي رأس الحربة في مشروع الثورة المضادة، للتظاهر على الاقل بالتصدي لاسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا.
ووفقا للمعلومات المتوفرة فقد تعهدت السعودية بدفع نفقات الحرب الانكلو ـ أمريكية ضد نظام القذافي. والهدف من ذلك التحكم في نمط الحكم المستقبلي في ذلك البلد. هذا هدف استراتيجي ليس فيه ضعف او تردد، بل هو واحد من الثوابت التي ترتكز عليها سياسات دول مجلس التعاون الخليجي التي جمعت نفسها هذه المرة بشكل غير مسبوق، منذ تأسيس المجلس في شهر مايو(أيار) قبل ثلاثين عاما. وقد رشحت الاسبوع الماضي في وسائل الاعلام البريطانية معلومات جديدة عن تدريب بريطانيا فرقا امنية سعودية للاستخدام ضد الثورة في البحرين، الامر الذي يظهر بكل وضوح الدور البريطاني في التصدي للثورات العربية.
مشروع التعاطي مع الثورات الشعبية انطلق بهف ضمان عدد من الامور: اولها ان يحدث التغيير ولكن ضمن الضوابط التي يطرحها الغربيون، ثانيا: ان لا يتحقق بمحض الارادة الشعبية، بمعنى ان التغيير لن يكون استجابة مباشرة للقوى الثورية، بل بالتدخل الامريكي المباشر لدى الانظمة المحاصرة بالثورات، والتحاور معها ازاء ما يمكن عمله وما لا يمكن. ثالثا: ان يكون تدريجيا وليس بشكل مباشر، لكي لا يتسنى للقوى الثورية فرصة لاداء الثورة والتعاطي مع استمرارها وما قد ينجم عن ذلك.
رابعا: ان يكون التغيير المطلوب عاملا يؤدي الى استقرار المنطقة وفق المعايير الغربية ولا يخلط الاوراق او يقلب الموازين.
الغربيون يدركون ان التغيير الذي يحدث بانماط ثورية لا يمكن ان يواجهه احد لانه يعبر عن موقف عام للامة.
خامسا: ان العالم العربي اصبح الآن بدون قيادة ميدانية قادرة على التعاطي مع المشتركات، واصبحت قيادة كل من الثورات محاصرة من قبل قوى الثورة المضادة من جهة واجهزة القمع السلطوية من جهة اخرى. وهكذا يتوالى المشهد السياسي في الدول العربية في الوقت الحاضر. بين ركود محبط للآمال في مقابل الفعل الغربي الذي يرتب اوراقه وفق تطورات الساحة المباشرة، وأمل بتحقيق التغيير ضمن الضوابط التي طرحتها الحركات المعارضة، خصوصا الاسلامية منها. قوى الثورة المضادة خططت لاستعادة زمام المبادرة بعد تونس ومصر، واصبحت تملي شروطها الواضحة للتغيير على القوى الميدانية المضادة للانظمة القائمة. مفاد المشروع الغربي الخاص بثورات العالم العربي ان التغيير غير ممكن الا من خلال البوابة الغربية، ضن شروط الحرب القائمة واخلاقية التصادم بين الفرقاء. ووفقا لهذا المنظور، فلا مجال للتغيير السياسي الشامل الذي يحقق المشروع الديمقراطي المؤسس على مبدأ 'لكل مواطن صوت' الا اذا لم بـ 'التفاهم' مع قوى الثورة المضادة.
