gulfissueslogo
د.سعيد شهابي
السلاح بدون ايديولوجية عسكرية لا يوفر قوة رادعة
د.سعيد الشهابي

 أثارت الوثيقة الرسمية البريطانية التي رفعت عنها السرية الاسبوع الماضي ان السفير البريطاني لدى الكيان الاسرائيلي، جون روبنسون، بعث في الرابع من أيار/ مايو 1980 برقية لوزارة الخارجية البريطانية جاء فيها: 'اذا أصبحوا (الاسرائيليون) عرضة للتدمير فانهم سيواصلون القتال حتى النهاية هذه المرة.
سيكونون مستعدين لاستخدام سلاحهم الذري.' ليس الموضوع هنا هو السلاح الذري، بل المنطق الذي يحكم سياسات الكيانات والدول، ودور القوة العسكرية في الحفاظ على السلم او اثارة الحرب. ويمكن القول ان الكيان الاسرائيلي هو الذي بدأ كل الحروب التي حدثت مع العرب منذ اكثر من ستين عاما في ما عدا حرب اكتوبر 1973 التي كانت محدودة الاهداف، ومؤطرة بالرغبة في امتلاك اوراق للتفاوض السياسي وليس الحسم العسكري.
ولا شك ان الشعور الاسرائيلي بالتفوق العسكري من اهم اسباب الحروب، لان الجانب الذي يشعر انه لا يملك القوة الكافية لحسم النزاع المسلح لصالحه لن يبدأ ذلك النزاع. ينطبق هذا على الحكومات كما يشمل المجموعات المسلحة. ويتوفر لدى هذه المجموعات، بالاضافة لامكاناتها المادية، الدافع الذاتي لـ 'مواصلة النضال' كعامل اضافي لا يقل أهمية عن القوة المادية. فبينما يقاتل الجندي في الجيوش النظامية على اساس 'الوظيفة' فان المقاتل في الكيانات الايديولوجية ينطلق على اساس 'الواجب' الذي يجعله مستعدا للموت من اجل القضية التي يدافع عنها. ولذلك ليس غريبا ان تسخر نسب عالية من المدخولات الوطنية لموازنات الدفاع، وتجديد الأسلحة بشكل مستمر. وثمة نقطة جوهرية في هذا الجانب وهي ان الشعور بالقوة ينطلق على اساسين: اولهما امتلاك السلاح والعتاد، سواء بالاستيراد من الخارج ام التصنيع الذاتي، وثانيهما: توفر ارضية علمية وطنية قادرة على تكييف ذلك السلاح مع ظروف الحرب والسلام من جهة، ومع امكانات 'العدو' في ما لو وقع النزاع العسكري من جهة اخرى. فلا يكفي تكديس الاسلحة المستوردة لجعل البلد قوة عسكرية عتيدة، بل لا بد من توفر بنية تحتية مؤسسة على تكنولوجيا حديثة وارضية علمية وطنية راسخة. فالسلاح وحده لا يكفي لغرس الثقة لدى السلطات السياسية بالقدرة العسكرية الكافية لحسم اي حرب خصوصا اذا كانت مع طرف يمتلك العامل الثاني: البنية التحتية التكنولوجية والعلمية.
الكيان الاسرائيلي لا يعتمد على السلاح الامريكي المستورد فحسب، بل لديه امكانات تصنيعية وعلمية تجعل قادته السياسيين يشعرون بقدراتهم المادية في مواجهة الجانب العربي. اما الدول العربية فقد تمتلك من قطع السلاح ارقاما خيالية تفوق ما لدى العدو الاسرائيلي، ولكن ذلك لم يوفر للقيادات السياسية الشعور بامكان كسب الحرب مع الكيان الاسرائيلي. ولذلك اكتفت الحكومات العربية بالتصريحات والتهديدات الجوفاء، بينما عمد الاسرائيليون لشن الحروب، الواحدة تلو الاخرى، ضد العرب. ويمكن القول ان شعور الصهاينة في السنوات الاخيرة بوجود قوى مقاتلة من نوع آخر، غير ما اعتادته من الجيوش العربية، جعلهم يعيدون حساباتهم الاستراتيجية لمواجهة ما تمثله هذه القوى من تحد حقيقي لم يعهدوه من قبل.
