gulfissueslogo
د.سعيد شهابي
المنظومة الرادارية الامريكية في تركيا
د.سعيد الشهابي

بغض النظر عن مدى تداخل مفاهيم الردع العسكري، خصوصا الصاروخي والنووي منه، بين الولايات المتحدة واوروبا، فان قرار نشر المنظومة الرادارية لحلف الناتو على الاراضي التركية امر مقلق جدا للدول المجاورة، خصوصا الاتحاد السوفياتي وايران. ويزيد من حالة الاستقطاب التوجه الامريكي لتكثيف حضورها العسكري في منطقة آسيا والمحيط الهادىء.
وفي مطلع هذا الاسبوع أكد وزير الدفاع الامريكي، ليون بانيتا في اجتماع امني بالعاصمة الصينية ان بلاده تخطط لنشر 60 بالمائة من قطعها البحرية في تلك المنطقة، الامر الذي أزعج الصينيين الذين استضافوا المؤتمر. انطلق حلف الناتو الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وفق قيم ايديولوجية متقاربة بين جانبي الاطلسي، عندما كانت شيوعية الاتحاد السوفياتي تقلق الغربيين جميعا، خصوصا مع امتلاك الاول قدرات عسكرية عملاقة. يومها كانت هناك خشية مشتركة لدى الساسة في واشنطن والعواصم الاوروبية ازاء احتمالات المواجهة العسكرية التي كانت تبدو محتومة مع استمرار الحرب الباردة. ولكن ثمة تساؤلات مشروعة اصبحت تطرح الآن خصوصا في ظل المبدأ العسكري الامريكي الجديد الذي يقضي بنشر منظومة صاروخية في اوروبا: من المستهدف؟ ولماذا هذه الاعدادات العسكرية الضخمة؟ وهل حقا ان هناك تهديدا عسكريا او امنيا للدول الاوروبية؟ وتنطلق تساؤلات سياسية تفرضها التطورات الراهنة مؤسسة على التوجهات الفكرية والايديولوجية والسياسية في الدول الاوروبية، وصعود زعماء محسوبين على اليسار: هل هناك نظرة جيو سياسية مشتركة بين جانبي الاطلسي ازاء تهديد عسكري روسي مثلا؟ وهنا يبدو الدور التركي ضروريا لتقييم الوضع خصوصا على صعيد الاستعدادات العسكرية.
وثمة تساؤلات مشروعة تطرح بقوة هنا: اولها: ما مصادر التهديد المحتملة للامن القومي الغربي؟ هل هناك تهديد مشترك بشكل متساو للولايات المتحدة واوروبا؟ هل قرار نشر منظومة الدرع الصاروخية امريكي ام انه صادر حقا من حلف شمال الاطلسي بقرار واحد او وفق دراسات مشتركة؟ ما هي ايديولوجية هذه المنظومة؟ فهل هي ردعية ام هجومية؟ وهل هي لاعتراض الصواريخ البالستية التي قد تنطلق من بلدان اخرى ام لاطلاق هذه الصواريخ ضد اهداف في الشرق؟ ولماذا هذا التحسس الروسي الذي بات يؤثر على المواقف السياسية الدولية لموسكو كما يحدث الآن بشأن الموقف من الوضع في سوريا والعلاقة مع ايران ومع كوريا الشمالية؟ وماذا عن الصين؟ هل انها بمنأى عن هذه المنظومة؟ وهل تقتصر الاستعدادات الغربية لمواجهة اي تهديد عسكري صيني محتمل على اعادة نشر القوات الامريكية في المحيطين الهندي والهادىء، ام ستنصب منظومة صاروخية اخرى في جنوب شرق آسيا؟
عندما اعلنت الولايات المتحدة قبل سنوات عزمها نشر منظومة الدفاع الصاروخية المزمعة، كان القرار منطلقا من داخلها لاعتبارات خاصة تتعلق بالامن القومي الامريكي، وفق ما يراه استراتيجيو البيت الابيض. ولكن كما هو معروف، فسرعان ما تم توسيع الفكرة المحلية لتضم الآخرين اليها. