26-1-2011
ربما فاجأت الثورة التونسية الكثيرين، اما نظرا لتسارعها ام لشمولها، ام
لنجاحها في اسقاط رأس النظام، ولكن الامر المؤكد ان هذه الثورة تأخرت 23 عاما،
وبذلك اقترف الرئيس المخلوع إثمين: الحؤول دون حدوثها في تشرين الثاني/نوفمبر
1987 بانقلابه على حكم الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة، والإمعان في تدمير اوضاع
البلاد بشكل متواصل سواء بالهيمنة الفردية على الحكم ام مصادرة الحريات ام
الإثراء غير المشروع على حساب الفقراء والمحتاجين، ام بالانتهاكات الفظيعة
لحقوق الانسان.
المراقبون والمحللون والسياسيون الغربيون يحصرون نظراتهم بحوادث الساعة،
ويتجاهلون دور الغرب في تمكين انظمة الاستبداد والقمع على الشعوب العربية
والاسلامية. هؤلاء اما يدعمون الحاكم الجائر بالمواقف السياسية او الخبرات
الامنية، او يتغاضون عن هفواته ويصكون اسماعهم عن سماع استغاثات ضحاياه في غرف
التعذيب. هذا النفاق السياسي له ثمنه، وقد بدأ الغرب يدفع بعض فواتيره. فعندما
انقلب بن علي، عندما كان رئيسا للوزراء، على رئيسه بورقيبة، صفق الغربيون له،
واعتبروه سدا مانعا من وصول الاسلاميين الى الحكم، ودعموا افراطه في علمانيته،
ولم يحتجوا على استمرار تدخل النظام في الحياة الشخصية ومن ذلك إحكام القبضة
على المساجد وحظر الاحزاب الدينية، واستمرار منع الحجاب الاسلامي، على غرار
سياسات العسكر في تركيا. وما ان سقط هذا النظام تحت ضربات ضحاياه حتى فتح هذا
الغرب ملفاته الخاصة بالنظام التونسي، التي يمتلك مثلها عن كافة الانظمة
العربية. فلوثائق التي كشفها موقع 'ويكيليكس' والتي حررت قبل عامين وصفت اوضاع
تونس المتردية في مجال الحريات وحقوق الانسان والسياسات الاقتصادية بانها
'تفتقر للشفافية'. السفير الامريكي لدى تونس، غوردون غري، كما هم بقية السفراء
الامريكيين في العواصم العربية الاخرى، يعرفون مدى فساد تلك الانظمة، ولكنهم
يمارسون التعتيم المطلق على ذلك، ويسعون دائما لخطب ودها. وفي الحالات النادرة
التي يعبرون فيها عن قلقهم ازاء الاوضاع، فانهم يردفون ذلك بوعود بالشراكة
السياسية والمالية مع الغرب، الامر الذي يشجع الانظمة على الامعان في سياساتها
القمعية، خصوصا اذا مورس القمع ضد من يعتبرهم الغرب 'اسلاميين'.
ثورة تونس اقضت مضاجع هذا الغرب، وكان مستعدا لها هذه المرة، برغم تسارع
حوادثها وتطوراتها. فما ان اتضح لهم استحالة الحفاظ على الوضع الراهن في ذلك
البلد المغاربي، حتى سارعوا للتضحية برأس النظام آملين الحفاظ على النظام نفسه.
