02-02-2011 القدس العربي
الحركة الاحتجاجية في مصر واعدة، وحبلى بالمفاجآت وجديرة بالوصول الى هدفها
المتمثل بتغيير اوضاع هذا البلد العربي من وضعه المقزم الى حجمه الطبيعي الذي
يجعله في مصاف الدول ذات الشأن والموقف والتوجه والتأثير على المستويين
الاقليمي والدولي. ولا يستبعد ان يكون ديكتاتور مصر قد سقط مع نشر هذا المقال
خصوصا بعد الحشود المليونية يوم امس، في ميدان التحرير والمناطق الاخرى.
ثورة ابناء مصر تأتي في وقت كاد اليأس فيه يدب في نفوس الكثيرين، خصوصا من
الاجيال التي تعاقبت على السجون، وتجرعت وجبات التعذيب طوال عمرها. هذه الثورة
الشعبية جديرة بالنصر لانها تعبير عن رغبة شعب ونضال اجيال، ودماء شهداء، بل
معاناة امة كاملة. فمصر تمثل رأس هرم الامتين العربية والاسلامية، حجما واهمية
وموقعا استراتيجيا، وليس من المعقول ان تبقى في مؤخرة ركب التغيير الذي عصف
باكثر بلدان العالم في العقدين الاخيرين. وعند الحديث عن التغيير تجدر الاشارة
الى عدد من الحقائق:
اولها ان هذا التغيير تأخر كثيرا وساهم في ابقاء دول العالم العربي مهمشة في
معادلة الصراع السياسي مع الجهات التي تسعى لاحتلال اراضها او الهيمنة عليها.
ثانيها: ان ابناء الامة قادرون على النهوض بدورهم، وقد فعلوا، وقدموا التضحيات،
واحتجوا، وعذبوا واستشهدوا على مدى اكثر من نصف قرن. وقد حان الوقت لقطف ثمار
هذا النضال المتواصل من اجل الحرية والتقدم. ثالثها: ان التغيير كان مرفوضا
وممنوعا ومحرما من قبل القوى التي راهنت، وما تزال تراهن، على تغييب الشعوب
العربية عن ساحة الصراع مع قوى الاحتلال والظلم والنهب، لان هذه القوى الشريرة
لا تستطيع الاستمرار في خططها وجرائمها الا بوجود انظمة هشة تحتاج لدعمها من
غضب الشعوب. رابعها: ان التغيير تصنعه الشعوب، ولا يأتي من الخارج، خصوصا اذا
كان هذا الخارج متحالفا مع الانظمة ويعتبر تحالفه جانبا من الشراكة
الاستراتيجية. الولايات المتحدة والدول الغربية ما تزال حتى هذه اللحظة ترفض
لقاء رموز المعارضات العربية، لكي لا تغضب الحكومات، وتسكت عن الانتهاكات
البشعة لحقوق الانسان بكل صلافة. خامسها: ان تنامي ظاهرة العنف والارهاب اضعف
المعنويات الغربية بشكل كبير، فاصبح الساسة الغربيون يتشبثون باضعف المقولات
بشأن الحرب ضد الارهاب. فالمملكة العربية السعودية تقدم نفسها اليوم بانها 'رأس
الحربة' في تلك الحرب، وربما قدمت بعض معلومات حول بعض الاعمال الارهابية
المزمعة ضد اهداف غربية من قبل عناصر 'القاعدة' لاثبات تعاونها 'المهم' في مجال
مكافحة الارهاب. وهذا 'التعاون' يستعمل تبريرا للصمت الغربي على ما يجري في
المملكة من انتهاك لحقوق الانسان ومصادرة الحريات ورفض تحديث النظام السياسي.