هذه القوى المقاومة تستمد قوتها من ثلاثة امور: اولها امتلاك المستوى الادنى من السلاح المناسب لحرب غير تقليدية بين طرفين غير متساويين ماديا، ثانيها: تأسيس الموقف على منطلقات ايديولوجية وعقيدة راسخة، وثالثها امتلاك قدرة تكنولوجية وعلمية تدعم المقاتلين والمخططين الاستراتيجيين. ولذلك فبرغم ما تعتبره 'استفزازات' و'تهديدات' من قبل المجموعات المقاتلة في لبنان وغزة، فما تزال مترددة في اتخاذ قرار الحرب. اما استهداف ايران فما يزال خيارا بعيدا للاسباب نفسها.
فايران لم تعد معتمدة في تسلحها على الخارج، بل اصبح واضحا ان لديها ايديولوجية قتالية مختلفة، تأخذ بعين الاعتبار عددا من الامور: اولها انعدام مصادر السلاح الثقيل بسبب الحظر المفروض من الدول الكبرى عليها، ثانيها: بعد المسافات التي تفصلها عن الكيان الاسرائيلي ثالثها: الفواصل الجغرافية التي تحول دون استعمال الاسلحة التقليدية خصوصا الطائرات، نظرا لما يتطلبه ذلك من تعاون مطلوب (ولكن غير مضمون) من الدول التي تفصلها عن الكيان الاسرائيلي، رابعها: الاثمان الباهظة للاسلحة المستوردة وعدم قدرة ايران على ذلك. برغم ذلك فقد اصبح واضحا للاسرائيليين ان استهداف ايران عسكريا لن يكون مهمة بسيطة، بل سيكون رهانا غير مضمون النتائج، وليس خاضعا للحسابات التقليدية.
العام الجديد يطل على العالم والاجواء مهيأة للمزيد من الحروب والاعتداءات. فالقوة العسكرية اذا امتلكتها جهة غير مسؤولة، تسلب العالم امنه، وتضرب استقراره. وليس معلوما ما اذا كانت سياسة 'توازن الرعب' التي كان يعبر عنها أحيانا بمصطلح 'التوازن الاستراتيجي' قد ساهمت في منع الحروب ام شجعت عليها. صحيح ان الولايات المتحدة وروسيا عبرتا عن ارتياحهما بعد توقيع اتفاقية 'ستارت' في مدينة براغ في الصيف الماضي ولكن ما يزال السلاح النووي مصدر تهديد لامن العالم، وعامل تشجيع للدول الاخرى لامتلاكه ضمن مفهوم 'توازن الرعب'. الاتفاقية نصت على تحديد عدد الرؤوس النووية لدى كل منهما بـ 1550 رأسا خلال سبع سنوات، اي ما يعادل ثلثي مخزون كل منهما. ولكن ما يزال هناك مشوار طويل لتخليص العالم من شرور هذا السلاح الذي اتضح انه لم يمنع السباق الدموي بين القوى المتصارعة على النفوذ في عالم اليوم. وما تزال 'الحرب ضد الارهاب' تمثل واحدا من اكبر التحديات التي تواجه هذا العالم النووي، وتؤكد ان خفض عدد الرؤوس النووية لدى الدول الكبرى ليس حلا ناجعا للهواجس الامنية، ولا يمنع احتمال حصول المنظمات التي تمارس العنف مثل 'القاعدة' على السلاح النووي. ولا شك ان استمرار الفشل الامريكي في توفير قيادة سلمية للعالم، وعدم قدرتها على حسم الحروب التي بدأتها سواء ضد الارهاب ام في افغانستان والعراق، ساهم في تعميق الشعور بالاحباط من امكان القضاء على مصادر اضطراب الامن الدولي، وكرس سباق التسلح سواء بين الاطراف التقليدية (امريكا، روسيا، الناتو، الصين ... الخ) ام مع الدول التي ترفض الانخراط ضمن منظومة النظام السياسي التقليدي التي تتزعمها في الوقت الحاضر الولايات المتحدة الامريكية، مثل ايران وكوريا الشمالية وبعض دول امريكا اللاتينية مثل فنزويلا، ام مع مجموعات العنف التي تتوسع دائرتها وتأثيرها برغم استهدافها باحدث وسائل التدمير الحديثة خصوصا طائرات 'درون' التي توجه نحو اهدافها بدون طيار. والسباق هذه المرة ليس على نوع السلاح او حجمه، بل حول خلق واقع جديد لكسر ارادة الطرف الآخر. هذا ما يجري