gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
ايران والعالم بعد قمة عدم الانحياز
د.سعيد الشهابي

ربما من السابق لاوانه تقييم قمة منظمة عدم الانحياز التي عقدت الاسبوع الماضي في العاصمة الايرانية، بحضور اكثر من 130 دولة حضر رؤساء نصفها تقريبا. فمقاييس النجاح والفشل ليست ثابتة، بل تخضع لمعايير الجهات التي تسعى للتقييم. لا شك ان ايران تعتقد انها ناجحة باغلب معاييرها.
ولا شك ايضا ان تلك المعايير تتأثر بالاوضاع الايرانية المحلية والاقليمية والدولية. فعلى سبيل المثال فان انعقاد القمة في طهران انجاز بذاته، في ظل محاولات الغرب فرض حصار سياسي ودبلوماسي على الجمهورية الاسلامية بالاضافة للحصار الاقتصادي. كما ان حضور عدد كبير من رؤساء الدول يمثل نجاحا لايران التي تستطيع الآن تفنيد المزاعم الغربية حول نجاح التحالف الانكلو - امريكي في فرض عزلة سياسية او دبلوماسية عليها. وقد تضيف ايران معايير اخرى لنجاح القمة منها قدرة طهران، ممثلة بالولي الفقيه والرئيس في طرح ما يعتبرونه 'قضية مركزية' ليس لايران او العالمين العربي والاسلامي فحسب بل للعالم الثالث ممثلا بمنظمة عدم الانحياز. يضاف الى ذلك تمتين الروابط الدبلوماسية بين طهران وعواصم الدول الاخرى التي حضر ممثلون عنها وساهم بعضهم بفاعلية في سجالات المؤتمر الدولي. فاذا كانت شعوب العالم التي كانت قبل ستة عقود تعيش حالة ثورية بهدف التحرر من الاستعمار الغربي من جهة واظهار الحياد في صراع الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي من جهة اخرى، فان هذا السيناريو يكاد يكون قائما في ظروف انعقاد القمة الحالية، مع اختلاف بسيط. ففي اجواء مؤتمر باندونغ (في العام 1955) دشنت حركة عدم الانحياز بقيادات كانت يومها تعتبر 'وطنية' و'تحررية' مثل الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، والرئيس الاندونيسي احمد سوكارنو، والرئيس الغيني احمد سيكوتوري، والرئيس اليوغسلافي، جوزيف تيتو وسواهم. يومها كان الاتحاد السوفياتي يمثل قطبا موازيا للولايات المتحدة الامريكية. اما اليوم فقد تم تحييد روسيا بشكل كبير خصوصا بعد ان تجردت من الايديولوجية الشيوعية. مع ذلك انعقدت قمة طهران في ظروف تسعى روسيا والصين فيها لاستعادة موقع سياسي يتناسب مع حجمهما الاقتصادي والسياسي. اما الهند التي دخلت مرحلة التصنيع العملاق فما يزال الصراع مستمرا من الطرفين لكسبها. وبالتالي، ففي الوقت الذي تسعى دول المنظمة للتشبث بايديولوجية 'عدم الانحياز' التي قامت على اساسها، فانها، في الواقع، تبحث عن دور يجعلها قطبا آخر يوازي القطب الاوحد المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية. ومن المؤكد ان ايران لا تبحث عن تحالف 'محايد' تماما، بل عن قوة سياسية واقتصادية ضاربة توفر توازنا للنفوذ الامريكي، وتردع تطلعاته. ومن المنطقي طرح الادعاء بان قضية سوريا ساهمت في تشويش بوصلة منظمة عدم الانحياز. فالمنظمة تضم اعضاء منحازين تماما للمشروع الانكلو- امريكي في الشرق الاوسط، ويرون في الموقف الروسي - الصيني ازاء سوريا تخليا عن المسؤولية ودعما للاستبداد. كما ان غالبية اعضاء المنظمة ترى ان السماح بتدخل انكلو - امريكي على غرار ما حدث في العراق وليبيا ينتهك مبدأ 'عدم الانحياز' ويعيد النفوذ الامريكي الذي يفترض ان المنظمة قد قاومته طوال عقود خمسة بشكل غير مقبول. انه صراع ايديولوجي- سياسي لم يظهر في المناقشات العلنية في قاعة المؤتمرات التي دشنت قبل خمسة عشر عاما لاحتضان القمة الاسلامية الثامنة، ولكنه كان يتحرك بشدة في دهاليزها.