سادسها: ان ارادة الشعوب لا تقهر، وان اجهزة الامن المحلية والقوى الخارجية لا
تستطيع قمع تلك الارادة اذا قرر المواطنون تغيير واقعهم. فمن كان يعتقد ان
الشعب التونسي سوف يكون قادرا على كسر حالة الجمود في الوضع العربي بثورة شعبية
منقطعة النظير؟
لقد ساهم التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في التصدي لمحاولات
التغيير، وما يزال يفعل ذلك، ويراهن على بقاء انظمة الاستبداد والقمع. واشنطن
لم تخف إصرارها على مقولات 'الاستقرار' و 'الامن' لتبرير دعمها المتواصل
لحكومات ديكتاتورية لا تتغير رموزها بل تتسابق لاثبات قوتها من خلال عدم
تغيرها. وما يزال حديث وزيرة الخارجية الامريكية السابقة، كونداليزا رايس، في
القاهرة في 2005 شاهدا على غياب اجندة التغيير برغم بعض التصريحات التي تبدو
ايجابية احيانا. يومها قالت رايس ان واشنطن كانت تعتمد مبدأ حماية الامن
والاستقرار على حساب الديمقراطية، ولكنها اكتشفت ان تلك السياسة لم تحقق ايا من
الهدفين، وانها سوف تركز على ترويج الديمقراطية. كان ذلك في عهد بوش الذي كان
يطرح شعارات لتبرير حربه ضد العراق. ومع ان تلك التصريحات ساهمت شيئا ما في
تخفيف القبضة الامنية لبعض الانظمة، ولكنها لم تكن سياسة ثابتة، بل تعبيرا عن
مصلحة وقتية سرعان ما انتفت الحاجة اليها. وبمجيء الرئيس الحالي، باراك اوباما،
عادت واشنطن مجددا الى سياسة الدعم غير المحدد للاستبداد، وغابت الشعارات
المحدودة حول التغيير عن اجندتها، فلم يعد هناك حديث عن الدمقرطة او الشرق
الاوسط الكبير، بل تكرس دعم الحلفاء العرب خصوصا في منطقة الخليج على حساب
مشاريع الديمقراطية وحقوق الانسان. واذا كانت الاهمية الاستراتيجية لمنطقة
الخليج في مقدمة الاعتبارات التي يطرحها الغربيون لتبرير ذلك الدعم، فان
الاعتبارات الاقتصادية الاخرى خصوصا الامدادات النفطية والعقود العسكرية
والتبادل التجاري من بين الاعتبارات المهمة الاخرى. يضاف الى ذلك استعداد هذه
الدول لدعم المشروع الغربي على محورين اساسيين: اولهما المحور الايراني حيث
يتواصل السجال حول المشروع النووي لطهران. وقد كشفت وثائق الخارجية الامريكية
التي نشرها موقع ويكيليكس التحريض السعودي والبحريني على ضرب ذلك المشروع قبل
ان يستفحل بتعبير الملك السعودي 'قطع رأس الافعى قبل ذيلها' و 'ان التعجيل به
اقل ضررا من تأخيره' بتعبير ملك البحرين. اما المحور الثاني فهو محور الصراع مع
'اسرائيل' حيث ان اغلب هذه الدول بدأ مشروع التطبيع مع قوات الاحتلال، ووقف ضد
المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. كما ان ما سرب مؤخرا عن موقف القيادة
الفلسطينية ازاء المستوطنات الاسرائيلية واستعدادها للتنازل عن الحق الفلسطيني
من اجل صفقة سياسية غير مضمونة، كل ذلك يشير الى نوعية الانظمة التي يدعمها
الغربيون في عالمنا العربي.
ايا كان الامر فان مصر تمثل الاختبار الاهم للموقف الغربي، فخسارتها لن تقل
اهمية عن خسارة ايران الشاه، بل ستكون اكبر لاسباب عديدة، اولها: ان سقوط
النظام المصري بثورة شعبية سوف يغير معادلات الصراع في الشرق الاوسط، لان اي
نظام ديمقراطي سيقوم، على اقل تقدير، بتجميد العلاقات مع الكيان الاسرائيلي وما
جاء في اتفاقات كامب ديفيد التي وقعت في 1979، ولن يكون طرفا في الحرب ضد
المقاومة الفلسطينية، وسوف يسقط الجدار العازل الذي بناه النظام المصري ضد رغبة
الشعب. ثانيا: ان مصر البوابة الواسعة للعالم العربي، وحدوث تغيير جوهري في
نظامها السياسي لن ينحصر بحدود ارض الكنانة، بل سيكون بداية لثورات متلاحقة في
بقية البلدان التي جمدت انظمتها السياسية على منظومات بالية واستعانت بالقمع
لترويض شعوبها. ثالثا: ان التغيير في مصر سوف يكون تسونامي سياسيا غير مسبوق
منذ اكثر من ثلاثين عاما في المنطقة، وستكون له آثار نفسية ايجابية على الشعوب
العربية، وقد يؤدي الى نقلة نوعية ليس في الممارسة السياسية فحسب بل في مجالات
التنمية والنهوض الحضاري الذي تخلف كثيرا برغم توفر اموال قارون الهائلة التي
استغلت لخدمة النزعات والرغبات الشخصية ولم تساهم في بناء الامة. رابعها: ان
التغيير في مصر سوف يحطم مقولات رسخت في النفوس من اهمها ان التغيير لا يحدث
الا بموافقة امريكا التي قال عنها الرئيس المصري السابق، انور السادات انها
'تمسك بـ 99 بالمائة من اوراق اللعبة'.