في افغانستان، واليمن والصومال والشيشان. وقد طرحت كوريا الشمالية في الشهور الاخيرة بالونة اختبار عندما استهدفت مواقع حدودية في كوريا الجنوبية، وكشفت جانبا من قدراتها العسكرية من جهة واستعدادها لاثبات وجودها العسكري بالقوة لو اقتضى الامر من جهة اخرى. وتخشى الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو من قيام محور سياسي - عسكري يضم الصين وكوريا الشمالية وايران وفنزويلا، يمتلك اسلحة تقليدية ونووية، وقادر على اعادة الحيوية لظاهرة السباق النووي واجواء الحرب الباردة. ومن المؤكد ان السياسات العسكرية الاسرائيلية تساعد على رسوخ ظاهرة الاستقطاب الدولي هذه، نظرا لوجود ارضية على مستوى العالم ترفض سياسات الاملاء الامريكية وتسعى لخلق عالم خال من أسلحة الدمار الشامل خصوصا السلاح النووي. الامر المثير للقلق هذه المرة غياب دور فاعل للامم المتحدة التي تم تهميش دورها تدريجيا اما بالتوقف عن دفع المستحقات المالية من قبل الدول الاعضاء من جهة، او اخضاعها للاملاءات الامريكية التي تتميز بازدواجية المعايير والانتقائية خصوصا في اطار الصراع العربي الاسرائيلي.
الوثيقة السرية البريطانية التي كشف النقاب عنها تؤكد امورا ثلاثة ذات أبعاد استراتيجية: اولها ان الكيان الاسرائيلي كان يمتلك اسلحة نووية منذ اكثر من ثلاثين عاما، برغم انتهاجه سياسة التعتيم الكامل على مشروعه النووي، بعدم توقيع اتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية، ان بي تي، ورفضه التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وما يفرضه ذلك التعاون من ضرورة السماح لمفتشي الوكالة بمراقبة مشروعه النووي في صحراء النقب. وهذا يعني ان مردخاي فعنونو، الفني السابق بمفاعل ديمونا الاسرائيلي، عندما اطلق جرس الانذار في مقابلته التاريخية مع صحيفة 'صنداي تايمز' البريطانية في 1986، انما كان مدفوعا بالضغوط النفسية التي كان يعاني منها وهو يرى التعتيم المطبق على المشروع النووي الاسرائيلي. ولذلك دفع الثمن باهظا، اذ ما يزال يتعرض للقمع المتواصل ويتردد على السجن بين الحين والآخر. ثانيها: ان الجانب الاسرائيلي اعطى نفسه الحق في استعمال ما يشاء من اسلحة في حالة المواجهة مع اي طرف عربي، ولم يتردد في إطلاع حلفائه الغربيين على نواياه العدوانية، خصوصا في غياب اي موقف رادع منهم لسياساته وتصرفاته. بل ان هؤلاء الحلفاء لم يتخذوا مواقف انسانية مشرفة عندما شن الحروب ضد الدول والمجموعات العربية. هؤلاء الحلفاء هم الذين رفضوا الدعوة لوقف اطلاق النار في العدوانين الاخيرين ضد حزب الله اللبناني ومنظمة حماس الفلسطينية، على امل ان جهوده العسكرية سوف تحدث تغييرات استراتيجية في المنطقة. ثالثها ان الكيان الاسرائيلي، وفق هذه الوثيقة، يمثل خطرا ليس على الدول العربية المجاورة بل على الامن والاستقرار الدوليين، لانه امتلك السلاح النووي وخالف بذلك روح معاهدة ان بي تي، ويصر على الاحتفاظ بقدرته على القيام بالضربة الاولى في المفاصل التاريخية الحاسمة، سواء بالحرب التقليدية مستعملا الطائرات والصواريخ الامريكية، ام بالحرب النووية التي امتلك اسبابها برغم انف العالم. السفير البريطاني الذي كان يخاطب وزارة خارجيته لم يطرح ما يعتقده خطوات ضرورية لاحتواء الخطر الاسرائيلي، بل كانت رسالته بمثابة لفت النظر الى ما كان يعتبره 'حقائق' على الارض يجدر بحكومته الاحاطة بها لكي لا تفاجأ بما ليس في الحسبان.