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان الولايات المتحدة الامريكية أصبحت، على غير ما كان يطرحه 'الآباء المؤسسون' ليست مشروعا حضاريا بل قوة عسكرية بحتة توسع نفوذها ليس بالافكار والاطروحات بل بالقوة العسكرية. هذه القوة تمثل وسيلة هجومية ودفاعية في الوقت نفسه. وحيث ان واشنطن مسكونة بشياطين الحرب والدمار في اللاوعي لدى مسؤوليها، فانها لا تعدم مشاريع التوسع العسكرية، ولا تكتفي بتوقيع المعاهدات الدولية. فبرغم توقيع اتفاقيات الحد من انتشار الصواريخ البالستية (أيه بي ام) والحد من الاسلحة الاستراتيجية SALT في العام 1973 ثم الشق الثاني منها في 1979 ثم اتفاقية خفض الاسلحة الاستراتيجية في 1986، فقد بقيت العلاقات السياسية مؤطرة بالاتفاقيات العسكرية، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي في 1990- 1991. ولا بد من استحضار قضايا ثلاث ساهمت في ايصال العلاقات بين واشنطن وموسكو الى اوضاعها الحالية التي تتسم بشيء من الفتور والتنافس وربما المشاكسة. اولها الانسحاب السوفياتي من افغانستان في 1989 الذي يشبه الى حد كبير الانسحاب الامريكي من فيتنام قبل ذلك بخمسة عشر عاما. كان ذلك الانسحاب عاملا اضعف هيبة موسكو خصوصا مع التغيرات الايديولوجية التي كانت تمر بها آنذاك. ثانيا سقوط منظومة الاتحاد السوفياتي في 1991 وتحول جمهورياته الى انماط من الحكم الديمقراطي، وتحالف الدول الجديدة لاحقا مع الغرب، سواء ضمن الاتحاد الاوروبي ام حلف شمال الاطلسي. ثالثها: تخلي روسيا رسميا عن المشروع الاشتراكي وسعيها للبحث عن هوية تساعدها على الاحتفاظ بحدودها السياسية والجغرافية خصوصا مع تصاعد التوترات السياسية في جمهورياتها الاسلامية. تلك التطورات ادت الى انتهاء ظاهرة القطبين وتفرد امريكا بقيادة العالم.
برغم تلك التطورات المهمة فقد بقيت الولايات المتحدة الامريكية مشغولة بالمشاريع العسكرية الهجومية التي تطرح في ثوب دفاعي. وكان التوجه العسكري قد تضخم في عهد رونالد ريغان الذي جاء في فترة كانت امريكا تستعد فيها للخروج من مرحلة الانطواء الذاتي التي فرضتها تجربة حرب فيتنام. وكان خطابه يدغدغ عواطف الامريكيين ويسعى لاثارة المشاعر الوطنية وتعميق الاحساس بالانتماء، فكان التوجه لتوسيع الامكانات العسكرية واحدا من مستلزمات تلك السياسة. فبالاضافة لتوقيع الاتفاقات العديدة مع ما كان يعرف آنذاك بالاتحاد السوفياتي، طرح ريغان في منتصف الثمانينات ما سمي 'مبادرة الدفاع الاستراتيجية (اس دي آي) التي تغير اسمها بشكل كبير ومضمونها بشكل اقل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ويمكن القول ان تجربة التدخل العسكري الغربي في ازمة الكويت قبل اكثر من عشرين عاما كانت نقطة تحول في التفكير العسكري الاستراتيجي الامريكي، وهو تغير اخذ طريقه الى اوروبا ضمن غطاء الناتو. وعلى مدى العشرين عاما الاخيرة، كانت اولويات الدفاع الاستراتيجي الامريكي تتغير وفقا لما يجري من تطورات على الساحتين السياسية والايديولوجية في العالمين العربي والاسلامي. ويعتبر صعود حركة طالبان اضافة للاسباب التي دفعت واشنطن لاعادة تقييم اولوياتها العسكرية وعقليتها الدفاعية، وخلال هذه التغيرات كانت اوروبا بدرجة من الضعف جعلها تابعة بشكل مذهل للولايات المتحدة. حرب الكويت احدثت تغيرا في تفكير المؤسسة الامريكية التي اصبحت مقتنعة بضرورة تطوير الذراع العسكرية الضاربة للولايات المتحدة. وخلال التسعينات كانت واشنطن تكرس وجودها كقطب واحد يدير العالم، واستطاعت من خلال دورها في حرب الكويت ثم فرض الحصار العسكري على العراق طوال ذلك العقد، تعميق الانطباع بانها القوة الكبرى التي لا تقهر، خصوصا مع تطور مفاهيم الحرب الالكترونية المتطورة. ولربما كان التحالف الغربي (من خلال حلف الناتو) سيتلاشى تدريجيا مع الفراغ الذي احدثه سقوط الاتحاد السوفياتي، وتراجع التحدي الفكري الذي يواجهه. كانت افغانستان التي 'تحررت' من الغزو السوفياتي على موعد مع حقبة من عدم الاستقرار تواصلت خصوصا بعد استلام حركة طالبان الحكم في منتصف التسعينات، واحتضانها تنظيم القاعدة.