ان سقوط النظام المصري، وهو امر اصبح حتميا، سوف يكون ضربة موجعة للهيبة
الامريكية التي احدثت رهبة في نفوس المعارضين عقودا وأجلت التغيير فترة طويلة،
وخلقت مشاعر معادية للتحالف الغربي الذي يعتبر اليوم معاديا للعرب ومتحالفا مع
'اسرائيل' وداعما للاستبداد. عندها لن تكون ايران وحدها هي التي تحمل لواء
المقاومة ضد المشاريع الغربية في المنطقة، بل سيكون للشعوب العربية، في ظل
انظمة حكم جديدة تختارها بنفسها، دور في مواجهة تلك المشاريع. وسوف تجد واشنطن
ان ثلاثة عقود من محاولات محاصرة ايران قد حسمت لغير صالحها وان الحرب ضد ما
يسمى 'تصدير الثورة' لم تؤد الى نتائج ملموسة.
مشكلة هذه القوى انها تتحرك بدافع 'الشعور بالعظمة'، فتعتقد ان بامكانها بسط
نفوذها وسيطرتها بدون حدود اينما كانت. لقد تحولت الولايات المتحدة الى كيان
استبداد طاغ، فاسقطت انظمة، واقامت اخرى، ولم تراع مشاعر الشعوب يوما. ففي
شباط/فبراير 1986 مارست الولايات المتحدة ضغوطا على هايتي لازالة حاكمها جان
كلود دوفالييه، وحدثت ثورة شعبية اسقطت نظامه بسبب الفقر وسوء الاوضاع
الاقتصادية وانتشار الجوع. وبعد 25 عاما عاد مؤخرا من منفاه في فرنسا التي
استقبلته 'بشكل مؤقت'، واعتقل من قبل السلطات في بلده. وفي كانون الاول/ديسمبر
1989 اجتاحت القوات الامريكية بنما واستسلم رئيسها، مانويل نورييغا لها في
كانون الثاني/يناير 1990 وحاكمته بتهم الاتجار بالمخدرات والابتزاز وغسيل
الاموال، وسجنته عشرين عاما، واطلقت سراحه العام الماضي وسلمته الى فرنسا ومنها
عاد الى بلده الشهر الماضي. وتدخلت الولايات المتحدة في الساعات الاخيرة من حكم
ماركوس في 1986 لاقناعه بالخروج في اثر ثورة شعبية ضد نظامه الاستبدادي. حدثت
هذه التدخلات في غياب قرار دولي بذلك من مجلس الامن او رغبة واضحة من الامم
المتحدة التي تسعى واشنطن لتهميش دورها. وبعد حوادث 11 ايلول/سبتمبر تدخلت
القوات الامريكية في افغانستان واسقطت حكومة طالبان. وكان اسقاط نظام صدام حسين
آخر حلقات التدخلات الامريكية.
صحيح ان اغلب تلك الانظمة كان فاسدا، لقد كشفت التدخلات الامريكية تكشف امورا
عديدة: اولها انها انتقائية، ولا تمثل ظاهرة عامة، فهي لا تستهدف الا الحكومات
التي تخالف سياساتها او تتمرد على اوامرها، ثانيها ان التدخل يأتي في الساعات
الاخيرة لكي لا تخسر نتائج التغيير المحتوم، وبالتالي فانها انتهازية غير
اخلاقية ومحاولات لقطف ثمار ما زرعه الآخرون بدمائهم، ثالثها: ان التدخلات بتلك
الاشكال السافرة تهمش الدور الاممي وتصادر الشرعية الدولية، وتكرس هيمنة القطب
الواحد الذي يتحرك خارج الاجماع الدولي. رابعها: ان النخب السياسية الجديدة
كثيرا ما تجد نفسها ملزمة بالاجندة الامريكية الامر الذي يهمش الاجندة المحلية
ومشاريع الاصلاح والتحرر والافلات من هيمنة القوى الخارجية. خامسها: انه يكرس
مقولة عجز الشعوب عن احداث التغيير، الامر الذي يؤدي الى تكريس الواقع السياسي
المعاش بمرارته، وكثيرا ما عادت الامور تحت الرعاية الامريكية الى أسوأ مما
كانت عليه قبل التغيير. سادسها ان التغيير المنشود من قبل الجماهير لا يتحقق
الا في جوانبه الشكلية، بينما كثيرا ما تؤدي المساومات من وراء الكواليس في
الساعات الاخيرة الى إحكام القبضة الامريكية على الامور مجددا، ومحاصرة
التطلعات التحررية لدى الجماهير الثائرة.
