مركز القدس للدراسات السياسية 26-01-11
ما إن لاح في الأفق أن سعد الحريري سيغادر موقع رئاسة الحكومة، حتى صدرت
الأوامر لألوف "المحتقنين" مذهبيا من اللبنانيين السنة: خرجوا إلى الشوارع
زرافات ووحدانا، قطعوا الطرق والشواع، أحرقوا الإطارات، اطلقوا العيارات
النارية في الهواء، تهجموا على الصحفيين، هاجموا فريق "الجزيرة" وكادوا يضرمون
النار بهم، بعد أن أضرموا النار بسيارة البث، هاجموا صحفيين وإعلاميين آخرين،
أطلقوا الهتافات الغاضبة، ووجهوا السباب والشتائم لحزب الله وحسن نصرالله ورئيس
الوزراء المكلف نجيب ميقاتي، تهددوا وتوعدوا بحرب مذهبية مفتوحة ضد ولاية
الفقيه والمشروع الفارسي و"جنجويد" الضاحية الجنوبية.
ساعات قلائل فقط، مرّت على سقوط الحريري عن عرش رئاسة الحكومة، كانت كافية
لإسقاط كل الأقنعة والزيف والشعارات المفبركة: عن "العبور إلى الدولة" واحترام
الدستور والمؤسسات" والمعارضة الديمقراطية" و"الفريق الحضاري" في مواجهة دهماء
حزب الله وجمهوره الشمولي، سقطت كل الشعارات الاستعلائية العنصرية التي اطلقها
هؤلاء ضد نصف اللبنانيين، وصوروهم كما لو كانوا جنساً آخر من البشر، أقل تمدناً
وتحضراً، مع أن ما شهدنا في شوارع لبنان أمس واليوم، يشي بخلاف ذلك.
من بعدي الطوفان، هكذا نطق لسان حال الحريريون والمستقبليون والكتائبيون
والقواتيّون...إما نحن أو الخراب...إما لبنان برئاسة الحريري أو "غزة ثانية"
برئاسة ميقاتي...ساعات قلائل كانت كافية لإطلاق طوفان من الهذيان الطائفي
والمذهبي، وترك الغرائز البدائية تفعل فعلها في مختلف الشوارع والأزقة.
ولولا رباطة جأش الجمهور الآخر، وإحساسه بأنه كسب معركة "الاستشارات الملزمة"،
لكان الطوفان فعلاً...لو نزل الشارع مقابل الشارع، والغاضبون مقابل العاضبين،
لو أطلق العنان للغرائز مقابل الغرائز، لحدثت المذابح وسالت الدماء واشتعلت
الحرائق، فالمليشيات استيقظت على هدير التجييش المذهبي والتحريض على "سلاح
الغدر" والاستنجاد بكل شياطين الأرض ضد الشقيق في الوطن...والعمائم التي رفعت
قميص عثمان، كانت تبحث عن الكثير من الدماء التي تلوّن بها وجه الأرض
والسماء...والمليشيات النائمة والأجهزة الأمنية الموازية وقفت على أهبة
الاستعداد للحظة الضغط على الزناد، ولولا تدخلات الإقليم، لولا علم هؤلاء
اليقيني بأن خسارتهم في الخنادق والميادين لن تقل فداحة عن خسارتهم في
"الاستشارات"، لحصل ما لا يحمد عقباه.
لا يمكن لمصير بلد، أن يرتبط بشخص، أياً كان هذا الشخص، فما بالكم حين يكون
شخصاً عديم التجربة ومعدوم الكاريزما...لا يمكن لصراع الطوائف والمذاهب أن يسمح
بتحويل الناس إلى قطيع يتحرك بالريموت كونترول...لا يمكن للتجييش المذهبي أن
يكون سببا في تطليق العقول والضمائر والإرادات الحرة والمستقلة، لشعب عرف عنه
أنه من أذكى شعوب المنطقة وأكثرها حيوية وإبداعاً.
لبنان يدخل عتبة جديدة مع الرئيس المكلف، إن لم يجنح الحريري والمستقبل لخيار
حكومة انقاذ وطني، فقد تكون "حكومة التكنوقراط" واحدة من الخيارات والبدائل
المتاحة، في كل الأحوال سيكون للبنان حكومة، وبخلاف ما يقال، أعتقد أن هذه
الحكومة ستشكل قريباً، ولن تأخذ المدى الزمني الذي استغرقه تشكيل حكومة الحريري
الأولى، لكن ذلك لن يوقف الاحتقان والاستقطاب، ولن يحل المشكلة.
كيف ستتعامل حكومة ميقاتي مع المحكمة الدولية، ملف شهود الزور، الفساد المتراكم
الذي يزكم الأنوف، التعيينات الكبرى، فرع الأمن والمعلومات المحسوب على الحريري
والمستقبل، إلى غير ما هنالك من ملفات، يكفي كل واحد منها أن يكون شرارة لإشعال
فتيل الحرب الأهلية.
لبنان على المفترق، ومن حسن طالعه، أن اللاعبين الكبار منشغلين عنه، ولا يريد
أي منهم – ربما باستثناء إسرائيل – إضرام نار حرب أهلية جديدة فيه، والمأمول أن
يخرج هذا البلد العزيز والجميل، من أسر المصالح الفردية والعائلية والمذهبية
والطائفية، لنخبه الحاكمة والمتحكمة، وأن تتاح له فرص استئناف حياته كالمعتاد،
فكيفيه ما مر به من كوارث وويلات، خربت اقتصاده وشرّدت أبنائه، ولم يثر جرائها
سوى نفر قليل من "قططه السمان".