يعتبر بروز تنظيم القاعدة وتحديها المباشر للولايات المتحدة وتنفيذ عمليات ضد المصالح الامريكية في مناطق عديدة تطورا نوعيا في العلاقات الدولية، دفع الدول الاوروبية للاستمرار في التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة لمواجهة ما اعتبره الغربيون 'خطرا شاملا' من قبل مجموعات ما سمي وقتها 'الارهاب الاسلامي'. وجاءت حوادث 11 سبتمبر لترعب الغربيين وتدفعهم للمزيد من التقارب والتنسيق على المستويات الامنية والعسكرية والسياسية. وتزامن مع هذا الخطر بروز المشروع النووي الايراني الذي كان قد مر على تأسيسه اكثر من اربعين عاما. وتفاعل الغربيون مع فكرة انطلاق تحد منطلق من مجموعات ما سمي 'الاسلام السياسي' يستهدف الغرب وقد يمتلك السلاح النووي لاحقا. وكان ترويج تلك الفكرة ضروريا لاحداث حالة استقطاب بين الغربيين والعالم الاسلامي، تواصلت حتى الآن. وما تدويل قضية المشروع النووي الايراني وطرحها وكأنها التهديد الاكبر لأمن العالم وسلامته الا حلقة في سياق مشاريع العسكرة في العالم الغربي وتوجيه الرأي العام لاخطار وهمية غير محتملة الوقوع ضمن الاعتبارات المنطقية. وعكف استراتيجيو الولايات المتحدة (بتحريض اسرائيلي مكشوف) على اعادة صياغة خريطة التحديات العسكرية والامنية والسياسية وربما الايديولوجية ايضا التي يمثلها المشروع النووي الايراني. الامر المؤكد ان ذلك المشروع ليس الهدف الحقيقي للحملة الغربية المنظمة، بل ان البعد الايديولوجي للتوازن الاستراتيجي في عالم اليوم هو عنوان التحدي الذي يواجه الغربيين. وجاء الاعلان عن المشروع الامريكي لمنظومة الصواريخ الدفاعية التي تسعى لنصبها في اوروبا تأكيدا لهذا المنحى الفكري الذي يتعمق تدريجيا في اللاوعي الغربي. وربما رضخت روسيا لمسايرة الاستراتيجية الغربية للتصدي للمشاريع السياسية في العالم الاسلامي، ولكنها ادركت اخيرا ان مصالحها سوف تتضرر كثيرا اذا لم تغير موقفها. موسكو ادركت خطر نصب منظومة صواريخ استراتيجية على حدودها في عمق اوروبا، بدعوى انها سوف تتصدى للصواريخ الايرانية التي قد تستهدف الغرب.
منذ طرح المشاريع العسكرية الغربية في اوروبا قبل نصف قرن تقريبا، كانت الدبلوماسية الروسية تسعى لاحتواء الآثار المدمرة لتلك المنظومات لعلمها انها تستهدفها بشكل اساسي لانها الجهة الوحيدة التي تملك اسلحة استراتيجية قادرة على تحدي الدرع الامريكي الجوي. ولذلك تساءلت عما اذا كانت تلك المنظومة تهدف حقا لمواجهة ايران التي لا تمتلك حتى الآن سلاحا نوويا ام روسيا التي ورثت شطرا كبيرا من الامكانات العسكرية السوفياتية. فتحت عنوان توسيع استعدادات حلف الناتو لمواجهة الاخطار العسكرية المرتقبة مستقبلا، طرح المشروع العسكري المذكور، وهو مشروع امريكي فرض على حلف الناتو من قبل واشنطن. فلدى امريكا في الاساس مشروعان متوازيان للدفاع عن اراضيها ومصالحها. الاول نظام الدفاع الصاروخي لمسرح العمليات ويهدف لمنع الهجمات الصاروخية التي تستهدف مواقع عسكرية محدودة داخل الاراضي الامريكية، والثاني يعرف باسم 'نظام الدفاع الصاروخي القومي'. ويشعر الامريكيون ان مصالحهم مستهدفة بشكل مستمر من قبل قوى خارج الحدود، تتغير اسماؤها ومواقعها وايديولوجياتها وتشترك جميعا في العداء للسياسات الامريكية. هذه الفرضيات اصبحت تمثل ارضية لمشاريع الدفاع الاستراتيجية التي تعتبر ان المشروع النووي الايراني