كنت دائماً أشعر بطرافة وصف مصر "بأم الدنيا"، ولا آخذه على محمل الجد،
لكنها اليوم تعلن أنها الأم الرؤوم للإنسانية، تنفض عنها ركام الزيف، وتغتسل
بدموع مناضليها ودمائهم، ثم ترش وردها على أصقاع الكون فتتداعى لها بالحنان
والعرفان. إنها مصر الحضارات والثقافات والآداب والفنون. مصر الجهاد والصمود
والإباء. إنها البلد الذي تكسرت على صخرة عناده كبرياء المغول الهمج، فردتهم عن
العالم الإسلامي بعد أن استباحوا فيه كل شيء، وأحرقوا الأخضر واليابس. مصر التي
قادت الأمة العربية منذ بواكير القرن العشرين، فمن نجاحات وانتصارات، إلى
إحباطات ونكسات، لكنها ظلت "الأم" التي يأوي إلى كنفها العرب، فإذا انتفضت دبت
في عروقهم الحمية، وإذا أغمضت عينيها (وقد فعلت على مدى أربعين عاماً) أووا إلى
كهوفهم وأغضوا على الضيم.
عندما كان العدو الصهيوني يمطر لبنان بالحمم والقذائف التي زودته بها الولايات
المتحدة الأميركية في صيف عام 2006 خرجت علينا كونداليسا رايس، وزيرة الخارجية
الأميركية آنذاك، لتعظنا عظة غير بليغة قائلة إنه من رحم هذا الركام وتلك
الأشلاء يولد "شرق أوسط جديد"، ولذا فإن علينا أن نتحمل الآلام، وأن نتلقى
الضربات، وأن نرضى بتقسيم المقسم وتفتيت المفتت، وكل ذلك "مقبول" و "مبرر"؛
لأنه بحسب تعبير الآنسة كوندي "فوضى خلاقة" تلد الديموقراطية والوئام. وقد رأى
العرب والعالم الثمرة الفاسدة للفوضى الخلاقة في العراق الذي أعادته أميركا
العظمى إلى عصر ما قبل الصناعة، وأتت على دولته من القواعد، وجزأت مجتمعه على
أسس طائفية، وشيدت داخل مدنه وقراه الجدر الشاهقة لتحبس الأنفاس وتخنق هواء
الحرية. كانت ديموقراطية هجيناً؛ حملاً كاذباً، ولم يكن الله ليصلح عمل
المفسدين. كانت يومها دعاوى "الشرق الأوسط الجديد" و "الكبير" و "الفوضى
الخلاقة" تتردد، وكأن الشعوب والحضارات وحركات التغيير والإصلاح سلع استهلاكية
تنتجها "فورد" أو "جنرال موتورز" أو "وستنغهاوس" أو حتى "مكدانلدز"، ثم يجري
تعليبها وشحنها إلى "الشرق الأوسط" الموغل في التخلف؛ الغارق في ثقافة
"الإرهاب".
غاب طيف رايس عن الأضواء، وانتفضت أوراق الياسمين في تونس من الجذور. كان أمراً
خارج الحسابات والمعادلات، بل خارج المنطق، ومصادماً لكل ما ضخته كتابات
الاستشراق عبر السنين من مفردات ورؤى تزدري العرب والمسلمين، وترمي ثقافتهم
بالجبرية والخنوع والرضا بالاستبداد. انتفضت تونس، وكانت مفاجأة ليس للعالم
الغربي وحده، بل للعرب أنفسهم، الذين ظن فريق منهم أنهم "ماتوا" وشبعوا موتاً،
فإذا هم ينهضون من الأجداث سراعاً، وإذا هم يسقطون "نمراً من ورق"، وكأنهم
يرددون: "وقل جاء الحق وزهق الباطل".
