gulfissueslogo
د.فؤاد إبراهيم
زلزال ويكيليكس..خليجياً
د. فؤاد إبراهيم

مركز قضايا الخليج للدراسات الاستراتيجية
7 يناير 2011
 
 
في المأثور (لو تكاشفتم ما تعايشتم)..

لم تحدث تسريبات ويكيليكس ضجيجاً منذ 2007 بحجم الزلزال الموجّه الذي ضرب الخليج، وكان السبب وراء توقيف صاحب الموقع جوليان سانج من قبل الشرطة البريطانية. ليس في التسريبات جديد بالنسبة لمراقبي الخليج على مستوى التوجّهات، ولكن في التفاصيل مايستهوي، وفيها تكمن الدهشة، مع أننا في زمن تكاد تموت فيه الدهشة..فكل ماهو راسخ يبدو متصدّعاً ومهزوزاً، وماهو قامة عالية يبدو قزماً، وما هو مبدأ ثابت يبدو متغيراً بل ورخيصاً مبتذلاً..إنه عالم التنصّل من كل ماهو نبيل، وحتى الكرامة تستحيل معطفاً يخلع قبل الدخول في أي مداولة على حساب الشعوب والأوطان..
مهما قيل عن نوبات الهلع التي أصابت المتضررين من تسريبات ويكيليكس، فإن حقيقة واحدة تنبعث من مسامات الجلد: أن المعلومات الواردة في برقيات السفارات الاميركية في أرجاء متفرّقة من الأرض تقترب من الحقيقة المجرّدة، وهي تقدّم السياسة عارية، أي كما يراد لها أن تصل إلى صنّاع القرار، ثم تنعكس في هيئة مواقف وسياسات وأجندات..بكلمات أخرى، إنه زلزال صامت، وانفجار عنيف ولكن بلا دوي..فلأول مرة يلوذ الجلاّدون والضحايا بالصمت على جريمة تتكشّف فصولها بالأسماء والتواريخ، لأن مجرد التعليق يعني بدء تدحرج الصخور من قمم الجبال..

قيمة التسريبات تكمن في الشحنات الدلالية التي تحملها، بعد أن قرّبت أجل الفضيحة لربع قرن على الأقل (بحسب قانون فسح الوثائق الخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة)، وأزالت بُعدَ التراكم في السياسة، فقد فرضت التسريبات اعتماد بدائل ليست في تقنية نقل البرقيات الخاصة، بل حتى في طبيعة المداولات الخاصة (وحدهم المسؤولون العرب من أقاموا الدنيا لأن مخازيهم باتت في متناول الناس جميعاً)..وللإسرائيليين قنوات خاصة في لجم التسريبات!

تميط تسريبات ويكيليكس عن كاريزما مجذومة لشخصيات تحظى بمجون دعائي مثير للشفقة، لمجرد أن النفط بات قادراً على تصوير الأشياء بخلاف حقيقتها.. ولع المهووسين بتخليد شخصيات عقيمة الإبداع سيصابون، مشرطاً باستيعاب القراءة جيداً، بخيبة أمل حيال ما كشفت عنه تسريبات ويكيليكس، والتي بدت فيها (لعبة الأوائل) سخيفة ومحتقرة، بعد أن جرى التلاعب بالكلمات والقيم الكبرى بإسباغها على أشخاص مثّلوا أضداد لها..

يلفت أكثر من تسريب الى أن ثمة انثيالاً يبعث على الازدراء من قبل مسؤولين خليجيين لجهة تعزيز العلاقة مع الأخ الأكبر، أي واشنطن، حيث يأخذ التقارب مع الأخيرة شكل عقود عسكرية، وصفقات تجارية، واتفاقيات أمنية، وامتيازات. لم يعد التباين قائماً بين مسؤولين خليجيين على مستوى دولة واحدة أو منظومة دول مجلس التعاون الخليجي حول من هم أقرب أو أبعد عن واشنطن، بل تكشف الوثائق بأن التباين محصور في مدى سرعة كل منهم الى واشنطن. تذهلك أحاديث بعض الوزراء السياديين مع نظرائهم (أو بالأحرى مع موظفين صغار في مجالات مماثلة) وهم يصغون كتلاميذ نجباء لمشاريع حماية المنشآت النفطية، ثم ينتهي الدرس بتسليم المنشآت الحيوية بيد الأميركيين لحمايتها..ليس ثمة مكان آمن في هذا الخليج..كل شيء ندعوه (أسرار خاصة) بات في متناول الأميركيين..في مثل هذه الاحوال، ستبقى إيران عدو الضرورة، لتمرير مخطط تسليم مفاتيح الدول، مقابل الاستواء على العرش السياسي!  

قيل بأن حلفاء أميركا في الخليج تضرّروا أكثر مما تضررت هي من وثائق ويكيليكس..ثمة حقيقة يلزم الكشف عنها: أن المسؤولين الأميركيين الذين يأتون الى الخليج، لا يتحدّثون بإسم الولايات المتحدة، القوة العظمى، والقطب الأكبر في العالم، بل يأتون في هيئة ممثلين لشركات عسكرية أو كارتلات نفطية..قليل نادر منهم تحدّث بلغة حضارية، أو حتى بمنطق صدام الحضارات، مع أي من قادة الخليج..ولكن سيعثر القارىء لتسريبات ويكيليكس عن مشاريع تجارية أمنية وعسكرية وحتى سياسية ولكن بخلفية تجارية!

