gulfissueslogo
خطأ في الحسابات أم اختيار موفق لأهون الشرّين
الموقف السعودي من الأزمة العراقية
د.حمزة الحسن

 ربما فاجأ الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي العالمين العربي والإسلامي بإعلانه عبر محطة السي إن إن الأميركية (15 سبتمبر 2002) استعداد المملكة للمشاركة في إسقاط النظام العراقي إذا ما صدر قرار من مجلس الأمن، في خطوة اعتبرت انقلابية على المواقف المعلنة للمملكة والرافضة لتوجيه ضربة عسكرية للعراق وتغيير نظامه بالقوة، وما قيل عن تحول في الموقف السعودي تجاه العراق أثناء قمة بيروت العربية الأخيرة وما اعتبر بادرة مصالحة بين البلدين.
 
مبررات الدهشة لا تقف عند مجرد إعلان الإصطفاف مع الحملة الأميركية المزمعة وتوقيتها.. فالمملكة بدت وكأنها أوّل من تمرّد على قرارات القمّة العربية وعلى مبادئ كل من الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كما بدت كأوّل من جاهر بإعلان الإستعداد لدعم الحملة الأميركية العسكرية المتوقعة وإن جاءت بشروط وضمن تبريرات الرضوخ للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وهي مبررات يصعب هضمها، وكان يكفي المملكة عدم معارضتها إذا ما شاءت ولكن ذلك لا يتطلّب دعمها المباشر.
 
كان لدى بعض المحللين آمال بصمود الموقف السعودي واستمراريته في الرفض لأي حملة عسكرية توجه للعراق، انطلاقاً من التحليل القائل بأن المملكة ستكون واحداً من الأهداف التالية للحملة الأميركية، وأن المملكة ستكون في أقلّ الأحوال خاسرة سياسياً واقتصادياً إذا ما تمّ تغيير نظام الحكم في العراق بالطريقة التي يريدها الأميركيون.
 
الحالمون أسرفوا كثيراً في أحلامهم، وتخيّلوا أن المملكة يمكن أن تنقلب على الولايات المتحدة الأميركية وتستخدم كل أوراق الضغط لديها في المواجهة، ولربما ساورهم شعورٌ بأن المملكة بعد تطواف وزير الخارجية السعودي على إيران وغيرها بأنها قاب قوسين أو أدنى على تشكيل تحالف واسع يقف بوجه الخطط الأميركية. لكن ذلك كان إسرافاً في الحلم من وجوه عدّة. فالمملكة لا يمكن أن تنقلب بين ليلة وضحاها على حليفتها وربما حاميتها باتباع منهج سياسي (انقلابي ـ ثوري) لم تمارسه من قبل. المملكة في الأصل تشترك مع الولايات المتحدة في الرؤية القائلة بعدم الثقة في الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه، بل هي في الأساس ليست راغبة في وجوده وتعتبر استمراره إستمراراً للتوتر في المنطقة. والمملكة وفق هذا لا يمكن أن تربط مصيرها بمصير النظام العراقي.
 
إن خلاف المملكة مع الولايات المتحدة في الموضوع العراقي لا يتعلق ببقاء نظام صدام حسين، ولكن بأمرين أساسيين: بمن يخلف النظام القائم هناك، وهي تشير هنا الى أنها لا ترغب في سيطرة الأكثرية الشيعية على الحكم، ولذا وقفت ضد الإنتفاضة الشعبية عام 1991 وتمنّت على الولايات المتحدة عدم مساعدتها بل إخمادها؛ والأمر الآخر يرتبط بالكيفية التي يتمّ بها تغيير نظام الحكم. وإذا كانت الإنتفاضة الشعبية صعبة التكرار في الوقت الحاضر، وكذلك إمكانية تدبير إنقلاب عسكري، فإن المملكة لا ترغب في قيام هجوم أميركي عسكري مباشر لأسباب تبدو منطقية للغاية، وتفضّل تدبير خطط أخرى إنقلابية من داخل النظام لتحقيق ذلك، وهذا ما عرضه رئيسا الإستخبارات السعوديين القديم الأمير تركي الفيصل والجديد الأمير نواف بن عبد العزيز، وهو أمرٌ لم يكن الأميركيون يرفضونه بقدر ما يشعرون بعجز حقيقي وعدم مقدرة بشأن تحقيقه.
 
مبررات المملكة لرفضها تغيير النظام في العراق عبر حملة عسكرية أميركية مباشرة وبدون سابق إنذار أو مبررات منطقية أو حتى تدرّج مرحلي يصعب التحقّق منها بالكامل. ابتداءً يجب القول بأن قبول المملكة بالحملة العسكرية المباشرة لا يعني مجرد الموافقة كأي دولة أخرى توافق أو تعترض، بل يستتبعها بشكل شبه إلزامي، إن لم يكن إلزامياً بالفعل، المشاركة فيها بفعالية، وهنا يكمن الحرج. ففي الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتحدة كعضلة عمياء تبطش بمن أمامها، ويتزايد الغضب الشعبي الداخلي والعربي والعالمي ضدّ سياساتها، حاولت المملكة أن لا تظهر بمظهر التابع المنقاد لكل ما تأمر به واشنطن. ثم إن رفض الحكومة السعودية الأولي للهجوم الأميركي (المنفرد) ينسجم مع الإجماع الشعبي العربي، ومع التيار السياسي العام لدى الحكومات العربية، ومع الموقف الدولي الذي بدا رافضاً لفكرة التفرد الأميركي في الهجوم.
 
