11-02-2011
العالم يحبس أنفاسه أمام إيقاع الثورة المصرية التي فاجأت الجميع، بما فيهم
حسني مبارك، الذي لا يبدو أنه يصدق ما يراه على شاشة الجزيرة مردداً "مش معقول"
غدوة وعشيا. لا يستطيع مبارك التنازل عن عرشه؛ لأن الهوى غلاب، ولأن حب الكرسي
"أمر عذاب وأحلى عذاب"، وربما كان حسني يناجي كرسيه الذي تهزه صيحات "ارحل"
قائلاً بصوت متهدج: يا مسهرني!
مبارك وكرسيه فانيان، كما أشار محقاً رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان،
وقد قالها الرحمن في أجمل بيان: "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام". لكن مبارك يصم أذنيه وهو الكهل الزاحف إلى التسعين من عمره، غير
مبال بصيحات شعبه الذي أرقه الهوان والقهر على مدى ثلاثة عقود تزيد ولا تنقص..
"كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار".
ما علينا من مبارك ولا كرسيه المترهل. والأكيد أن إدارة أوباما وحكومة نتنياهو
لا تباليان أيضاَ بمصير الرجل بقدر اهتمامهما بالحفاظ على مصالحهما والإبقاء
على "الوضع الراهن" بين مصر وإسرائيل. لكن لماذا إسرائيل حزينة ومخنوقة هذه
الأيام؟ ولماذا تتخبط الإدارة الأميركية بين موقف "مائع" وموقف يبدو متصلباً،
وكيف يمكن قراءة الثورة المصرية من المنظور الأميركي- الإسرائيلي؟
يمكن القول إن الحزن الإسرائيلي مفهوم جداً، ومن المتوقع أن يشعر أي صهيوني
بالخوف والقلق على مستقبل كيانه ومجتمعه؛ لأن مبارك كان حارساً أميناً "للأمن"
الإسرائيلي، بل كان حجر الزاوية في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين
والعرب. في البدء كانت "كامب ديفيد" التي غيرت مشهد الصراع في المنطقة، وعزلت
مصر عن أشقائها العرب، وحررت العقلية العسكرية الصهيونية من أي تهديد مصري
محتمل لغزواتها واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني والدول العربية. وكان أن أطلقت
الاتفاقية المشؤومة يد إسرائيل لتغزو لبنان عام 1982 وتفتك باللبنانيين
والفلسطينيين، وتقتل وتصيب أكثر من 70 ألفاً من الشعبين، وتحاصر بيروت 88
يوماً، وتقوم بهندسة مذابح صبرا وشاتيلا التي لا يعرف حتى الآن كم عدد ضحاياها.
وخلال ذلك كله لم يصدر عن نظام مبارك ما يضغط باتجاه وقف العدوان. واستمرت
إسرائيل تعربد في طول العالم العربي وعرضه آمنة من العقاب، وأسماء غزواتها
العدوانية كثيرة، أبرزها قتل الفلسطينيين وإرهابهم وتكسير عظامهم في انتفاضة
1987، واغتيال أبو جهاد في تونس عام 1988، واجتياح لبنان عام 1996، والعدوان
عليه عام 2006، وعدوان شارون الذي سماه "السور الواقي" ومذبحة جنين عام 2003،
واغتيالاته الهمجية المنظمة لقادة المقاومة الفلسطينية، والعدوان الوحشي على
غزة عام 2008، بل شارك نظام مبارك في خنق الفلسطينيين في القطاع، وأغلق معبر
رفح، واعتقل ناشطين في المقاومة، ونكل بهم، ومنع "أساطيل الحرية" التي تنقل
الطعام والدواء إلى المحاصرين، وقتل الفلسطينيين في الأنفاق بالغازات السامة،
وأخيراً بنى جداراً فولاذياً بإشراف سلاح المهندسين الأميركي ليحكم الحصار على
الشعب المنهك المقهور.
كان النظام المصري يعلم بالعدوان على غزة قبل بدئه، وهناك شخصيات بارزة في
النظام سهلت للإسرائيلي مهمته، وتحالفت معه، وأعادت إنتاج مفرداته. عمر سليمان
وأحمد أبو الغيط كانا أبرز خدم السياسة الصهيونية، قبل العدوان على القطاع
وبعده. كلنا يعلم أن سليمان كان مبعوث مبارك إلى قادة العدو، وكلنا يعلم أنه
كان من أسباب دق الإسفين بين حركتي فتح وحماس، وكلنا يعلم ما كشفت عنه وثائق
ويكيليكس من حظوة كبيرة للرجل عند صناع القرار في تل أبيب ما جعلهم يلحون على
واشنطن بالقبول به مرشحاً لخلافة مبارك في حال عجزه أو موته، واستناداً إلى
الوثائق ذاتها فإن الرجل اقترح على القادة الإسرائيليين أن يغزوا مصر ليمنعوا
بأنفسهم محاولات "الإرهابيين" نقل الأسلحة إلى حركة حماس داخل القطاع. ولم ينفذ
الإسرائيليون فكرة سليمان، لكن الرجل بالتأكيد نال إعجابهم وتقديرهم.