واشنطن تدرك هذه المرة ان الوقت ليس في صالحها وان الامور تسير بغير الاتجاه
الذي تريد. فهي ترى حظوظها المتناقصة في لبنان متمثلة باسقاط حكومة سعد الحريري
بينما كان يلتقي الرئيس اوباما وفريقه، ويعتبر ذلك اهانة للبيت الابيض واضعافا
لهيبته واظهارا لعجزه عن ادارة ملفات المنطقة بالشكل المعهود. فواشنطن فشلت في
منع اسقاط حلفائها اللبنانيين، بينما استطاع السوريون وحلفاؤهم اللبنانيون
ترجيح الفريق المقاوم لـ 'اسرائيل' وإفشال محاولات سحب سلاح المقاومة. وفي تونس
تبذل واشنطن وحلفاؤها اقصى الجهود لمنع سقوط النظام السابق كاملا، وتسعى
لمحاصرة حجم التغيير بحصره في شخص الرئيس ودائرته العائلية الضيقة، مع اطلاق
العنان للعناصر الاخرى التي شاركته في احكام قبضته على الامور على مدى ربع قرن
تقريبا. ولن تكتمل الثورة التونسية الا اذا انتقلت من مرحلة اسقاط زين العابدين
بن علي، الى مرحلة اسقاط نظامه، فاذا كانت واشنطن قد تخلت عن ديكتاتور تونس
فانها لم تتخل عن نظامه بعد. اما نتيجة الاحتقان الثوري المتواصل فيحددها مدى
صمود الثوار ورموز المعارضة في الضغط على عناصر النظام السابق الذين يصرون على
البقاء برغم الرفض الشعبي لهم. والامر نفسه يتكرر في مصر، وربما اليمن والاردن
والبحرين، والواضح ان الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حماية الرئيس مبارك
الذي قضى في الحكم قرابة العقود الثلاثة وأمعن في الاستبداد حتى سخر الانتخابات
البرلمانية لصالح حزبه وألغى مرشحي الآخرين. مع ذلك لم تحرك واشنطن ساكنا،
ولكنها سعت في الساعات الاخيرة للنأي بنفسها عن شخص الرئيس وليس عن نظامه،
وكذلك فعلت بريطانيا والمانيا، على امل الاحتفاظ بشيء من الصدقية مع النظام
المستقبلي لمصر، كبرى الدول العربية، وأهمها في مجال الصراع مع الكيان
الاسرائيلي. برغم ذلك فالامور تسير نحو حسم الموقف ضمن ثورة شعبية تزداد رقعتها
تدريجيا وتتحول الى بعبع جديد يقلق الامريكيين ويضطرهم لاعادة حساباتهم بما
يحفظ مصالحهم. وليس مستبعدا ان تقدم واشنطن على خطوات تبدو تراجعية في الوقت
الحاضر على امل العودة لاحقا من منافذ اخرى.
المعركة في مصر حسمت، كما يبدو، لصالح الارادة الشعبية. ويعتبر وجود الدكتور
محمد البرادعي عاملا مطمئنا بانتقال سلمي للسلطة، خصوصا بعد موافقة جماعة
الاخوان المسلمين، كبرى الحركات المعارضة، على انابته للتحدث باسم المعارضة.
الامر المؤكد ان الليالي الشتوية الطويلة والمظلمة التي خيمت على العالم
العربي، توشك على الانتهاء، وان هذه الشعوب المضطهدة تتأهب لربيع التغيير
بارادة ووعي وأمل. وعلى امريكا والغرب ان يستمعوا، ولو مرة واحدة، لصرخات
الشعوب المطالبة بالحرية، فلعل في ذلك ما يحفظ بعض مصالحها، بعد تحالفها غير
المقدس مع قوى الظلام والاستبداد الذي استمر عقودا. وكما غاب القمر الامريكي عن
سماء دول امريكا اللاتينية، فالواضح انه دخل المحاق في منطقة الشرق الاوسط،
وعلى امريكا التأهب لدفع الفواتير السياسية الباهظة لدعم الاستبداد والظلم و
الاحتلال، لان الوضع هذه المرة تغير جوهريا. فمصر بوابة التغيير للعالم العربي
الذي رزح عقودا تحت الاستبداد التي رعته واشنطن وحلفاؤها، وحان الوقت لسقوط ذلك
الكابوس الفاسد والظالم والمستبد، وهنيئا لشعب مصر ثورته المظفرة التي لن يكون
العالم العربي بعدها كما كان قبلها. انه عصر الشعوب فلنتحتضنه بحرارة.