وكما ذكر آنفا فان الحكم على نجاح القمة مرتبط بمدى تفعيل قراراتها من جهة، وما ارادته الدولة المضيفة من جهة اخرى. وباستقراء كلمة مرشد الثورة، آية الله السيد علي خامنئي، يتضح ان ايران كانت تهدف لجعل قضية فلسطين عنوانا لها، ومشروعا استراتيجيا تنضوي تحت لوائه دول العالم الثالث التي كانت، تاريخيا، متحمسة لها، وسعت لتفادي التطرق الى القضايا التي تثير الخلاف والاختلاف. وتحاشى السيد خامنئي التطرق الى الوضعين السوري والبحراني، رغبة منه في تفادي ما يثير الاختلاف ويعكر الاجواء. وربما اعتقد الايرانيون، واهمين، ان طرحهم هذا سوف يقرب المواقف ويوحد العالم الثالث والعالمين العربي والاسلامي بشكل خاص. ولا بد انهم الآن ادركوا خطأ تقديراتهم. فالمزاج العام على المستوى الرسمي في العالم العربي ليس منسجما مع مشروع تحرير فلسطين وقطع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي، بل ان سعي الايرانيين لعدم التطرق الى قضيتي سوريا والبحرين، لم يقابل بالمثل من قبل المتحدثين اللاحقين. وجاءت كلمة الرئيس المصري، الدكتور محمد مرسي، لتقول للايرانيين: فلسطين ليست اولويتنا، وليس من حقكم فرضها علينا، وان لنا موقفنا المطالب بسقوط النظام السوري، ولا يهمنا ما يجري في البحرين. الدكتور مرسي تحاشى التطرق لقضية فلسطين ، خشية ان يتورط بالحديث عن اتفاقات كامب ديفيد التي ما يزال موقفه منها غير واضح. وخاب ظن الايرانيين كذلك عندما تحداهم الامين العام للامم المتحدة، بان كي مون، منتقدا من يرفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي او يسعى لازالته. ومن وجهة نظرهم فقد حققوا امرين: زيارة مرسي لايران، مع اختلاف اولويات الطرفين ومواقفهما ازاء القضايا الاقليمية، بعد قطيعة مع مصر مبارك دامت اكثر من ثلاثين عاما. كما ان حضور بان كي مون، كسر الارادة الامريكية والغى قيمة الحظر السياسي على طهران. ومن المؤكد ان الايرانيين منزعجون من تصريحات الاثنين ولكنهم في الحصيلة العامة، مرتاحون من اجواء القمة وما حققته كدولة تسعى لانعاش كيان دبت الشيخوخة في اوصاله واصبح مستعصيا على محاولات الانعاش.
لا شك ان منظمة دول عدم الانحياز كانت تمثل الروح التحررية للشعوب، وصرخة الامم ضد الاستعمار والامبريالية وحلفائهما الاقليميين. وكان زعماء مثل عبد الناصر، يرون فيها شرفة يطلون منها على دول ما يسمى سابقا بـ 'العالم الثالث' لبلورة مواقف وسياسات مناهضة للنفوذ الغربي والشرقي معا. في ذلك الوقت كان للدول الحليفة للغرب موقف آخر. فالمملكة العربية السعودية اعتبرت منظمة 'عدم الانحياز' ذراعا لجمال عبد الناصر الذي كان يمثل، في نظرها، مصدر قلق لسياساتها المتحالفة مع الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن الناحية الفكرية كان عبد الناصر يمثل 'العروبة الثورية' المناوئة للاستعمار والامبريالية، بينما كانت السعودية تمثل 'الاسلام المحافظ'. ولذلك بادرت السعودية لامتلاك ذراع آخر يعادل النفوذ المصري، ففي غضون اعوام ستة شرعت السعودية لتأسيس منظمة المؤتمر الاسلامي لتحمل لواء ذلك 'الاسلام المحافظ'. الايرانيون اليوم تزعموا المنظمتين على امل احداث تغيير في بناهما الفكرية والسياسية. ومن الصعب القول بان الايرانيين استطاعوا تحقيق شيء ملموس عندما ترأسوا منظمة المؤتمر الاسلامي. الاشكالية الفكرية التي تواجه الايرانيين ذات شقين: اولهما انها سعت لتحويل ايديولوجية منظمة المؤتمر الاسلامي من 'الاسلام المحافظ' الى 'الاسلام الثوري' في ظل هيمنة دول اغلبها مؤسس على 'إسلام محافظ' او 'امريكي' وفق التعبير الايراني، في احسن تقدير، وبالتالي لم تستطع تجاوز معوقات التطوير الفكري والايديولوجي. ثانيهما انها تسعى الآن لـ 'تثوير' عروبة محافظة تم ترويضها طوال اربعين عاما منذ رحيل عبد الناصر، لتتواءم مع المستجدات السياسية والفكرية في المرحلة الحالية التي يراد من منظمة 'عدم الانحياز' التحرك فيها. وهذا امر لن يتحقق ما لم يحدث تغير فكري وايديولوجي في مصر.