ولتأكيد هذا المنحى، اي استعداد قوى الثورة المضادة لمنع انتصار الثورات، يمكن ملاحظة ما جرى للثورات الثلاث الاقوى بعد ثورتي تونس ومصر: البحرين وليبيا واليمن. فثورة البحرين هي الاقدم من بين الثورات الثلاث. فكيف تم التعامل مع هذه الثورة؟ تقول صحيفة 'واشنطن بوست': 'مثلت الثورة في البحرين أولى النتائج المختلفة للثورات الشعبية، حيث سرعان ما تم إخماد الثورة الشعبية بالقوة والقسوة وبدعم من قوات درع الجزيرة التي انطلقت من السعودية، وسط ادعاءات لجماعات حقوق الإنسان في البحرين في أن السلطات تمارس اضطهادا ممنهجا ضد الأغلبية الشيعية التي قادت الاحتجاجات في البلاد'. فما ان اتضح ان الثورة جادة ومتسارعة ومصممة على اسقاط نظام حكم عائلة آل خليفة، حتى طرح أشد الاسلحة فتكا: السلاح الطائفي. انه افضل الاسلحة من بين ترسانة الاسلحة المعدة للثورة المضادة. هذا السلاح يدغدغ عواطف البعض، خصوصا من الاسلاميين، وكان امتحانا لمدى وفاء العناصر الثورية لمشروع الثورة، ومدى وعيها لمشروع الثورة المضادة. والامر المؤسف ان يكون لهذا السلاح وقع في نفوس بعض الرموز الدينية والحركات السياسية، برغم ان من بين المتصدين للتغيير في البحرين عناصر من كافة الاطياف السياسية والمذهبية. وتجدر الملاحظة ان من بين الاسماء الـ 21 للرموز القيادية التي تحكم في الوقت الحاضر يبرز اسم الاستاذ ابراهيم شريف، واحدا من المع الشخصيات الوطنية المعارضة ذات الاتجاه الليبرالي والمنحدر من عائلة سنية. مع ذلك تصر قوى الثورة المضادة على تسويق خطابها الذي يستعمل الطائفية لبناء حواجز نفسية بين ابناء الامة الواحدة بهدف اضعاف ارادة التغيير لديها. ان القبول بهذا التمييز في وصف الثورات سقوط في فخ قوى الثورة المضادة. فهذا السلاح يستعمل الآن في مصر لاثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين وبين المسلمين العاديين والصوفيين وبين السنة والشيعة.
اما ثورة ليبيا فقد تم ايصالها الى طريق مسدود، بعد ان دخل الغربيون على خطها بعناوين شتى ابرزها 'حماية الشعب الليبي' ومنع قوات القذافي من الوصول اليهم. فما بدأ ثورة واعدة ضد نظام القذافي تحول اليوم الى حرب تقترب من الحرب الاهلية وتحصد الاخضر واليابس، وتكرس حالة غير مسبوقة من التقسيم بين شرق البلاد وغربها. الغربيون يتحدون معارضي القذافي وكأنهم يقولون لهم: اننا لا نريد التدخل عن طريق القوات البرية، نزولا عند رغبتكم، وسوف نكتفي بضرب قوات القذافي جوا. وقد مضى اكثر من شهرين على هذا التدخل وما تزال الامور على عواهنها. ولا يستبعد ان تأتي اللحظة التي يرى فيها زعماء الثورة ضرورة التدخل الغربي برا لانقاذ الموقف واسقاط نظام القذافي. اما وفق المعايير الحالية، فقد استعاد معمر القذافي شيئا من قوته، واصبح هناك توازن في الرعب بين الطرفين، وتحولت القضية من ثورة شعبية الى احتراب داخلي، واصبح الطرفان خاضعين لابتزاز قوى الثورة المضادة التي تسعى لهندسة مرحلة ما بعد القذافي. فهي تريد رحيل القذافي بشروط تضمن بقاء ليبيا ضمن فلكها. وهذا يتم بتخيير الثوار بين الانصياع لشروط قوى الثورة المضادة او تحول الوضع الى حرب اهلية. وما يحدث في اليمن مشابه لذلك ايضا. فمع ان الثورة ما تزال متواصلة، من خلال الحضور الجماهيري في الشواراع للتظاهر والاحتجاج اليومي ضد حكم علي عبد الله صالح، الا ان قوى الثورة المضادة تدخلت بجناحها العربي المتمثل بمجلس التعاون الخليجي، لفرض حل يحمي علي عبد الله صالح من طائلة القانون لكي لا يتعرض لما تعرض له حسني مبارك ونجلاه من سجن ومحاسبة ومحاكمة. الثوار رفضوا ذلك، فتم تهديدهم بتحويل الثورة الى حرب اهلية. واليمن مستعد لحرب من هذا النوع نظرا لوفرة السلاح وتعدد التوجهات السياسية والايديولوجية بين المجموعات المجتمعية والسياسية في اليمن. وبرغم وعي الشعب واصراره على الاستمرار في المطالبة بالحرية والتخلص من حكم علي عبد الله صالح، فان تأجيج الوضع لا يحتاج سوى لبضع طلقات لكي ينفجر ويتحول الى حرب اهلية.