الرئيس المخلوع ارتكب حماقة كبيرة، وهذا ما تفعله انظمة الاستبداد عادة،
باستعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين وقتل المئات منهم. ومن الحقائق التي لا
يمكن القفز عليها ان سرعة سقوط النظام ترتبط بمدى قمع المعارضين، وان إراقة
الدماء على ايدي الشرطة او القوات المسلحة، تمثل بداية نهاية نظام الحكم في اي
بلد. وهذا ما حصل في تونس. فاذا كان اعتقال الآلاف على مدى ربع قرن لم يسقط
النظام، فان ازهاق الارواح في غضون شهر واحد، كان كافيا لقلب المعادلة والاخلال
بموازين القوى داخل البلاد وخارجها. فكان على النظام ان يسقط، وهذا ما ادركه
الغربيون الذين سارعوا، بتوافق مع حلفائهم الاقليميين الذين احتضنوا الرئيس
المخلوع، لدعم عناصر النظام الرئيسية وحثها على اطلاق الوعود بالاصلاحات واطلاق
الحريات. التونسيون هذه المرة، كانوا اكثر وعيا، وهو وعي يتأصل بالتجربة
والمعاناة والسجون. ويخطىء من يعتقد بان المعاناة تقضي على الارادة وتقتل
المعنويات الى الابد. فالتعذيب الذي يمارس بحق سجناء الرأي انما يزيد اصرارهم
ويثبت مواقفهم، وهذا ما أكدته حوادث تونس ابتداء باعتقالات الثمانينات ومحاكمات
زعماء حركة النهضة مثل بالشيخ راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحمادي الجبالي
وسواهم، وصولا الى ما تعرض له الصحافي توفيق بن بريك الذي سجن ستة شهور
لانتقاده بن علي. وهذا ما تؤكده ايضا معاناة الاخوان المسلمين في مصر على أيدي
اجهزة الامن التي تحمي نظام الرئيس حسني مبارك. وما المحاكمات الجارية في
البحرين هذه الايام لعشرات السجناء السياسيين الذين تعرضوا للتعذيب الشديد الا
تأكيد لحقيقة ان التعذيب ليس وسيلة فاعلة لوقف الحركات الاحتجاجية. يضاف الى
ذلك ان الفساد المالي والاداري المستشري في انظمة الحكم في العالم العربي عامل
مهم في تأجيج مشاعر الغضب لدى الفقراء والمحرومين. فإقدام بطانة الرئيس في
الساعات الاخيرة قبل سقوطه، على نهب طن ونصف من الذهب من البنك المركزي تصل
قيمتها الى اكثر من ستين مليون دولار جريمة تمت في وضح النهار مع سبق الاصرار
والترصد، وكشفت مدى صلافة هؤلاء الحكام. و لكن ماذا عن استلام امير سعودي رشوة
من شركة اجهزة الفضاء البريطانية (بريتيش ايروسبيس) بلغت قيمتها على مدى عشرة
اعوام اكثر من ملياري دولار؟ هل سجل التاريخ رشوة بهذا الحجم؟ وماذا عن استيلاء
بعض الحكام على نصف اراضي بلدانهم واكثر من 90 بالمائة من سواحلها؟
في الاسبوعين الماضيين كتبت آلاف المقالات حول الثورة التونسية، خصوصا ان
فصولها ما تزال تكتب يوميا مع استمرار الصراع بين رموز النظام السابق الذين
يصرون على اجهاض الثورة بالاحتفاظ بمناصبهم، والثوار التونسيين، والكثيرون منهم
من الطبقة الوسطى. واعادت تلك المقالات والتنبؤات اجواء الثورة الاسلامية في
ايران في مثل هذه الايام قبل 32 عاما عندما كان هم الغربيين منع انتشار عدوى
الثورة الى بقية البلدان العربية التي لا تقل انظمة حكمها في الاستبداد والقمع
والفساد عن نظام الشاه. يومها كثر الحديث حول مقولة 'تصدير الثورة' التي
استعملت لتبرير الاجراءات المعادية للجمهورية الاسلامية. واليوم يتكرر ذلك
بالحديث عن احتمالات انتشار عدوى الثورة التونسية الى البلدان المجاورة، خصوصا
دول المغرب العربي. هذا مع العلم ان اوضاع دول المشرق العربي لا تقل سوءا عن
سواها. فاذا كانت الجزائر والمغرب تمارسان قدرا محدودا من الانفتاح السياسي،
فتسمحان بالعمل الحزبي وتجريان انتخابات شبه منتظمة لانتخابات لبرلمانات محدودة
السلطات، فان اغلب دول المشرق ما تزال تمارس الاستبداد على اوسع نطاق، فلا
احزاب، ولا انتخابات (وان وجدت فهي شكلية وعديمة الجدوى)، ولا تعددية ولا تداول
على السلطة ولا رقابة مالية او ادارية حقيقية. ويكفي ان رئيس وزراء احدى هذه
البلدان ما يزال محتفظا بمنصبه منذ اربعين عاما، حتى لكأن الامة عقمت ان تجود
بمثله برغم تعاقب الاجيال. الغربيون لم يخفوا خشيتهم من ظاهرة 'الدومنة' التي
تتساقط الرؤوس فيها تباعا بعد سقوط احدها. ولكن هؤلاء الغربيين ضالعون الى
النخاع في دعم الاستبداد بدعوى ان هذه الانظمة تحقق لهم عددا من الامور: اولها
انها شريكة في ما يسمى 'الحرب ضد الارهاب'، وهو ارهاب يتكرس باستمرار الاستبداد
والقمع، وثانيها: انها تحول دون وصول 'الاسلاميين' الى الحكم، وثالثها: انهم
يتعاونون معها في المجال الاقتصادي بشكل فاعل، ويضمنون لها تدفق النفط
بالمعدلات المناسبة، رابعها: ان وجود هذه الانظمة يمثل، في نظرها 'عامل
استقرار'. اما العامل الخامس فيتمثل بان استمرار هذه الانظمة يمثل ضمانا امنيا
للكيان الاسرائيلي، وانها مستعدة، عندما تحين الظروف المحلية والاقليمية
المؤاتية، للتطبيع مع ذلك الكيان.