لكن إن كان التونسيون فاجأوا ما يعرف "بالمجتمع الدولي"، فإن المصريين أذهلوه
وأربكوه وأصابوه بالدوار وفقدان التوزان. لم تُر السياسة الأميركية في تاريخها
أكثر تخبطاً وهزالاً منها اليوم وهي ترى شباب مصر يعلنون الثورة ضد ما عملت
عقوداً على تأسيسه ورعايته، وهكذا "يذهب الزبد" و "يضل الله الظالمين"، و "يفعل
الله ما يشاء". أجل، ما يشاء هو، لا ما تشاء هي.. ومن هي في كون يصرفه مليك
مقتدر؟
ثورة مصر أغرب من ثورة تونس ومن الثورة الإيرانية ومن الثورة الفرنسية. ثورة
خارجة من رحم الظلم والقهر والحرمان. لقد كنا نقول (مخطئين) إن حسني مبارك نجح
في "تدجين" الشعب المصري، وإشغاله باللهاث خلف لقمة العيش، وإبعاده عن هويته
وانتمائه العروبي والإسلامي، فإذا كل ما بناه هذا الدكتاتور العجوز عبر عقود من
الزمن يتهاوى كالقش، وإذا هو مأخوذ وغير مصدق أن الشعب يعبر عن كراهية منقطعة
النظير له ولإرثه الفاسد، وكأنه في هذه اللحظات يردد عبارات أنور السادات عندما
أمطره خالد الإسلامبولي بالرصاص حيث تمتم في غمرة الصدمة قائلاً: "مش معقول..
مش معقول". ماذا ينتظر مبارك؟ هل سيصدق عندما تقتحم الجموع الغاضبة قصره فتخرجه
إلى الشارع وتسحله أمام عيون الأشهاد، ويصيح وقتها: "آمنت بالذي آمن به أهل
الكنانة"؟
الثورة المصرية ليس ثورة نخب ولا أحزاب ولا مثقفين بالضرورة. إنها ثورة
الجماهير العريضة الكادحة. إنهم الغلابة البسطاء يرسمون ملامح عهد جديد لا لمصر
وحدها، بل للعالم العربي الذي لم يغب عن مسرح التأثير إقليميا وعالمياً إلا بعد
أن توارت مصر العملاقة؛ همشها نظام مبارك وقزمها حتى أصبحت دولة من دون هوية
ولا كرامة. شباب مصر ينسجون قصة تتحدى الروائيين، ويصوغون ثورة تفاجىء
الخبراء، ويقدمون درساً في الصمود والمقاومة يبهر جميع مناضلي العالم. "الشعب
يريد إسقاط النظام"، أي أغنية تلك التي هتفت بها حناجر الملايين في ميدان
التحرير بالقاهرة، وفي الإسكندرية، والمنصورة، والسويس، وأسوان؟ أي لحظة مفصلية
تاريخية تلك التي يقف فيها العالم العربي على مفترق طرق، ويحبس الصهاينة
وحلفاؤهم فيها أنفاسهم فزعاً من انتفاضة لها ما بعدها، وربما تغير ما يعرف
"بالشرق الأوسط" إلى الأبد. يقول ابن خلدون: "إذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما
تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم وكأنه تحول من جديد". أجل، إنها لحظة تحول،
مهيبة وفريدة في آن.
مبارك لن يكون الوحيد الذي سيحزم حقائبه للخروج من المشهد العربي الراهن. لكنه
كبير القوم الذي علمهم التبعية والتواطوء وتنفيذ التعليمات وتقديم مصلحة الكرسي
على كل اعتبار. لذا فإن رفاقه من المحيط إلى الخليج مدعوون أكثر من أي وقت مضى
إلى تحسس مقاعدهم وتفقد حقائبهم، وهم يرون شباب مصر يكتبون الرواية من جديد،
ويعيدون القضايا إلى المربع الأول، ويرسمون ملامح عالم عربي جديد، فاتن كالصبح،
وساحر كعيون بنت المعز.
01-02-2011