حاولت المملكة ولفترة وجيزة أن تثني الولايات المتحدة عن موقفها، وكأنها أرادت أن تجرّب فعالية الأوراق التي بيدها من جهة، ومن جهة ثانية أن تجد لها المعاذير والمبررات فيما لو لم تتمكن من المضي في سياستها. إن وقوف المملكة ضد "طريقة" إسقاط صدام يحمل في طياته دفاعاً عن النفس من توحش السياسة الأميركية. لا شك أن المسؤولين في المملكة شعروا بأن نجاح الولايات المتحدة في تغيير النظام العراقي وبالقوة يعدّ سابقة قابلة للتكرار مع الأنظمة التي لا ترغب في بقائها. ولما كان نظام الحكم في المملكة نفسه يواجه بعدم ثقة حقيقي من قبل بعض الأطراف النافذة في الإدارة الأميركية تمظهرت في الحملات الإعلامية وبعض التصريحات الحادّة ضد نظام الحكم وضرورة تغييره وربما تقسيم المملكة نفسها.. كان لزاماً عليه أن يحتاط الى المستقبل.
 
بيد أن المسؤولين السعوديين أعادوا حساباتهم من جديد: فهم يأملون من جهة أن تكون الحرب مع العراق في قادم الأشهر، آخر الحروب التي يتحملها المجتمع الدولي، وبالتالي لا خطر جدّي على نظام الحكم في المملكة، أو يمكن الإنخراط في المشروع الأميركي ضد العراق على أمل تخفيف حدّة الموقف الأميركي تجاهها في المستقبل. وهذا أمرٌ غير مأمون العواقب حتى الآن.
 
ومن جهة ثانية رأى القادة السعوديون أن حملة عسكرية لا يشاركون فيها قد تسفر عنها نتائج غاية في الخطورة حسب تحليلهم: فمكانة المملكة الإقتصادية والسياسية وحتى العسكرية ستتقلّص مقابل صعود لمكانة العراق الإقليمية واعتماد أكبر للولايات المتحدة على النظام البديل في العراق أكثر من السعودية نفسها، خاصة في المجال الإقتصادي. لقد حرصت الإدارة الأميركية أن توصل رسالة الى الأمراء السعوديين تفيد بأنهم في غنى عن الدعم السعودي، وأن ما تحتاج اليه تستطيع توفيره من قواعد انطلاق وهجوم ومراكز قيادة وحتى تمويل من أماكن أخرى ليست بعيدة عن المملكة نفسها، ومعنى هذا ان مكانة المملكة في الإستراتيجية الأميركية آخذة في الإنحدار لصالح قوى إقليمية، وهذا يفضي بالضرورة الى عدم اهتمام الإدارة الأميركية ببقاء النظام السعودي أو الدولة السعودية نفسها.
 
هذا يفسر بشكل جزئي أسباب انقلاب سياسة المملكة من موقع الرافض والحاشد للرفض العربي ولجيران العراق (إيران) ضد الضربة الأميركية الى الإعلان عن استعدادها للمساهمة والمشاركة فيها.
 
بعد نحو خمسة أشهر من الممانعة السعودية والضغط الإعلامي والتهديد المبطن الأميركيين للسعوديين، توصّل السعوديون الى ما يشبه الحقيقة المرّة وهي: أن الولايات المتحدة مصممّة على المضي في خططها للتخلص من النظام السياسي في العراق، وأن ممانعة المملكة وعدم مساهمتها في الضربة لن يؤثر كثيراً مع وجود البدائل العسكرية الخليجية (القواعد العسكرية في قطر والبحرين والكويت وسلطنة عُمان) وقد دعم الأميركيون عزمهم بخطوات عمليّة متواصلة أزعجت المسؤولين السعوديين وكأنّ موافقتهم أو رفضهم لا يعني كثيراً للإدارة الأميركية.
 
هنا وجد القادة السعوديون، ومن قبلهم المصريون والأردنيون إضافة الى قادة دول الخليج الأخرى، أن من الخطأ الظهور بمظهر المعارض للضربة الأميركية، خاصة مع ظهور تبدلات واضحة في المواقف الدولية وفي مقدمتها (فرنسا). الوقوف الى جانب النظام في العراق إذن لن ينتج عنه سوى زيادة تعقيد العلاقات الأميركية ـ السعودية، وتراجع في الإعتماد الأميركي على السعودية وما له من آثار منظورة على استقرار النظام السياسي في المملكة نفسها.
 

مسألتان أخريان ربما أخذهما صانع القرار السعودي في حساباته.


