رغم الإفلاس الإقتصادي والأخلاقي للغرب أو في الحد الأدنى ما يبدو من بوادر
على ذلك من خلال تحليلات الإعلام الغربي الموضوعي نفسه كالبي بي سي والسي إن
إن، ما تزال دول الخليج العربي مصرة على أن تُيَمِّمَ وجهها شطر القبلة
الإقتصادية الغربية المتخبطة كدجاجة قُطعت رأسها للتو، وكأن البوصلة الخليجية
مبرمجة في اتجاه واحد ومن المُحال فك شفرتها أو الكود السري الخاص بها، أو كأن
حكومات الخليج العربي تفترض أو تجزم أن الغرب هو مصدر أمنها، إنْ سقط الغرب
سقطت هي.
يبدو أن الخليجيين بناء على ما تقدم ليسوا قراء جيدين لِما تخطه الرمال
الإقتصادية على طريقها وهي تتحرك لولبيا صوب الصين والهند ودول 'البْرِكْسْ
brics' الأخرى (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) رائدة الإقتصادات
الطالعة من رحم الإحتكار الرأسمالي الغربي، الذي سهُل كسره في العِقد الأخير
تقريبا نتيجة للتفكك الإقتصادي والمالي لدول الغرب. لقد دأبت دول الخليج العربي
مجبرة في معظم الأحيان أن تلعب دور الميزانية الإقتصادية الخلفية أو اقتصاد
الظل لدول الغرب لعقــــود، وها هي ذي الآن تحاول أن تسهم في إنعاش الغرب
المترنح إقتصاديا من خلال صور شتى كإغراق السوق النفطية لتخفيض سعر البرميل أو
من خلال ضخ مليارات في سوق الإستثمارات الغربية التي تفيد الغرب أكثر مما تفيد
الخليج العربي.
إن أزمة الديون الأوروبية والأمريكية المترتبة عليها عُجوزٌ في الميزان التجاري
وفي ميزان المدفوعات وفي الميزانية السنوية وانخفاض الناتج الإجمالي المحلي
والتضخم نتيجة لارتفاع الأسعار ولانكماش مستويات التصنيع وتزايد العاطلين عن
العمل وغيرها ومع أن المعلن عنها لا يعبر عن حتى واحد في المائة من حقيقة الوضع
الإقتصادي المتأزم لحد الإحتضار، ليست بالضرورة أسبابها إقتصادية مالية محض
فثمة أسباب أخلاقية أو 'تدهور أخلاقي' كما كان يصفه الزعيم الصيني العظيم
(ماوتسي تونغ) عندما سأله مرة مذيع في البي بيسي عن سبب بقاء الصين داخل سورها
وخارج 'العالم المتقدم'، وبالتالي فإن الوضع الإقتصادي الغربي أكبر بكثير من
محاولات بعض حكومات الخليج العربي لترميمه أو ترقيعه.
إذن الإفلاس الأخلاقي للغرب في المجتمع والإقتصاد والسياسة أدى إلى الإفلاس
الإقتصادي الحالي الذي تحول إلى مادة للتندر في الصين وفي بلدان الإقتصادات
الجديدة الأخرى. تحاول الولايات المتحدة الأمريكية قائدة الإقتصاد الرأسمالي في
الغرب منذ سنوات تعويض خسائر مشروعيها الفاشلين إقتصاديا وسياسيا وعسكريا وفوق
كل ذلك أخلاقيا نتيجة غزو العراق وأفغانستان، وهي محاولات بائسة يائسة مستميتة
عديمة الجدوى لترميم إقتصادها خلقت إشكاليات لدى الحكومة الأمريكية مما حدى بها
فتح جبهة خارجية مع إيران وسورية وإن كان إعلاميا وكلاميا فقط لتشتت الرأي
العام الأمريكي والغربي ودافع الضرائب الأمريكي العادي في اتجاه عدو خارجي
جديد، تحت شعار حماية العالم من السلاح النووي الإيراني الذي لا يظهر أن إيران
تمتلكه تارةً وتارة أخرى بدعوى مساندة ما أطلقت عليه هي 'ثورات الربيع العربي'.