وربما خدع البعض بالتصريحات التي صدرت عن البيت الابيض في بداية الثورة
التونسية، ومنها 'إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب المجتمع الدولي للشهادة على
هذا النضال الشجاع من أجل الحصول على الحقوق العالمية التي يجب أن نحافظ عليها،
وسنذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى لإسماع صوته'. لكنه دعا الزعماء
الجدد، وهم اركان نظام بن علي، الى الالتزام بوعود الاصلاح التي طرحها الرئيس
المخلوع سابقا. وفي ذلك سعي لتثبيت الامر الواقع، وقطع الطريق على من يسعى
لاسقاط النظام كاملا. ومع إصرار الثوار على اقتلاع النظام السابق من جذوره
واستهداف عناصره التي اصبحت تمسك بالحكم، اتخذت المزيد من الاجراءات من بينها
إعلان اللجنة المركزية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يتزعمه الرئيس
التونسي 'المخلوع'، زين العابدين بن علي، حل نفسها، بعد استقالة معظم أعضائها
الرئيسيين من بينهم الوزراء في حكومة محمد الغنوشي. ولكن هل يكفي ذلك لاحداث
التغيير المنشود؟ المشكلة ليست في الحزب وتسميته، بل في الافراد الذين يديرونه
ويصممون سياساته، فاذا سمح لهم بالحفاظ بمناصبهم، فما الذي تغير؟ النظام لم يكن
شخصا، وان كان الشخص قطب الرحى فيه. هؤلاء الاشخاص شركاء في كل ما ينسب للنظام
السابق من فساد مالي او اداري، وما ارتكب من انتهاكات لحقوق الانسان. وبقاؤهم
في مناصبهم يعني ان الثورة لم تحقق اهدافها لان الفساد سوف يعود. فالمشكلة ليست
في الدساتير والقوانين فحسب، بل في الاشخاص انفسهم. فقد يكون الدستور والقانون
ممتازا، ولكن تطبيقاته سيئة. فمن يشارك في نظام جائر ويمارس الجور والظلم لا
يمكن ان يتحول الى عنصر اصلاح عندما تتغير الظروف، ولا يستحق ان يؤتمن على حقوق
الناس واموالهم واعراضهم. وحسنا فعل الوزراء المحسوبون على بعض احزاب المعارضة
عندما استقالوا من مناصبهم لكي لا يكونوا شهداء زور على حكومة محسوبة على
النظام البائد. هذه الحكومة ترددت اياما قبل اصدار قرار العفو عن السجناء، ولم
تفعل ذلك الا مكرهة تحت ضغوط الشارع التونسي الثائر واصرار المعارضين في الداخل
والخارج. ولا يستبعد ان ينقلب مسؤولو هذه الحكومة على قراراتهم لو استتب الامر
لهم مجددا، كما فعلوا في السابق.
ان على الغرب ان يحترم ارادة الشعب التونسي وحقه في تقرير مصيره وفق دستور
يكتبه ابناؤه وانتخابات نزيهة تحت اشراف دولي لاختيار نظام الحكم الذي يرتئيه.