ان مصر لا تمثل مفتاحا لقضية واحدة فحسب، بل مفاتيح لقضايا عديدة، تستطيع شدها في حزمة واحدة نظرا لموقعها المحوري في العالمين العربي والاسلامي. مشكلة مصر في العقود الاربعة الماضية انها جمعت بين الفقر المادي والفكري والايديولوجي، ولذلك تراجع دورها الذي تقمصت السعودية بعض جوانبه. وبعد ثورة 25 يناير يمكن الادعاء بقدرة مصر على استعادة ذلك الدور الذي كانت تبحث عنه من خلال منظمة 'عدم الانحياز'. ولكن ذلك مشروط بأمر واحد، يبدو من خلال سياق التطورات في الاثني عشر شهرا الاخيرة، عدم استعداد مصر لتحقيقه بعد. الشرط ان تتفاصل مصر مع السعودية، كما كانت في عهد عبد الناصر. هذا التفاصل لا يعني التمرد او الدخول في صراعات او اظهار 'الندية' مع الرياض، بل يعني التزام حكامها الجدد بايديولوجيتهم ووفائهم الكامل لها، الامر الذي لم تتضح مصاديق واقعية له حتى الآن. فبامكان مصر ان تكون قائدة 'العروبة الثورية'، فما تزال مصر مصدر اشعاع فكري وتحرري وديني. ويكفيها انها هي التي اخترعت شعار 'الشعب يريد اسقاط النظام' التاريخي الذي اعتنقته الجماهير ورفعته في الشوارع، واستشهدت من اجله. وبامكان عاصمة المعز ان تحمل لواء 'الاسلام الثوري' اذا ما ارادت منع انتشار 'الاسلام المحافظ' الذي يدفع اتباعه لحصر الدين بالطقوس والشكليات والسكوت على ظلم الحكام واستبدادهم، واستخدام الدين سلاحا تفجيريا ضد المناوئين. وما لم تفعل ذلك فسوف تدفع ثمن التقاعس لان التوجهات الدينية المتطرفة سوف تنتعش في مصر مع اجواء الحرية من جهة والعوز الذي يمكن استغلافه بالدولارات النفطية من جهة اخرى. الاخوان المسلمون قادرون، بمراجعة جادة لادبياتهم، واسترجاع فكر مؤسسي الحركة كالامام البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب، على استعادة موقع الصدارة في الحركة الاسلامية. والرئيس الدكتور محمد مرسي، قادر على ان يمارس دور استرداد دور مصر العربي والاسلامي والعالم ثالثي باستحضار حقيقة واحدة بشكل دائم: انه وصل الى الحكم باصوات الشعب، وليس على دبابة امريكية. والشعب اقوى المدافعين عمن ينتخبهم، ولن تستطيع امريكا او 'اسرائيل' او السعودية التأثير على مصر اذا قررت النهوض وفق هذه المعطيات.