بالنسبة لإيران فإن الغرب بقيادة عراَّبه يكرس إفلاسه الأخلاقي في السياسة
بإغراقه في 'المكيافيلية' القبيحة وفقَ أن 'الغاية تبرر الوسيلة' والكيل
بمكيالين والمعاير المزدوجة إذ أن الغرب يصرف النظر عن الترسانة النووية وغيرها
من أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية التي هو من بناها ويتنادى صباحَ مساء إلى
نزع بوادر السلاح النووي الإيراني ولو كان سلميا، مما يشكل قمة في الإفلاس
الأخلاقي في السياسة والقيم الديمقراطية وحقوق الآخرين والإنتقائية. وأما
بالنسبة لمساندة الثورات الشعبية العربية ضد حلفائه الحكام العرب التقليديين
فالغرب يعلم أن الثورات منتصرة وبالتالي يريد هو من يقطف ثمرة ربيعها ولذلك
غازل الشارع العربي بعبارة 'الربيع العربي' الذي هو ربيعه هو وأما الثائرون فهم
يخوضون معارك الدم الأحمر القاني للحصول على الحرية التي حرمهم منها الغرب نفسه
عندما كان يساعد الحكام المستبدين. وما يزال الغرب وفيا لإفلاسه الأخلاقي
بتكريس دعم حكام آخرين لا يقلون عن نظرائهم البائدين سوءاً واستبدادا وقمعاً
وديكتاتورية في الوقت الذي يدعون إلى إرساء الديمقراطية في بلدان غيرهم ومن
شابه عرابه ما ظلم. إنها منتهى الإفلاس الأخلاقي وقمة التناقض مع الذات.
وعوضا عن ذلك، ينبغي لدول الخليج العربي أن تحول القبلة التي كانت عليها إلى
قبلة الصين. فإن في الصين دروسا -و هي آسيوية كمجتمعات دول الخليج العربي- يمكن
تعلمها والإستفادة منها الآن وبعد أن تشح الموارد الخليجية الإستراتيجية لأن
دوام الحال من المُحال أو هكذا علمنا التاريخ. فمثلاً إستطاعت الصين ذات
المليار ونصف المليار نسمة أن تخفض الأسعار وبالتالي التضخم بعد نحو عامين من
التضخم وارتفاع الأسعار وخاصة أسعار المواد الغذائية نتيجة للسياسات الأمنية
الغذائية للصين والإدارة الإقتصادية والسياسية الناجحة، رغم إفتقار الصين لسلع
إستراتيجية مثل البترول. فعلت الصين ذلك في الوقت الذي تتخبط فيه إقتصادات
الرأسمالية الغربية. وقد حققت الصين في العقد الأخير الإقتصاد الأسرع نموا
عالميا ولديها تريليونين (ألفا مليار) دولار من إحتياطي العملات الصعبة.
ومع أن في الصين أعدادا كبيرة من الشحاتين وخاصة في المدن الكبرى كبيجين وشنجاي
إلا أنه حسب النسبة والتناسب أقل بكثير من الشحاتين في المدن الأمريكية مثلاً
حيث يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية زهاء مائتين وستين مليون نسمة
ومع أن في الصين فقراء يعيشون على الكفاف ويُقدرون بنحو خمسين مليون نسمة إلا
أن الصين لم تمر بأزمة مجاعة على الأقل خلال تاريخها المعاصر. ألا يجدر بكذا
تجربة فريدة أن تحتذيَ وتتعلم منها دول الخليج العربي المستمرة بإصرار غير مبرر
وأحيانا غير مفهوم في ربط عملتها بالدولار، وإسناد ظهرها (لحائط وول ستريت)
الذي يطالب الأمريكيون أنفسهم باحتلاله باعتباره رمزا للإفلاس الأخلاقي و
الإقتصادي وسبب كل ويلاتهم.
القدس العربي