لم يعبأ الخليجيون كدأبهم كل عام لا كثيراً ولا قليلاً ولا من بعيد ولا من
قريب بذكرى انقضاء سنة أُخرى على إنشاء ما يمكن أو ما لا يمكن أن يوصف (بمجلس
التعاون الخليجي.) ويمكن أنْ يُقرأَ في صمتهم وهو أبلغ من الكلام أحيانا وفيه
نوع من الاحتجاج قريب الشبه كثيراً بالهدوء الحذِر الذي غالبا ما يسبق هجوم
العاصفة، وهو فعل إيجابي في حد ذاته وليس فعلا سلبيا كما يمكن أن يتراءى للبعض،
ويمكن أن يتم تصنيفه في خانة (الثورة السلبية التي كانت الخط الثوري للمهاتما
غاندي في مواجهة الاحتلال الانكليزي للهند والذي فعل ما فعل) وللخليجيين في ذلك
أسبابهم ويذهبون فيه مذاهب شتى. رغم أن الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج
والمُتَرتبات والتداعيات والمجلس برمته لم يعد يعنيهم بشيء ومتى كان يعنيهم
أصلا حتى يمكن أن يعنيهم الآن.
وما أدل على ذلك من احتفال (رسميي) المجلس خلال الأسبوع الفائت مع مسؤولين
(سعوديين) الذي تم خلاله تبادل الصور التذكارية والضحكات (و لكنه ضحك كالبكاء)
والابتسامات وتقديم الهدايا...إلخ لاعتبار وجود ما يُفترضُ أن تكون (الأمانة
العامة للمجلس) بالرياض - احتفالهم بإطفاء الشمعة الثلاثين للمجلس نشرته
وأذاعته وعرضته مؤسسات الإعلام الرسمية مُصَحَّفةً ومُذاعةً ومُتلفزةً بشكل
مُقتضب وعلى استحياء يكاد يكون شديدا، وكأنها تعتذر للخليجيين من حيث لا تشتهي
أو لا تعلم عن ثلاثينية المجلس العجاف (نقصد شعبيا طبعا) أو أنها أدركت لو أنها
فعلت عكس ذلك لاستقطبت المزيد من سخط الخليجيين على الإعلام الرسمي الطنان
الرنان المنان (ويكاد المريب يقولُ خذوني) وتلك الشمعة على أي حالٍ، كما يتندر
الخليجيون وما أكثر ما يتندر الخليجيون بالمجلس هذه الأيام، بدأت قبل ثلاثة
عقود مطفأة أو منطفئة من الأساس فلم تُضِئ قط للمواطنين ليروا ما يُحاك لهم
بِنهارٍ، وما يُبيت لهم بليلٍ في قصور أهل الرِّياش وأصحاب الدِّمقس والحرير،
وفي داخل مكاتب الأمانة العامة الفارهة الفاخرة، وإنما كانت وما تفتأ تضيء
لبطانة الحكام (البرمكيين) قبل الحكام المُغيبِ كثير منهم عن الشارع الخليجي
كالمجلس نفسه (ووافق شنُّ طبقة)، ليتحسسوا على ضوء الشموع من يوشك أن يرفع
(عريضة) أو يفكر في اعتصام أو في أي شكل من أشكال التظاهر السلمي مطالبا
بتغييرات سياسية أو برلمانية أو دستورية أو قانونية أو اقتصادية أو اجتماعية.
ويا ويل ويا سواد ليل من يجرؤ على فعل ذلك، فإنه يمكن أن يُلقى بها أو به في
غياهب الجُبِّ أو السجن رغم (زنزنة) الإعلام الرسمي الموجه صباح مساء للاستهلاك
الخارجي المكشوف طبعا عن أن الخليج واحة الأمن والأمان، وهو كذلك والله وتالله
بَيْدَ أنه بشرط ... طالما أن الناس يكتفون بالأكل والشرب والنوم وما يرمى
إليهم من القشور والفتات، ولكن... إن هم تجاوزوا أحجامهم وطالبوا بأي شيء لم
يُعطَ لهم (لحكمة بالغةِ النذُر لا يعلمها سوى أفراد البطانة قبل الحكام) فإن
الخليج يمكن أن يتحول تماماً إلى عكس واحة الأمن والأمان ولن نوصِّف أكثر من
ذلك.