برغم التجربة الطويلة التي تؤكد قدرة الايرانيين على تحمل الضغوط والصمود الطويل امام الضغوط الدولية والحصار والحرب، فانها، هذه المرة، تطوعت لحمل مسؤولية كبرى ليس معلوما بعد مدى قدرتها على تحقيق مستلزماتها. وهناك هاجسان متضادان: الاول ان ايران لم تستطع تطوير اداء منظمة المؤتمر الاسلامي التي ترأستها ثلاثة اعوام (ديسمبر 1997 نوفمبر 2000) كثيرا. وقد يكون سبب ذلك طبيعة الحكومة الايرانية آنذاك التي كانت تسعى للتعايش مع بقية الدول العربية والاسلامية ضمن امكانات الواقع، وعدم السعي لتحريك المياه الراكدة كثيرا. الثاني، ان ايران تتمتع بديناميكية عالية مؤسسة على مشروع اسلامي واضح يتصادم مع المشاريع الغربية في المنطقتين العربية والاسلامية. وبالتالي فليس ممكنا استشراف السياسة الايرانية تجاه هذه المنظمة، وما اذا كان لديها حقا مشروع اصلاحي فاعل لها. الامر المؤكد ان الايرانيين يشعرون اليوم، اكثر من اي وقت مضى، انهم محتاجون لجسد سياسي عملاق، غير مرتبط بالمشروع الغربي بشكل مباشر، وقادر على استشعار حاجات النهضة الاسلامية الحديثة وسعيه الحثيث لتوفيرها. فليست الاموال وحدها كافية لتحقيق النهضة، بل يتطلب الامر امكانات نفسية وروحية ومادية، يتوفر الكثير منها لدى الجمهورية الاسلامية الايرانية. ولا يكفي صدور بيان ختامي يتسم بالجدية والبنود المثيرة لاصلاح هيكلية المنظمة من جهة، وتطوير موقعها على المسرح الدولي، وتمكينها من ممارسة دور في العلاقات البينية بين دول منظمة عدم الانحياز التي تعاني من تراجع امكاناتها المادية. ان دول امريكا اللاتينية التي اصبحت قدراتها التصنيعية تتصاعد بشكل مضطرد، تشعر انها اقرب الى الدول العربية والاسلامية من حيث السياسات والمواقف وايديولوجيا الدبلوماسية المتحركة. كما ان اجتماع قادة الدول الاسلامية الكبرى، خصوصا ايران ومصر وتركيا واندونيسيا وباكستان، الى جانب زعماء الهند والدول الافريقية والامريكية ظاهرة ايجابية تستدعي الاهتمام والدراسة. ولذلك لم يستطع الاسرائيليون اخفاء غضبهم ازاء انعقاد قمة طهران. فاعتبر رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عقد القمة في طهران 'عارا على جبين الانسانية' ودان انعقاده في طهران ومصافحة الامين العام للامم المتحدة ، بان كي مون، القيادة الايرانية . وقال الرئيس السابق للموساد، افرايم هليفي ، ان هذا المؤتمر 'سيسجل كملاحظة هامشية هازلة في تاريخ الشرق الاوسط. ولن يجدي شيئا'. ووجه هليفي انتقادا شديد اللهجة لبان كي مون قائلا:' ان الأمين العام للامم المتحدة يضر بمنظمته وبنفسه شخصيا بسبب حضوره المؤتمر'. هذا الانزعاج يعبر عن قلق امريكي شديد بسبب المؤتمر، وما ينضوي عليه من تمتين اواصر العلاقات بين ايران والعالم برغم الضغوط الامريكية. ولكن السؤال: هل ينجم عن قمة طهران لعدم الا نحياز اعادة تفعيل المنظمة ودورها ويؤهلها لخوض معارك الحرية والحقوق؟ فالقمة او القمم لا تكفي لصياغة ايديولوجية توحيدية، فهل تستطيع طهران بتجربتها على مدى ثلاثين عاما، تقديم بديل ايديولوجي لما هو قائم الآن من تحالفات اقليمية ومحاور اقتصادية؟ هذا هو التحدي في عالم تتحكم فيه تحالفات مؤسسة على التكامل العسكري والاقتصادي، ويمثل المال النفطي واحدا من روافده. وستكشف الاربعون شهرا المقبلة ما اذا كانت ايران قادرة على قيادة سفينة العالم الثالث نحو مستقبل اكثر استقلالا واستقرارا وأبعد عن تجاذبات الحقبة الاستعمارية البغيضة، ام انها ارتدت ثوبا فضفاضا لا تستطيع لملمة اطرافه؟

القدس العربي 05-09-2012

copy_r