تزايدت الحاجة الى النفط في الخمس عشرة سنة الأخيرة حتى بلغت ضعف ما كان
يحتاجه العالم قبل عشرين عاما، وأصبح التعامل مع الشركات والدول المنتجة للنفط
عملية سياسية أكثر مما هي عملية تجارية لسلعة تباع وتشترى و قد اجج هذا الحذر
في التعامل مع المنتجين للنفط التخوف من استخدامه كأداة ضغط سياسية تلحق الضرر
بالجانب الآخر كما حصل ذلك في السبعينات.
فما هي حقيقة هذا التخوف؟ وما هي سلبياته على الأطراف المختلفة وماهي مرئيات
المنتجين والمستهلكين في استخدام النفط كسلاح ضغط؟
يعلم الذين يعملون في مجال النفط ان عملياته من بداية التنقيب عنه الى استخراجه
وتكريره أو توزيعه، عمليات علمية معقدة ومحسوبة بدقة، وتكلف الكثير من الأموال،
وتدخل فيها الكثير من التقنيات العالية والتي ليست بالضرورة موجودة عند معظم
المنتجين، وهذا هو السبب الذي يدعو الدول المنتجة الى الترحيب برؤوس الأموال
والخبرة والتقنية الأجنبية، والى مشاركتهم أو اعطائهم الإمتيازات. وبالتالي فإن
المحتكر لسوق النفط ليس فقط المنتج ولكن المشارك في الإنتاج أيضاً، وهو كما
اسلفنا (شركات رأس المال والخبراء وشركات التقنية والتصنيع وقطع الغيار وغيرها)
اذ ان هذه جميعا مشاركة في عمليات الإستخراج والتصنيع، وهي مشاركة في الربح
والخسارة، وهي كما غيرها من الشركات تتطلع الى ربح سريع وكثير، ولا يتحقق ذلك
الا بأسعار مرضية واستمرارية للإنتاج وبيعه وإيصاله الى المستهلك بشكل ميسر،
وهذا هو ما يحدوها الى عمل اتفاقيات تتضمن بنوداً ملزمة للأطراف يضمن للمشاركين
حقوقهم خلال سنوات الإنتاج.
فتقييد الكثير من المنتجين بهذه الإتفاقيات يضيع عليهم كحكومات مقدرتهم التامة
في ايقاف عملية ضخ النفط الى المستهلك، والا ستترتب عليها استحقاقات مالية
كبيرة على الحكومة، وهذا لا يمكن ضمن الوضع الحالي لإقتصاديات معظم الدول
المنتجة.
من يستطيع الضغط في سوق النفط؟
كانت دول مجموعة الأوابك ( الدول العربية المصدرة للنفط) تخلق ضغطا محتملا
وكبيرا على سوق النفط العالمي اعتماداً على حجم حصتها وضعف المنافس من التجمعات
الإقتصادية الأخرى، الأمر الذي جعل ردة الفعل في العالم الغربي من تلك
الإحتمالات سريعة ومؤثرة، وجعلته ينفذ سياسات صارمة جدا حول الطاقة، وهو الذي
حداها الى توجيه الكثير من الأموال لبحوث الطاقة وترشيدها ومن أمثلة ذلك:
ـ زيادة المخزون الإستراتيجي لدى الدول من الخام (يصل في بعض الدول الى 120
يوما) وهذا يعطيها فسحة للتحرك والضغط السياسي والإقتصادي على الدول التي
تستخدم البترول كسلاح.
ـ الإعتماد على مصادر اخرى للطاقة مثل مصاب المياه والطاقة النووية لتوليد
الكهرباء، والبحوث المركزة لتحويل الطاقة الشمسية الى طاقة فاعلة لإستخدامها في
الآلات الميكانيكية والإستخدامات المنزلية.
ـ ترشيد استخدام الطاقة على المستويين المنزلي والصناعي بوضع سياسات اعلامية
ومالية وضريبية مؤثرة.
ـ تركيز البحوث العلمية في تقليل استهلاك الآلات للطاقة الى ادنى حد ممكن وجعله
يتناسب مع قيمة البيع ( انظر الى السياسة الأمريكية في صناعة السيارات مثلا).
ـ قيام الشركات الكبرى في البحث عن بدائل نفطية بعيدة عن دول الأوبك وبعيدة عن
منطقة الشرق الأوسط (الذي يتوقع من دوله أن تستخدم سلاح النفط للضغط السياسي)،
ومن تلك المناطق كندا وجمهوريات الإتحاد السوفيتي المستقلة ودول امريكا
اللاتينية.. الأمر الذي قلل حصة دول الأوبك جميعها في السوق، كما أدى الى خفض
اعتماد الغرب وأمريكا على نفط الأوبك حتى بلغت حصة اوبك في العالم كله لا
تتجاوز الثلث.
ـ عقد كثير من الصفقات الكبرى مع الدول مقايضة بالبترول، وهذا يضمن عدم توقفه،
كما يضمن اغراق السوق بالنفط كي تتدنى الأسعار.
مقابل كل تلك الإجراءات التي اتخذتها الدول الصناعية المستهلكة للنفط، لا نرى
اجراءات استراتيجية من قبل المنتجين الكبار الذين يعتمدون بنسبة كبيرة على
النفط في اقتصادياتهم، وقد تكون مجمل اجراءاتهم هي اجراءات تعزز الإعتماد على
النفط بالدرجة الأولى. وفي هذا المجال يجب أن نذكر بمجموعة من الإستراتيجيات
التي لم تؤخذ في الحسبان مقابل التحدي الغربي والأمريكي لإضعاف سلعة النفط
والتحكم في قوت الدول المنتجة وتحييدها ومنها:
ـ لايزال التصنيع بحاجة الى خطوات طويلة حتى يصل الى المستوى الأدنى للإكتفاء.
