gulfissueslogo
د.فؤاد إبراهيم
لماذا انتصرت في تونس ومصر وتعثرت في ليبيا واليمن و...؟
د.فؤاد إبراهيم
17-03-2011

 السؤال المركزي هو: لماذا نجحت الثورة في تونس ومصر، وتعثّرت حتى الآن في ليبيا واليمن والبحرين، ولم تكسر الجرّة، بعد، في بلدان عربية أخرى؟
ثمة ردٌ منتظر من طغاة العرب مفادها: ها قد أذعنتم الى حقيقة الغيرية، حين نبّهنا بأننا لسنا تونس أو مصر. ولكن ما يجهله هؤلاء أن الكلام لا يدور حول غيريّة في الثورة وشروطها، ولكن في سيرورتها. فالإجماع منعقد بين الشعوب العربية على أن الكيان السلطاني مصمّم لتعقيم مشروع الأمة والدولة الوطنية على السواء، ولئن توحّد خيار الأنظمة المستبدة، فقد توحّدت الشعوب في اعتناق خيار الثورة عليها.
في الأفق الواسع لقراءة الثورات العربية، تسترعي اهتمامنا كمراقبين وباحثين حالة المراوحة في الانتفاضات الشعبية في ليبيا واليمن والبحرين، ما يفرض مقاربة سوسيو ـ بوليتيكية بنكهة إثنولوجية، من أجل فهم سيرورة الثورات، والعوامل المحرّضة على اندلاعها، وكذا انتصارها. حين نقرأ التاريخ من نهايته، تبدو الصورة الآن على هذا النحو: إن التمزّق المناطقي يعيق الانتصار الحاسم للثورة في ليبيا، وإن التمزق القبلي يمنح نظام علي عبد الله صالح هامش مناورة يحول، حتى الآن، دون بلوغ الشعب اليمني لحظة النصر، وإن التمزق المذهبي/الطائفي يخلق أمداً زمنياً للنظام الخليفي لجهة المراوحة ريثما تشتعل الغرائز الطائفية للحيلولة دون انكساره والإذعان لإرادة الشارع، وإن التمزّقات هذه بكل أشكالها المناطقية والقبلية والمذهبية حاضرة بكثافة في بلد مثل السعودية، وإنها، أي التمزّقات، تشكّل عامل استقرار وتماسك السلطة.
ومن غرائب الدولة الشمولية لدينا، أمة العرب، أن وحدة السلطة مؤسسة على قسمة المجتمع. فنقطة الجدل المركزية، إذن، ليست مندكّة في الأمم المتأخرة (belated nations) من حيث تكوينها، ولا أيضاً في إخفاق الدول في إنضاج شروط الانتقال إلى أمم/أوطان، بل في دور النظم السياسية الحاكمة في تعميق الانقسامات الداخلية لناحية تصعيد قيمة السلطة المركزية، الشمولية غالباً.
لئن بدا مشهد الدولة والاختلالات البنيوية التي تحول دون التلاحم الشعبي في مواجهة غطرسة الدولة وجبروتها بارزاً في تبجّحه، ندرك تماماً لماذا كان من السهل على الشعبين التونسي والمصري اقتناص الفرصة التاريخية وتحقيق النصر الحاسم في عملية ثورية خاطفة، لا تكاد تتكرر في تاريخ الثورات الكبرى في العالم. في مصر، على سبيل المثال، يكفي النداء باسمها كيما تلتهب مشاعر عشرات الملايين وتعبئة الشارع، وكذا الحال بالنسبة لتونس، فالتمزّقات فيهما مهما بلغت تتوارى خلف صرخة واحدة باسم الوطن، فالجميع يلتقي، على سبيل المثال، على مصر، باعتبارها (فوق الجميع)، بحسب كلمات إغنية راب مصرية بمناسبة انتصار الثورة، بل تتحوّل مصر الأمة والوطن صرخة ثورية في وجه النظام الحاكم، ولكن الحال يختلف في بلدان أخرى رغم محاولات إنعاش الشعور الوطني/القومي، فدخان الولاءات الفرعية (القبلية، المناطقية، المذهبية)، يحجب رؤية الأمة والدولة والوطن، ما يعني أن هناك بلداناً عديدة في الشرق الأوسط ما زالت تعيش أوضاع ما قبل الدولة والوطن، وبالتالي فإنها أقرب الى سلطنات منها إلى دول.