اعتقد الخليجيون أن ضغوطات الإيباك في أمريكا الشمالية والردهة أو اللوبي
الإسرائيلي اليهودي الصهيوني في أستراليا (وثمة تسريبات مؤخرا عن هذا اللوبي
بالاسم أن بعض دول الخليج العربي تتعامل معه بشكل مفتوح وقد ورد في التسريبات
اسم الإمارات بالتحديد) ونظرائه في أوروبا على الولايات المتحدة الأمريكية ودول
الغرب ـ بدرجات متفاوتة ـ ولا سيما بريطانيا بالإيعاز إلى دول الخليج وخاصة
كبراها وهي السعودية بتأسيس (مجلس التعاون الخليجي) عام واحد وثمانين وتسعمئة
وألف كان فقط بهدف عزل منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط ، السلعة
الإستراتيجية الأهم عالميا عن تأثيرات الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت
قبل ذلك بعام تقريبا. وغاية ذلك ليؤمِّن الغرب، خاصة الولايات المتحدة
الأمريكية، احتياجاته من النفط الخليجي الذي كان يذهب جزءٌ منه (لإسرائيل) عن
طريق الشركات الغربية والأمريكية بالتحديد، ولتقرر الدول الغربية (بضغوط من
الإيباك واللوبيات الإسرائيلية في الغرب ذاتها، كما أخبرنا مؤخرا جون ميرشيمار
وستيفن وولتْ في كتابهما الأشهر 'اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأمريكية
الخارجية') الكميات الإنتاجية والسعر المناسب بعد أن نجحت بدءاً من العام 1984
في كسر استقلال الأوبك وقطعا بمساعدة دول الخليج العربي. غير أن الخليجيين
فطنوا بعد ذلك الى أن ثمة هدفا آخر كان وراء إنشاء المجلس وهو عزل المجلس عن
شعوب الخليج. ولذلك ارتأوا تسميته (بمجلس التعاون لدول الخليج العربية) وليس
مجلس التعاون لشعوب الخليج العربي. وأما تجنب مصطلح (الخليج العربي) فهو راجع
لسببين، وهما أن الغرب رغم علاقاته الإستراتيجية والأكثر من ممتازة تاريخيا مع
دول الخليج العربي (وليس بالضرورة مع الشعوب) يستعمل مفهوم (الخليج الفارسي) في
أدبياته منذ آلاف السنين.
والسبب الآخر أن إيران كانت منشغلة في حرب ضروس طاحنة مع العراق ـ صدام حسين،
ولم تُرد دول الغرب أن تدخل معها في حرب جدلية حول تسمية الخليج أو حتى
إغضابها، خاصة أنها تسهم بدلا عن (إسرائيل) في إنهاك دولة عربية مهمة عدوة
لإسرائيل (مع اختلاف أسباب الحرب كما بدت في الظاهر على الأقل سنواتئذٍ).
ومنذ تأسيسه والمجلس غائب أو مغيب ومنفصل تماماً عن هواجس الشارع الخليجي
وهمومه وأفراحه وأتراحه وأشواقه وتطلعاته. ولو أن عشرة في المئة مما يُنفق على
(التَّورُّم) الروتيني والبيروقراطي في الأمانة العامة للمجلس يتم انفاقه على
إيجاد فرص عمل (لزهاء) ثلاثين في المئة من السعوديين مثلاً لَتحسنت أوضاع
السعوديين، رغم أن بلدهم يصدر نحو اثني عشر مليون برميل نفط يوميا وتدر عليه
دخول الحج والعمرة ما يقارب الثلاثمئة مليون دولار على مدار العام (وهذه النسبة
صادرة عن مسؤول كبير جدا سابق بالأمانة العامة طلب مني ألا أفصح عن اسمه، وهو
لم يستعمل مفردة 'زهاء' غير أنني أستعملها لكي لا يقال إنني أطلق أحكاما قيمية
قاطعة، وإنما أكد المسؤول الكبير السابق على نسبة ثلاثين في المئة عاطلين عن
العمل وأكد كذلك في حديثه معي أن ثمة هدرا كبيرا في المال العام بدول المجلس
ومع أنه لم يحدد نسبته إلا أن تقارير البنك الدولي مثلا تتحدث عن أن العام
الماضي بلغت نسبة الهدر في المال العام في دول المجلس ما بين أربعين إلى ستين
في المئة ولا يستبعد أن يكون الهدر هذا العام أقل من سابقه).