معاد لها وان عليها الاستعداد لمواجهته. ولذلك اعتبرت الجمهورية الاسلامية الايرانية ان نصب منظومة الصواريخ الدفاعية في اوروبا يستهدفها بشكل مباشر فعارضت ذلك بشدة. وتشعر طهران بامتعاض شديد من موافقة تركيا على نصب تلك المنظومة على اراضيها التي ترى انها موجهة ضدها. من جانبها سعت انقرة لطمأنة ايران بان الوضع ليس كذلك وان السماح باقامة الشبكة الرادارية التابعة لمنظومة الدفاع الصاروخية يتأسس على امور ثلاثة: اولها انه تعبير عن وفاء تركيا بالتزاماتها العسكرية تجاه الناتو التي تنتمي اليه، وثانيها: انه لا يستهدف ايران او اية دولة اخرى بل انه وسيلة دفاعية لصد الصواريخ البالستية التي قد تطلق ضد الدول الغربية. ثالثها: ان تركيا ملتزمة بحسن الجوار مع ايران ولا تسمح بالمساس بسيادتها من داخل الاراضي التركية. ولكن الجمهورية الاسلامية ترفض وجود قوات او منشآت عسكرية عملاقة على حدودها ليس في تركيا فحسب بل في العراق وافغانستان واذربيجان ودول مجلس التعاون الخليجي. انه موقف يعبر عن قلق عميق لدى طهران بان الولايات المتحدة تخطط لاستهدافها بوتيرة اسرع مما كان متصورا.
الامر المقلق ان بدء تشغيل المنظومة الرادارية الامريكية في تركيا يعني ان واشنطن اطلقت الرصاصة الاولى ليس في الحرب النفسية او الباردة فحسب، بل على طريق الاستعداد لمواجهة عسكرية محتومة مع الجمهورية الاسلامية.
ومن المؤكد ان الرئيس اوباما، على عكس ما يشاع عنه، جاد في استهداف ليس ايران ومشروعها النووي فحسب بل القوى الاسلامية الصاعدة في المنطقة خصوصا التي ترفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. وقد اكدت مصادر امريكية مؤخرا ان اوباما لا يقل شراسة عن سابقه تجاه معارضي السياسات الامريكية والاسرائيلية. وبرغم لهجته الأقل حدة من لهجة سلفه جورج دبليو بوش، فانه هو الذي استهدف تنظيم القاعدة بتصميم واضح، ويكاد يستأصلها من افغانستان بعد ان استطاع قتل زعيمها اسامة بن لادن. وتؤكد المصادر انه اعطى موافقته الشخصية على تكثيف استخدام طائرات 'درون' التي تعمل بدون طيار لاستهداف رموز تنظيم القاعدة في افغانستان وباكستان واليمن، وان اوباما لم يعبأ بالاعتراضات الباكستانية على تلك العمليات، برغم الاحتجاجات الرسمية والتظاهرات المتواصلة ضدها. ولا يستبعد توسيع دائرة تلك العمليات، بالاضافة الى الدرع الصاروخية التي سوف تنصب في قلب اوروبا وتركيا، لتستهدف ايران بشكل مباشر. وبرغم التطمينات التركية فان ايران تعلم ان ما جرى في باكستان سيجري في تركيا. فالحكومة الباكستانية ليست راضية عن العمليات اليومية التي تستهدف رموز تنظيم القاعدة وغيرهم، ولكنها لا تستطيع ان تمنعها.
كذلك فان السماح للقوات الامريكية ومنظومتها الصاروخية بالتمركز في الاراضي التركية سيلغي سيادة تركيا على اراضيها ويحول اراضيها الى منطلق لعمليات عسكرية امريكية اسرائيلية ضد جهات ليست معادية لتركيا. والامل ان يستوعب الاتراك ان التنازل عن السيادة للارادة الامريكية تحت عنوان الوفاء بالتزاماتها تجاه الناتو، سوف يدخلها في دوامة اخرى من المشاكل التي ستضر بامنها القومي كما يحدث في باكستان. ان انقرة مطالبة بموقف قوي ومبدئي يمنع التنازل عن السيادة الوطنية والالتزامات الدينية والاخلاقية ازاء الجيران والاصدقاء، وهذا لن يتحقق الا بقطع الطريق على واشنطن وتل ابيب خصوصا في المجال العسكري.

copy_r