ـ لاتزال التجارة منخفضة وتعتمد في مجملها على واردات النفط وحجم السيولة
المالية المتدفقة مع تدفق البترول.
ـ هناك سوء تصرف من قبل الحكومات في الأموال التي يدرها البترول، وبالتالي
فالموازنات العامة للبلدان هي سالبة دائما وتبقى الحكومات تحت ضغط الحاجة الى
السيولة من العملات الصعبة، وهذا يعني الإعتماد الزائد على بيع النفط ونقص
الإستثمارات لما يدره من أموال.
ـ طغيان الروح المستهلكة عموما في الشعوب (النفطية) وسيطرة المد الثقافي الغربي
الذي يدعو الى ذلك في تسويق منتجاته دون تدارك لهذه السلبية في المجال التربوي
والإعلامي، فبينما يحد الغرب من استهلاكه للطاقة وغيرها من المنتجات مع تزايد
عدد السكان، نرى ان الدول النفطية تستهلك قدرا كبيرا جدا من الطاقة والمنتجات
الغربية، ويزداد هذا الإستهلاك طرديا وبشكل مخيف مع زيادة عدد السكان مما يوحي
بثغرة في الجانب التعليمي والتربوي لدى الدول المنتجة.
ـ تعيش الشعوب (النفطية) وضعاً سياسياً خطيراً، في ظل غياب القرار السياسي
المدعوم شعبيا نظرا لكون الأنظمة شبه شمولية ولا تعطي مجالا للمشاركة السياسية،
وبالتالي غياب روح المسؤولية لدى العامة من الناس بل حتى المسؤولين في هذه
الدول.
ـ أيضاً هناك غياب للإرادة السياسية التي تدفع باتجاه المحافظة على قوة النفط
كورقة ضغط سياسية، بل على العكس من ذلك نرى ان تلك الإرادة غائبة، وتزداد يوماً
بعد الآخر صعوبة الإتفاق على مثل هذا القرار الجمعي حتى بين الدول العربية أو
حتى الدول الخليجية نفسها.
من هذا نرى أن المتحكم في سوق النفط بشكل كبير هو المستهلك الغربي، وليس المنتج
العربي، والمستهلك في هذا الحال هو الدول الغربية وأمريكا، الأمر الذي يجعل
ورقة الضغط بوقف تدفق النفط ورقة ضعيفة في أيدي بلدان مثل البلدان العربية
الخليجية خصوصا.
ان خوف الدول العربية الخليجية المنتجة من المنافس في سوق النفط حداها الى
اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تعزز مكانتها في السوق، ولكنها في المقابل تسحب
منها المقدرة على استخدام ورقة النفط كورقة ضغط سياسي، بل وتزيد من اعتماد
اقتصادها على النفط كسلعة أولية ونذكر في هذا المجال بعض الأوراق الأخرى التي
لاتزال بيد المنتجين:
ـ انتهجت الدول المنتجة سياسة تحديث وتوسع في منشآتها ومرافقها النفطية الى
درجة تتيح لها التحكم الواسع في الإنتاج هبوطا وارتفاعا، وهذا يعطيها قدرة تحكم
لا توجد عند معظم المنتجين حتى الغربيين منهم. ويساعد ذلك هبوط سعر التكلفة في
استخراج النفط في دول الخليج.
ـ قامت شركات النفط في دول الأوبك خاصة في الخليج بشراء أسهم في شركات نفطية
عالمية مما يعزز مكانة شركاتها النفطية الحكومية عالميا ويدعم تواجدها في
السوق.
ـ ايضاً اتخذت بعض الدول المنتجة للنفط سياسة المشاركة لكثير من شركات تكرير
وتصنيع في مختلف انحاء العالم، مما يتيح لها فتح اسواق دائمة، وضمان لتدفق
النفط لهذه المصانع.
ـ في بعض الحالات اعتمدت الدول المنتجة أو بعضها (السعودية في الثمانينات
مثلاً) سياسة اغراق السوق بالنفط، ومحاولة جعل اسعاره متدنية، كي لا يتجه
العالم الى بدائل للطاقة أو الى بدائل منتجة في سوق النفط تكون اكثر اطمئنانا
للغرب والعالم.. ويكفي للتذكير بما حصل في نهاية السبعينات بداية الثمانينيات.
كل هذا يجعل ايقاف أو حظر توريد النفط الى الغرب أو أمريكا أمراً صعباً ولكنه
غير مستحيل إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وإذا ما كان المطلوب انتصاراً
سياسياً مقابل بعض الخسائر الإقتصادية. ذلك أن بذل الكثير من الأموال لتحديث
وتوسيع المنشآت النفطية مرتفعة التكلفة ستكون نتيجتها إصابة تلك المنشآت بالصدأ
دون أي مردود مالي، وسيتحمل المنتجون الكثير من التبعات المالية في حالة إيقاف
عقود تسليم النفط، وكذلك بشكل خاص إيقاف النفط عن مصانع التكرير التي هي شريك
فيها وملتزم بإستمرار إمدادها بالنفط الخام. ويتضح من هذا عمق وحجم التشابك
الإقتصادي للدول المنتجة والمستهلكة على السواء مما يزيد تبعية دول الخليج
المنتجة للنفط الإقتصادية للغرب وأمريكا.
لا شك ان التبعية الإقتصادية هي حتما تبعية سياسية، وان قرار قطع التبعية
الإقتصادية لدول الخليج المنتجة للنفط مع الغرب يحتاج الى تضحيات كبيرة من
الحكومات والشعوب.
(12/4/2002)