ازاء هذه الثورة المضادة التي يزداد خطرها يوما بعد آخر، والتي تتزعمها السعودية بالمال والفتوى والتصدي المباشر لوأد الثورات، ما الذي يمكن عمله لانقاذ ما تبقى من روح النقاء الثوري في الشارع العربي؟ ثمة امور عديدة يقتضي الاخذ بها وتوفير الارضية لبعضها، لقلب الطاولة على رؤوس عناصر الثورة المضادة. اول هذه الامور رفض التمييز بين الثورات العربية، فجميعها انطلق بهدف واحد يتمثل باسقاط انظمة الحكم البالية التي فشلت في تطوير نفسها او مواكبة التطور السياسي والعلمي، وعلى ارضيات متشابهة من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وتغييب الحريات العامة. ثانيها: رفض التدخل الغربي العسكري المباشر في اي من البلدان، جملة وتفصيلا. فهذا التدخل يزيد الوضع تعقيدا ولا يضمن سلامة النتيجة. ثالثها: دعم الثورات الشعبية بعضها بعضا، لافشال المخطط السعودي المؤسس على بذل المال النفطي بمعدلات غير مسبوقة، واضفاء السمة الدينية على ذلك كله بتوجيه المؤسسة الدينية على طريق ذلك. رابعها: التواصل بين القطاعات المجتمعية الراغبة في التغيير بشكل منتظم لكي يتحدث الناس بنغمة واحدة وفق اجندة واضحة المعالم والاهداف. خامسها: عدم القبول بانصاف الحلول، فالحالة الثورية ليست ظاهرة اصلاحية فحسب، بل تتجاوز ذلك لتكون عنوانا لمسيرة الامة وايقاظ شعوبها وتحريرهم من ارهاب الدولة وهيمنة الغرب واضعاف ارادة المواطنين.
هذه عناوين شتى، لكنها مرتبطة بسياق واحد. ان قوى الثورة المضادة مستعدة للتضحية بالوئام الاجتماعي والزج بالقوى الثورية في اتون الحروب الاهلية الطاحنة، ما دامت ترفض اخضاع مشروعها الثوري للارادتين السعودية والامريكية، وما دام روادها يرفعون شعار التغيير من اجل الديمقراطية. هذه الحقائق لا يمكن دحضها بتصريح هنا، او آخر هناك. فهي حقائق يلمسها المواطنون على الارض، وليس هناك حاجة سوى لزيارة ميادين الثورة في هذه البلدان للاطلاع على ما تدعيه السلطات من 'تخريب' ليتضح عمق العداء الرسمي والدولي لهذه التحركات الساعية لاصلاح اوضاع بلدانها بعد عقود من الاستبداد والديكتاتورية والفساد المالي والاداري. الامر المثير للاستغراب هذا الصمت المروع من قبل النخب المثقفة وعلماء الدين، والاستعداد لدى الكثيرين لمسايرة الظلم والقمع ومساندة الطغيان في مقابل السلامة الشخصية وتحقيق بعض المكتسبات المادية على حساب القيم والاخلاق. ان التغيير مطلوب، وسوف يتحقق، ولكن السؤال: بأي ثمن؟ لقد قالت الشعوب كلمتها واستعدت للتضحية، مقتنعة بان الثمن المدفوع، مهما كان باهظا، سيكون أقل كثيرا من استمرار الوضع الاستبدادي القاتل. لذا قررت الانطلاق آملة بالنصر والتغيير، وعلى الجميع ان يقرر موقفه: مع الثورة؟ ام الثورة المضادة؟

القدس العربي
 

copy_r