gulfissueslogo
تونس: الخبز والحرية معاً.. وللشباب زمن آخر
د.فؤاد إبراهيم

السفير - 17-01-2011

لم يعد الشباب ظاهرة خاصة بفصول المدارس، أو امتداداً استثنائياً للطفولة، أو وقف تنفيذ المسؤولية.. فنحن نشهد ولادة كونية جديدة تذوب فيها الطبقات التقليدية وتفتح أفقاً لقادم آخر، إنه عصر الشباب الذي لا يبقي ولا يذر من ميراث البرجوزاية والميتافيزيقية، والارستقراطية المتحجّرة.
حركة الشارع التي قادها الشباب التونسي كانت أسرع من حركة تفكير قادة المعارضة الكلاسيكية، فقد اختزل الشباب شروط تأهيل القادة في وقت قياسي، وأصبح الشارع مصنعاً فعّالاً لقادة ميدانيين، دون حاجة للمرور عبر عملية حزبية وفق النموذج اللاتيني، أو اعتماد سبل الترقي القيادي وفق شروط خاصة عائلية ومالية وعنصرية.
في الكويت، رفع الشباب في مايو 2006 شعار (نبيها خمسة) أي نريدها خمس دوائر انتخابية تكون للكويتيين جميعاً، وكان الأداء راقياً لجهة الاستعمال الذكي لوسائل الإعلام، وحملات الترويج للمطلب السياسي، ما دفع بقادة كبار في قوى المعارضة الكويتية الى ركوب الموجة الشبابية الجديدة، وتبني الشعار، وإن لم يكن عن قناعة به أحياناً، ولكنها إرادة الشباب التي فرضت نفسها على الخطاب السياسي الاعتراضي.
في كل شوارع الوطن العربي الكبير، ثمة حركات شبابية تتأهّب للعب أدوار تاريخية، وأن النزوع المتزايد نحو التنظيمات الأهلية وسط الشباب يجعل من تحويلها إلى تنظيمات سياسية (parapolitical) أمراً وارداً، بسبب غياب أقنية تعبير سياسي مسموح بها في كثير من الدول العربية. إن نجاح الثورة الشعبية في تونس عائد، في جزء جوهري منه، الى انتظام غالبية الشباب التونسي في جمعيات أهلية، جرى تخصيبها سياسياً على عجل في لحظة تاريخية حسّاسة. وأمكن التكهّن، في ضوء المثال التونسي، بأن انسداد أفق الإصلاح السياسي، في أي دولة عربية، سيحيل من التنظيمات الأهلية الى أدوات تعبئة سياسية عالية الكفاءة. وإذ لا يمكن، في ظل عولمة اتصالية تفاعلية، تعطيل الميول المتعاظمة لدى الشباب في تنظيم صفوفه ضمن مؤسسات أهلية، فإن القدر السياسي لهذه المؤسسات يبدو حتمياً.
تقدّر نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 ـ 40 سنة بحدود الربع من مجمل سكان الوطن العربي، أي نحو 70 مليون نسمة. ولكن هذا الحشر البشري الهائل يواجه تحدّيات تتّصل بالخبز والحرية على السواء، فقد باتت البطالة تحدياً يومياً يواجهه الشباب في الوطن العربي من المحيط الى الخليج، وصار مشهد الشباب وهم يعتصمون أمام الوزارات المعنيّة بالعمل مألوفاً، فيما لا حلول جذرية للمشكلة. بعد اشتعال الشارع التونسي بالتظاهرات، تنبّه مسؤول خليجي الى العاقبة الوخيمة فأوصى الدوائر الحكومية بتوظيف الشباب.
ما جرى في تونس هو استعادة الشباب لخصائصه. يتحدث سارتر عن الشباب في بعض الدول الشمولية بأنهم فقدوا «عدم الاكتراث الذي كان من أخصّ خصائص عمرهم..»، فصاروا يخدمون رغم أنوفهم فلسفة يمقتونها، أو أن يتبنوا خضوعاً للنظام مذهباً لا يستطيعون الإيمان به. فقد تخلى الشباب في تونس، على سبيل المثال، عن عدم الاكتراث حيال ما كان مفروضاً عليهم الإيمان به، وهو ما أفضى الى فعل ثوري هائل. إن ما تفعله العولمة أقوى من القدرة على الضبط والتوجيه، فالشباب هم من يرسمون خارطتها.
في أحد شوارع العاصمة اليونانية، توقّفت في 2 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بالقرب من طلاب متظاهرين رفعوا شعاراً تضامنياً مع زملاء لهم في لندن، تظاهروا ضد زيادة الرسوم الجامعية. سألت أحدهم: هل ثمة تنسيق بين اتحادي الطلبة في بريطانيا واليونان؟ فنفى الطالب أي صلة (تنظيمية) بين الاتحادين. قلت له: لفت انتباهي حملكم شعاراً باللغة الانكليزية كتب عليه «نتضامن مع الطلاب في بريطانيا»، فأجاب باختصار: نحن في عصر جديد، وأصبح التواصل عولمياً.
قبل نحو عشر سنوات تساءلت: ماذا يمكن لطلاب غاضبين أن يفلعوا لتغيير قرار الحكومة البريطانية في موضوع الرسوم الجامعية. فقد كانت تجوب التظاهرات وسط لندن وصولاً إلى مقرّ الحكومة في دواننغ ستريت أو مبنى البرلمان ثم ما يلبث أن يعود الجميع أدراجهم خائبين إلى بيوتهم؟ ولكن في نهاية العام المنصرم، بدا الأمر مختلفاً تماماً، فالشباب نجحوا في تكبيد الحكومة أضعاف ما قررته من زيادة في الرسوم الجامعية. وتكرّر المشهد الشبابي في فرنسا، وإيطاليا ومناطق أخرى، فالشوارع التي أصبحت حواضن الشباب العاطلين من العمل تحوّلت نفسها الى بؤر ثورية تهدد باقتلاع القلاع الحصينة. فما يخرج الشباب من بيوتهم الى الشارع يفرض عليهم عدم العودة بلا حل خلاصي.