لقد حان الوقت لاعادة الحق السياسي المسلوب لاهله الشرعيين، وهم اهل تونس جميعا
بدون استثناء. اما المعارضون الذين اكتووا بنار النظام السابق، فيستحقون
التقدير والاحترام لانهم صبروا وصابروا طوال العقود الماضية، وقضوا حياتهم اما
في السجون او المنافي. وما اكثر معاناة المعارضين العرب الصادقين في معارضتهم
ومواقفهم، فهم ضحايا الانظمة العربية المتواطئة جميعا وليس حكومات بلدانهم
فحسب. فالشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، لم يكن مستهدفا من نظام بلده
فحسب، بل كان ممنوعا من دخول الكثير من البلدان العربية، وقد منع من حج بيت
الله الحرام منذ كانون الاول/ديسمبر 2007، ولم يسمح له باداء فريضة الحج او
العمرة بعد ذلك. هذا التسلط من بين اهم عوامل بقاء الاستبداد والقمع في العالم
العربي، وهو المشروع الوحيد الذي يجتمع عليه الحكام العرب، فيما يختلفون على ما
سواه. من هنا ففي الوقت الذي تمكن فيه ابناء تونس من كسر الطوق النفسي الذي قوض
حركة الشارع العربي منذ عقود، تبذل هذه الحكومات جهودا بدون حدود لمنع آثار تلك
الثورة من الوصول اليها. وبرغم توفر وسائل التواصل وانتقال الخبر، فقد تمادت
اجهزة الاعلام العربية والغربية في مواقفها التي تهدف لعدد من الامور في الوقت
الحاضر من بينها حصر نطاق التغيير في تونس واختزاله بدائرة ضيقة تشمل الرئيس
المخلوع واقرباءه، والحيلولة دون وصول العناصر ذات المشروع الاسلامي والقومي
والوطني الى السلطة، تشكيل تحالف غير مقدس من انظمة الحكم الاكثر استبدادا في
العالم العربي للحيلولة دون حدوث هزات كبرى في النظام العربي المهترىء الذي لا
هوية له سوى الاستبداد والقمع والديكتاتورية والفساد. وبرغم اساليب الخداع
والتضليل والتشويش التي تمارسها الدول الغربية وهي تسعى لاستيعاب هذا السونامي
السياسي في المنطقة العربية الحساسة، فانها تبدو غير مطمئنة لنتائج تلك
الاساليب، خصوصا مع استمرار الشارع التونسي في الحراك. ولذلك اصبح مطلوبا من
رموز المعارضة التونسية التواجد على وجه السرعة على الارض والتوجه من المنافي
الى بلادهم لمنع الالتفاف على مطالب الجماهير، خصوصا مع التدخل الامريكي الذي
تمثل بارسال جيف فيلتمان، نائب وزير الخارجية الى تونس، بهدف افراغ الثورة من
محتواها، ومنع حدوث تغير جوهري في الهوية السياسية لهذا البلد العربي المسلم.
ان ما يجري في تونس ليس قضية خاصة بذلك البلد العربي الذي ابتلى بالاستبداد منذ
عقود. بل انه قضية الشعوب العربية التي تنفست الصعداء عندما كسر التونسيون جدار
الصمت وكسروا الاغلال، وتمردوا على نظام فرض نفسه بالنار والحديد وتمادى في
القمع والفساد وانتهاك حقوق الانسان. هذه الانتفاضة وجدت اصداء لها في اغلب
العواصم العربية، كما تؤكد الملتقيات والمدونات الالكترونية، التي ابتهجت لهذه
الصحوة المدوية التي لم يحدث مثلها منذ الثورة الاسلامية في مثل هذه الايام من
العام 1979. ولذلك اصبح انتصار هذه الثورة هدفا منشودا لكافة الشعوب ليس لاهل
تونس وحدهم، برغم محاولات القوى المعادية للتغيير افشالها او تحجيمها او تحديد
مدى نجاحها. مطلوب من هذه الشعوب ان تواصل دعمها النفسي والسياسي لثورة تونس،
لكي لا تتوقف في نصف الطريق. فالمطلوب ليس التضحية بفرد واحد مع افراد عائلته
بل اسقاط النظام بكافة عناصره، وتقديم مرتكبي جرائم التعذيب والسرقة الى القضاء
العادل. ثورة تونس بدأت والمطلوب ان لا تتوقف حتى تقيم نظاما عصريا عادلا يمثل
طموحات أهل تونس ويكسر هواجس الخوف التي زرعها اعداء الامة في نفوس ابنائها.
فالنهضة لا تتحقق الا بالحرية وحق تقرير المصير واحترام الانسان وحقوقه
والاعتراف بقداسة وجوده. وان أهل تونس، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي واخوته،
قادرون على اقامة نظام عصري منفتح ومعتدل، خصوصا بعد ان اكسبتهم سنوات السجون
ثم المنافي تجارب لا تقدر بثمن. وليعلم هؤلاء ان امة العرب والمسلمين تتطلع
اليهم لتقديم نموذج جديد في السلطة والحكم، يحقق استقلال البلاد من جهة، ويعتمد
على سواعد ابنائها للعطاء والبناء والرقي في اجواء تسودها الحرية والعدالة
والشورى.