ثمة مزيد من التوضيح ضروريٌ لملامسة أشد خطوط التوتر خطورة في الوعي السياسي العربي. مثال ذلك: حين انهارت الدولة في مصر عشية 28 كانون الثاني (يناير) الماضي، نهض الوطن تلقائياً بمهمة صون وحدة الشعب المصري، وبرز في تمظهرين ساطعين: التشكيلات الفورية والعفوية للّجان الشعبية التي حفظت أمن مصر ومصالح المصريين، وأثبتت تلك اللجان بأن مصر تُحفَظ بأهلها. فقد تجسّدت معاني الأمثال الشعبية المنبثقة من وجدان المجتمع الفلاحي في صعيد مصر، وأشهرها (الأرض مثل العرض)، فأصبحت مصر الأرض المفتوحة أمام أهلها لتسييل العاطفة القومية الفطرية في هيئة أشكال متنوّعة من التلاحم الوطني والاجتماعي والأمني.
التمظهر الآخر، مشهد الطوق البشري حول المتحف القومي في ميدان التحرير، الذي اكتنز كل دلالات الوحدة الشعبية والعزّة الوطنية في الدفاع عن الرأسمال الرمزي والحضاري لمصر. رسالة شديدة الوضوح بعث بها شباب الثورة في تلك اللحظة التاريخية مفادها أن المتحف الذي نحميه هو (نحن) في تعاقبها التاريخي المتّصل. بكلمة، كانت مصر أرسخ جذوراً من أي محاولات تمزيق يمكن لأي نظام سياسي أن يقوم بها من أجل ترسيخ سلطته على حساب سلطة الوطن.
على الضد، كان هذا المشهد غائباً، على سبيل الأسى، في 9 نيسان (إبريل) 2003، حين سقط النظام الاستبدادي في العراق، حيث تعرّض متحف بغداد، من بين مؤسسات أخرى عديدة تابعة للدولة، لعملية نهب في شكل منفلت، عبّرت عن حالة انتقام من نموذج الدولة الحاكمة في العراق، ولكنّه في الوقت نفسه عكس أيضاً وهن الروابط القومية في هذا البلد العريق. وكانت الانقسامات الإثنولوجية، والدينية، والمذهبية، والمناطقية كفيلة في لحظة سقوط النظام، أن تعبّر عن نفسها بطريقة انفجارية. ولا زالت تلك الانقسامات مسؤولة حتى اللحظة عن الإخفاق في الانتقال بالعراق الى نموذج الدولة الوطنية.
وحين اندلعت الثورة الشعبية في ليبيا في 17 شباط (فبراير) الماضي، توجّه النظام الليبي على الفور إلى شبكة الغرائز البدائية، المسؤولة عن توحيد السلطة ومركزتها وتقسيم المجتمع الليبي وتمزيقه. في خطاب سيف الإسلام القذافي في 20 شباط (فبراير) الماضي عبر قناة (الليبية) الرسمية نكوص نحو خطاب ما قبل الدولة ونقيضها. ثمّة ثلاثة مكوّنات كانت حاضرة في كلمة القذافي الإبن: الحرب الأهلية، التقسيم، وتالياً اختلال توزيع الثروة.