ماذا يعني ذلك؟ ثمة امور عديدة يمكن استنتاجها من هذا السجال. اولها ان امتلاك القوة المادية لا يكفي الا اذا كان مشفوعا بامكانات تصنيعية وتطويرية اخرى. ثانيها: ان 'اسرائيل' هي التي بدأت الحروب كلها تقريبا، وما تزال تهدد العرب والمسلمين بالحرب والعدوان. فهي التي دمرت المفاعل النووي العراقي (أوسيراك) في العام 1981 مستغلة ظروف الحرب العراقية الايرانية، ولم يصدر آنذاك اي شجب دولي لذلك العدوان السافر. وهي التي اجتاحت لبنان في 1982 وحاصرت عاصمة عربية لمدة ثلاثة شهور، وهي التي شنت العدوان تلو العدوان على اهداف في لبنان وفلسطين والعراق وتونس (بالاضافة لمصر وسوريا والاردن)، وهي التي تهدد في الوقت الحاضر باستهداف ايران عسكريا، ثالثها: ان استمرار الولايات المتحدة في رسم سياساتها وعلاقاتها الدولية على اسس القوة والتفوق العسكري لا يخدم الامن والسلام الدوليين. وقد اثبتت الوقائع عجز القوة العسكرية عن حسم الخلافات الدولية وحدها. وافغانستان تثبت ذلك. فبرغم ما تشيعه واشنطن عن تحقيق انجازات عسكرية واسعة في ذلك البلد، فقد اصبحت لديها وحلفائها قناعة بعدم امكان حسم المشكلة عسكريا، وضرورة طرح مسار سياسي تشارك فيه حركة طالبان. وهذا اقرار بان القوة العسكرية وحدها لا تكفي ولا تحقق الحل الذي يؤدي الى الاستقرار. فالامكانات العسكرية غير المدعومة بايمان داخلي لدى الجنود بما يفعلونه، فشلت في دحر مجموعات مقاتلة لا تملك من ادوات القوة الا النزر اليسير. وهذا الامر نفسه ينطبق على الوضع في فلسطين المحتلة. فبعد ستين عاما من الاحتلال، فما يزال الحل السياسي مستعصيا، وقد فشلت كافة محاولات تمرير حلول منحازة ضد الشعب الفلسطيني. وفشلت واشنطن هي الاخرى في تجميد بناء المستوطنات، فضلا عن وقفها تماما. والاخطر من ذلك ان تكتفي السلطة الفلسطينية بالمطالبة بالتجميد، وتعتبر رفض التجميد ذلك مبررا لوقف المفاوضات، ولا تصر على الغاء بناء المستوطنات جملة وتفصيلا وازالة ما بني منها على الاراضي التي احتلت عام 1967. ايا كان الامر فمطلوب اعادة النظر في مشاريع الحل السياسي واعادة صياغتها على ارضية امتلاك قوة مادية رادعة، لاحتواء التهديدات الاسرائيلية المتواصلة. مطلوب تحجيم القدرات العسكرية الاسرائيلية كشرط اساس لاستقرار المنطقة وامنها، وردع الصهاينة عن شن اعتداءات جديدة سواء ضد الفلسطينيين ام اللبنانيين ام الايرانيين. ومطلوب، الى جانب ذلك، امتلاك اسباب القوة وليس قطع السلاح الباهظة الثمن فحسب، ومن ذلك تطوير القدرات التصنيعية والعلمية. وقد اثبتت تجارب العقود السابقة ان ترسانات الاسلحة العملاقة لا توفر لدى مالكيها قوة الموقف والثقة الكافية بشرعية الموقف وضرورة الدفاع عنه. ان ايديولوجية التسلح ضرورة لضمان القوة الرادعة، وهذا ما لم يتوفر حتى الآن.

copy_r