لقد كانت اتفاقية "كامب ديفيد" التي تولى كبرها السادات، وكرّسها والتزم بنودها
مبارك أكثر من ثلاثين عاماً، هي فاتحة الشر على العرب، وهي الكابوس الأكبر الذي
حاق بهم منذ نكبة فلسطين عام 1948، وهو ما جعل بعض قادة المشروع الصهيوني
يصفونها بأنها أفضل ما كسبته "إسرائيل" منذ "الاستقلال"، الذي يعني بالطبع نكبة
فلسطين، وقال عنها صحافي إسرائيلي إنها من "أبرز لحظات الذروة" في عمر دولة
"إسرائيل". مهد الصلح بين مصر والكيان الإسرائيلي لاعتراف الأردن لاحقاً
بالكيان وتوقيع اتفاقية "وادي عربة" التي أريدت أن تكون عربة للتطبيع وإنهاء
حال العداء بين العرب والكيان. وانجرفت بعض الدول العربية في "كسر الحواجز"
تناغماً مع الضغوط الأميركية ومناخ التطبيع، وأقامت دول مثل قطر وموريتانيا
وعمان علاقات بشكل أو بآخر مع إسرائيل، كما رأينا سلسلة من المصافحات المخزية
بين قادة أو مثقفين عرب من ناحية ومسؤولين إسرائيليين من ناحية أخرى (بو تفليقة
وباراك، شيخ الأزهر وبيريز، وتركي الفيصل وأيالون).
كان لمبارك فضل تبلور ما صار يعرف بـ "معسكر الاعتدال" العربي، الذي لم يكن إلا
حلفاً متأمركاً يسعى إلى إسقاط حال العداء بين العرب وإسرائيل، بل يصل حد
"التماهي" مع أجندات أميركا وإسرائيل ورؤاها الكونية حول "الإرهاب" و "التطرف
الديني" و "الخطر الإيراني". وبالنظر إلى انغماس النظام المصري في تسويق
الدعاية الإسرائيلية وخدمة حملاتها العسكرية الوحشية ضد العرب والفلسطينين،
يصبح الشعور "بالخسارة" لدى قادة الكيان ومنظري مشروعه مفهوماً. لقد كان
الإنفاق الأمني والعسكري في إسرائيل يبلغ 30% من الناتج المحلي الإجمالي قبل
كامب ديفيد، انخفض إلى 9 %. ولا ريب أن إعادة مصر "الجديدة" النظر في هذه
المعاهدة وصولاً إلى إفراغها من مضمونها أو إلغائها سوف ينهي "أيام العسل" التي
رفل فيها المشروع الصهيوني، ويحد من هوجته العدوانية، ويلقي بظلال قاتمة على
أحواله الاقتصادية.
أميركا هي الأخرى حزينة وهي التي تنظر إلى المنطقة وإلى الكون كله بعيون
إسرائيلية. لكن ما عسى إدارة أوباما أن تفعل؟ ربما تعلمت السياسة الأميركية
الكثير من إيران، فلم تنحز إلى مبارك وهو يترنح، محاولة إمساك العصا من الوسط.
في الحقيقة، لم تبلور إدارة أوباما موقفاً واضحاً؛ لأن تفجر الثورة باغت
الجميع، وإيقاعها المتسارع حبس الأنفاس، وملايينها الهادرة لم تبق لصناع القرار
أوراقاً للمناورة. بعض الزعماء العرب حاولوا إقناع أوباما باتخاذ موقف داعم
لمبارك، وذهب بعض الزعماء إلى مخاطبة أوباما بلغة: "لا تهن صديقنا". غير أن
أوباما وجد نفسه مضطراً إلى الإشادة بثورة الشباب المتعطش إلى الحرية، قائلاً
إن تاريخاً جديداً يتشكل في مصر. بالطبع، لم يقصد أوباما إهانة "صديقه"، وكان
بوده لو ظل هذا الصديق مرضياً رغبات "حبة القلب" إسرائيل. لكن ليس لأوباما من
الأمر شيء، "ومن يهن الله فما له من مكرم".
في عام 1977 نشرت مجلة تايم الأميركية قصة غلاف أبرزت صورة الرئيس أنور السادات
منحوتة على شكل هرم وتعليقاً يقول: القاهرة تتكلم..
لم تكن القاهرة هي من تكلم، بل السادات الذي قدم ماوصفه بـ "مبادرة السلام"،
فأتى بالعجائب.
لكن القاهرة تذهل العالم في هذه الأيام من عام 2011، فتعيد سرد الحكاية..وتتحدث
عن نفسها.