مسعورة تلك الحملة الخليجية على ايران كما ترفع تسريبات ويكيلكيس الغطاء عن عارها وشنارها، ولكن ما هو مشين حد القرف أن مانفيستو الأعداء قد تبدّلت دراماتيكياً، وكما تكشف وثيقة عن إتجاهات الملكية والايديولوجية في الاعلام السعودي أن (إسرائيل) ليست مدرجة ضمن خطة إعداد المشهد الاعلامي، فثمة ميل فاضح نحو تنسيج المكوّن الاسرائيلي في الخطاب الاعلامي العربي المعتدل قيحاً وقبحاً. نزوة العداوة للكيان الاسرائيلي تبدّلت الى أجندة متقنة مؤلّفة من خطوات تطبيعية منتظمة لنقل الرأي العام المحلي والعربي الى مرحلة يكون فيها متصالحاً حد العناق مع ضدّه التكويني..ثمة في وثائق ويكيليكس ما يشير الى مراهنة على سمعة وصدقية ما في عملية السلام، التي بلغت نقطة التفسّخ، بعد إعلان الراعي الكوني، الولايات المتحدة، عن رفع الراية البيضاء حيال تجميد الكيان المدّلل (قالها سعود الفيصل ذات إقرار كنسي) لبناء المستوطنات..

ثمة نظرية ملعونة تقول بأن أولئك الذين لهم عدو مشترك يجب أن يتصادقوا، ولكن الأمر تجاوز الصداقة الى حد التواطؤ، والتآمر، حتى تجاوز خوف الناس الى ماهو أكبر من الموت، بل الموت مع شهادة خزي..لقد ماتت مقولة (الاندماج بالرئيس)، فليس هناك من هو على استعداد للموت دفاعاً عن كرسي الحاكم، كما ماتت معها خدعة (إفراغ العقل وملء البطن)..من خيبات بعض حكّام الاعتدال في الخليج أن الناس باتوا يتقنون فن (إعادة توجيه) الإزدواجية السياسية، وصاروا يظهرون بغير ما يبطنون عملاً بمبدأ (الناس على دين ملوكهم)..ولذلك لايطمئنَّ أحدٌ لصمت الخليجيين في أي مشروع عسكري قريب أو بعيد، لأنهم عرفوا عن وعي معادن حكّامهم..

قد تكون شعوب العالم في مسيس الحاجة الى عصاة أكثر من حاجتها الى مطيعين ومنضبطين، ولكن على طريقة أسانج، فالجموح المتفجّر نحو المعرفة يجعل المستور عدوّاً لدوداً للأجيال الجديدة التي باتت مهووسة برفع الستار، وليس إسداله، عن كل ما يجري في العالم، بما فيها الحقول الأشد حساسية. تصيب المرء صدمة منعشة وهو يستمع لشباب باتوا يتقنون تكتيكات خصوم المعرفة بطريقة لا تخطر على بال، فالجميع يعمل على اخراج العصا المغمورة في الوحل، وإفشاء ما علق بها من أدران/أسرار..لا يعترف الجيل الجديد بمبدأ السريّة، فقد عقد العزم على تجسيد مبدأ المعرفة للجميع.. الذين اخترقوا مواقع الكترونية حساسة في الولايات المتحدة، وأوروبا هم من الشباب المحثوث بفضول الإطلاع والمغامرة..شاب خليجي إخترق من غرفته الخاصة موقع الخارجية الاسرائيلية على الانترنت، وتحرّكت سلطات بلاده لاعتقاله. 
 كل شيء يمكن أن تكشف التسريبات عنه إلا الروح الخفية لدى شعوب الخليج، فقد يتواطؤ المثقف، والمشرّع، والقاضي، ولكن ما لا تجد أثراً له في التسريبات هو مدى جهوزية شعب ما للموت دفاعاً عن العرش، فقد أدبرت مقولة أن الجند يجب أن يموتوا لمصلحة الحكومة، فلم يترك فساد الأخيرة إمكانية تبجيلها (وليتخيّل المرء فساداً مالياً بحجم تريليون دولار في دولة خليجية كيف يكون حال شعبه في أي حرب، حتى مع الشيطان؟!).

لاشيء أكثر عبثية من تصوير الواقع على خلاف حقيقته خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمصير الجماعي لأمة. وعلينا أن ننضمَّ إلى صفوف الماقتين لكل ماهي تخاريف مؤلمة..في كل الثرثرات الأميركية مع المسؤولين الخليجيين حول الملفات المصيرية تبدو شعوب الخليج الغائب الأكبر، مع أنها المعني الأول. لا تفسير لذلك سوى أن ازدراء الشعوب بلغ حداً فاحشاً، وهذا ما يدعو لتغيير جذري وفظ للواقع الخليجي، كيما تحقق شعوب الخليج ما تريد أن تكونه، لا ما تفعله قهراً الآن.

 هكذا، حيثما تزداد وتيرة التسريبات حول شؤون الخليج الخاصة، ستزداد تبعاً لها الصدوعات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وستتعمّق أزمة الثقة بينهما، ما يفتح أفق التفكّكات الداخلية بكل الهيبة الزائفة المرتبطة بها..
==
فاصل جدلي بنكهة تهكمية: إن شحن غريزة الحرب لدى الأميركي والاسرائيلي على ايران يتطلب أكثر من وجود قائد خليجي يحرّض عليها لجهة استكمال شروط اندلاعها، فما ينقص حلفاء أميركا في الخليج هو أناس لديهم فائض من الحماس للحروب. في حرب الخليج الثانية، رحل قادة خليجيون عن مناطق القتال وصار المجنّدون الأجانب (ذكوراً وإناثاً) يجوبون شوارعنا ويحمون سيادتنا واستقلالنا..وقادتنا أيضاً!

copy_r