ربما يبدو من المبكر الزعم بأن ثمة قدرة على معرفة ردود فعل الشباب في زمن العولمة الاتصالية، التي لم يمض على انطلاقتها الكاملة سوى عقد من الزمن، فالدراسات الانثروبولوجية تبدو قاصرة، حتى الآن، عن إدراك اتجاهات الجيل الجديد الذي نشأ في ظل تكنولوجيا اتصالية كونية، نقلته الى موجات تفاعل ثقافي مفتوحة، إذ بدأ الشاب يهجر أنماط العيش والتفكير، ويعتزل وطنه في موطنه، وماضيه القريب، وتقاليده الموروثة بما فيها تقليد الإذعان وطاعة النظام.
قد يتفاجأ الثوريون الكلاسيكيون بأن شعارات الشباب في تونس، وفي أماكن أخرى مرشّحة للقدر التاريخي نفسه، ليست على مقاس أحلام حملوها على عاتقهم. بعد الآن التونسية، ليس كل ما هو بعدي بالضرورة منسجماً مع تطلعات السابقين، ولكنه بالتأكيد ليس بائساً، فليس بعد اليأس العربي الراهن (نوبة) يأس أخرى، وأن كل انزياح عن حافة الراهن العربي يعني فوزاً، وكما يقول العظيم في كتابه الحكيم: «فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز».
تتسارع الأحداث من المحيط الى الخليج بوتيرة غير مسبوقة، وكأن ما حمله العام الفائت في جوفه من أزمات، وضع العام الجديد حمله بصورة مبكّرة، بما ينذرأو بالأحرى يبشّر بآت أفضل، فالدول العربية في القارة الأفريقية تشهد، كأوان مستطرقة، انتقالات لمتغيرات كبرى، فبين انشطار السودان، يبزغ فجر ثوري في تونس الخضراء وقد يغشي بأنواره مساحات أخرى في الوطن العربي الكبير.
هل تونس استثناء عربي؟ بالطبع كلا، وما يجري في أغلب البلدان العربية هو بمثابة محاولات عنيدة لتأجيل اللحظة التي وصلت اليها تونس. للتذكير فحسب، بدأت الثورة في تونس في 4 كانون الأول (ديسمبر) الماضي وأنجزت مهمتها في 14 كانون الثاني (يناير)، أي أن تغيير التاريخ في تونس لم يستغرق أكثر من شهر وعشرة أيام.
قد نكون بحاجة الى أطنان من المجلدات لقراءة ما جرى في التاريخ الغابر للأمم، وقد نحتاج قدراً هائلاً من الأفكار لتفسير حوادثه، ولكن حفنة قليلة جداً من الأفكار قادرة على تغيير تاريخ الأمم. صحيح تماماً، أنه في اللحظة التي أخفق فيها النظام التونسي في التعامل مع مطالب (انتفاضة الخبز) في كانون الثاني (يناير) 1984 بدأت عملية تنضيج شروط الثورة، ولكن شرارة الثورة كانت حادثة لا يكاد غالبية المتابعين للحدث الثوري التونسي يتذكّرونها، وهي وفاة شاب من الباعة الجوّالة، كمداً، في أحد شوارع التسوّق في سيدي بوزيد، في 4 كانون الأول 2010 ديسمبر بفعل مصادرة رجال الأمن لبضاعته.
لا شك بأن تونس ـ الثورة، هكذا تسمّى بعد الآن، قد أطلقت آمالاً مكبوتة، ووفقاً لمفهوم علمي للثورات لا يتوقف دور الجاذبية على العمل باتجاه عمودي فحسب، أي من أعلى إلى أسفل، بل تصبح علاقة خارجية تعمل باتجاهات متعددة، وتشمل دون ريب المناطق القريبة والبعيدة، مع لحاظ كل تغيير يتم في وجهة الثورات وسرعتها.
من المؤكد أن الإنجاز الثوري في تونس خرج من إطاره الجغرافي، ولم يعد ملكاً للشعب التونسي وحده، بل دخل في الذاكرة الجماعية للشعوب العربية، ومن الواضح أن هناك تحصينات قد أعدّت على عجل من أجل تحصين (الدواخل) العربية على المستوى القطري. ما لا يمكن البوح به حتى الآن إلا همساً، أن صيغة الدولة القطرية يخشى أن تفقد تدريجاً جدارتها، بوصفها إطاراً شمولياً استبدادياً مهترئاً، لا يمكن الوثوق بقدرته على ضبط مصالح العباد، ما لم تتولّد دينامية داخلية تسهم في تصحيح صيغة الدولة الراهنة بحيث تكون مؤهلة في وقت ما قادم كيما تندمج في مشروع جمعي على أساس قومي أو حضاري كما هي حال أوروبا.
بكلمة، أن التغييرات الكميّة تفضي بالضرورة إلى تغيّر نوعي، أي أن التغيير الثوري في أي مكان في العالم هو العبور من الكم الى الكيف، وأن الشرارة التي انطلقت من سيدي بوزيد التي تربط الشمال بالجنوب في تونس، تحوّلت بفعل تراكم الأفعال الثورية بسواعد الشباب إلى انتصار شعبي كبير.

copy_r