في اليمن، تم تحديد 17 شباط (فبراير) يوماً لإعلان الجماهير الغاضبة ثورتها ضد نظام علي عبد الله صالح، فكان الأخير يلعب على تناقضات المجتمع اليمني، ويحذّر في كل خطاباته من الفوضى والانقسامات الداخلية. ثمة إضاءة على خلفية التحذير، فالثورة اليمنية بدأت بمدينة تعز (256كم جنوب العاصمة صنعاء)، بإرثها الحداثوي، وفق المقاييس اليمنية الداخلية، فيما كانت تخضع صنعاء، الحاضنة لكل القوى السياسية التقليدية المدجّنة والمترهلّة، لعملية تأهيل عاجلة كيما تستقبل شباب الثورة الذين، شأن شباب تونس ومصر وليبيا والبحرين وغيرها، ينتزعون المبادرة الثورية ويرغمون القوى السياسية التقليدية على الالتحام للمواكبة وتثمير ما تبقى من طاقة ثورية في مشروع (إسقاط النظام). ولذلك، فإن ثورة اليمن، ليست موجّهة ضد رأس النظام فحسب، ولكنّها عملية تأهيل واسعة النطاق لمجتمع أريد له أن يبقى في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية، وكأن الثورة الشعبية في اليمن تقوم بعملية تحديثية خاطفة للمجتمع بكل قواه السياسية والاجتماعية، كيما يكون قادراً على إطاحة النظام (وليس رأسه فحسب)، وإقامة البديل الوطني. فأولئك الذين يتمرّدون على عوامل الانقسام الداخلي، ويلتحقون بجيل الثورة يزاولون مهمة مزدوجة: هدم منظومة سياسية وثقافية واجتماعية وبناء منظومة أخرى حديثة.
وفي البحرين، التي حدّد الثوّار موعد 14 شباط (فبراير) لانطلاق الثورة فيها، كان المتربّص الدائم والجاهز هو الانقسام المذهبي الذي جرى إشهاره على الفور، بما يرتدّ بالطبقة الحاكمة والمجتمع إلى مرحلة ما قبل الدولة، فضلاً عن الوطن والأمة. فقد جرى تصوير الانتفاضة الشعبية بأنها مجرد شكل من أشكال الصراع الطائفي، كما جاء على لسان ولي عهد البحرين سلمان بن حمد، وليس ثورة من أجل تصحيح الخلل البنيوي في الكيان الجيوبوليتيكي البحريني، وبناء الدولة الوطنية. ومن المفارقات الدامية، أن الثوّار يتوسّلون أدوات الدولة (الاعتصامات، المظاهرات، الإضرابات..)، بينما تلوذ الطبقة الحاكمة بأدوات ما قبل الدولة (الطائفية نموذجاً). ولا غرابة، أن يعلن النظام الخليفي في 15 آذار (مارس) تعطيل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، أي بكلمة تعطيل الدولة وبعث الفوضى في شكل الحرب الطائفية الدموية.
لا تجد في خطابات حكّام ليبيا، واليمن، والبحرين ما ينبئ عن شعيرة وطنية، بل كان الجميع على استعداد للارتداد الفوري الى خطاب ما قبل الدولة، بتذكير الرعية بانقساماتها التي هي في الغالب صنيعة النظام السياسي. وهذا يجيب، جوهرياً، عن السؤال الكبير: لماذا تنتصر الثورة في مصر وتونس في أقل من شهر، بينما تتعثّر في ليبيا واليمن والبحرين، وتتأخر ولادتها في بلدان عربية أخرى. باختصار، لأن ثمة استحالة لجهة توظيف سخط ما قبل الأمة والوطن والدولة في مشروع نضال قومي، ولا يصلح أيضاً كمحرّض على ثورة شعبية، فهذا النوع من السخط قابل للتثمير في حركات تمرّد محدودة، فئوية، أو في انتفاضات موضعية/مناطقية.
وسواء تعثّرت الثورة أو تأخّرت أو حتى أجهضت، فإن الحقيقة الكبرى تتمثّل الآن في أن الثورات العربية كشّفت الاختلال البنيوي للكيانات الجيوبوليتيكية العربية، وأن مقاومة القدر الثوري من قبل الحكّام العرب يهدف بدرجة أساسية إلى منع انتقال الكيانات تلك إلى دول وطنية، بما يشي بالتناقض التام بينها وبين الاستبداد السياسي.

copy_r