 
الأولى، أن المملكة برفضها المساهمة في عملية تغيير النظام العراقي قد تفتح باب عداء على مصراعية مع النظام البديل فيما لو تحقق. ولربما وجدت أن من الأصلح لها أن لا تبدو معادية ربما مع النظام القادم في العراق، وأن تستخدم ما يتوفر لها من أوراق مع أطراف المعارضة العراقية خاصة المقيمة منها في المملكة فتضمن أن لا يتحول النظام القادم الى معادٍ. ولربما هذا ما يفعله الإيرانيون والأردنيون وآخرون. ولعلّ زيارة الرئيس خاتمي الى السعودية الأسبوع الماضي وتنسيق الدولتين مع سوريا يمنح الجميع تأثيراً على نوعية الحكم القادم في العراق، بحيث لا يتحول بشكل تام الى دمية توجهها الولايات المتحدة ضد جيران العراق. ومرة أخرى، فإن التجربة الإيرانية في أفغانستان، حالت حتى الآن من تحوّل الأخيرة الى شوكة في الخاصرة الإيرانية.
 
المسألة الثانية، وتتعلق بمعضلة بقاء النظام في العراق. فالشعور في المملكة لا يرى قدرة على التعايش معه. وحتى إذا كانت المملكة لا تتمنّى الضربة القاصمة، فإنها تدرك بأن البديل هو خروج النظام في العراق من هذه الأزمة منتصراً بالشكل الذي سيؤدي الى انهيار كامل للحصار وتضخّم كبير للقوة العراقية سياسياً واقتصادياً، وربما يُشعر ذلك بعض دول الخليج كالكويت والسعودية بحتمية البقاء تحت التهديد العراقي، ولربما تمّ تحريض القيادة العراقية مجدداً من قبل الغربيين كيما تصبح دول الخليج رهينة أميركية بشكل كامل، إن لم تكن بالفعل كذلك الآن.
 
توصل المسؤولون السعوديون بأن موضوع العراق (مستنقع) بل هو أكثر من ذلك: إنه (مصيدة) بكل ما تحمل من مخاطر محدقة. وبدأ السعوديون بتقديم التنازلات الواحد تلو الآخر على أمل ظهور فرصة في الأجواء السياسية تستخدم كذريعة لتبدّل موقفهم وتغيّر خطابهم السياسي.
 
كان لقاء بندر الأخير بالرئيس بوش نقطة التحوّل، فقد قدّم السعوديون مقترحاً للإدارة الأميركية يفيد بأن المملكة لا تمانع من استخدام قواعدها العسكرية كمركز قيادة للحرب كما فعلت واشنطن بالفعل أثناء الحملة على أفغانستان، وقالت الرسالة بأن المملكة لا تمانع أيضاً في استمرار المراقبة الجوية للوضع العراقي عبر طائرات الأواكس وغيرها، واستخدام المعلومات التي تتحصّل عليها في الهجوم.. يضاف الى هذا، وعد السعوديون الأميركيين بتخفيف لهجتهم المعارضة للحملة التي قالوا أنها لإستهلاك الرأي العام المحلي والعربي.
 
قيل أن الإدارة الأميركية شكرت المملكة على عرضها وإن كان المتوقع منها أكثر من ذلك، وألمحوا بشكل خاص الى أن المطلوب من المملكة بالذات أكثر من أي دولة بالنظر الى مساهمة سعوديين في أحداث 11 سبتمبر. في ذات الفترة، ترددت أنباء بأن القيادة السعودية أعدّت شروطاً على شكل مقترحات للمساهمة في الحملة الأميركية لإسقاط النظام في العراق جاء في مقدمتها الحصول على وعد من الإدارة الأميركية بأن لا تتعرض المملكة للتهديد وأن تخفف لهجة العداء لها من قبل المسؤولين الأميركيين وأن تبذل الإدارة الإميركية جهداً أكبر لتسوية أزمة الصراع العربي الإسرائيلي. أيضاً قيل أن مصر أعدت قائمة بنفس المعنى ولكن فيما يبدو لم تحصل الدولتان على إجابات قاطعة ومحددة.
 
قبل خطاب بوش بنحو اسبوعين، بدأت لغة الإعلام السعودي المحلي والصحافة السعودية هادئة تجاه المواقف الأميركية وخطط واشنطن، ثم بدأ الإعلام السعودي بالتصعيد ضد نظام الحكم في العراق متهماً إياه بأنه يسعى الى توريط البلدان العربية في صراعات لا قبل لها بها، وقبل أن يلقي الرئيس بوش خطابه في الأمم المتحدة، وفي الحقيقة قبل أن يلتقي الأخير برئيس الوزراء البريطاني كان وزير الخارجية السعودي يلتقيه قبل ساعات من مغادرته لندن ويحمّله رسالة من قيادة المملكة ترجوه إقناع الرئيس الأميركي بإيجاد فرصة لحلفاء الولايات المتحدة تبرر اصطفافهم معها وإخراج الموضوع عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتعهدت المملكة مرة أخرى بأنها ستقف مع واشنطن في حربها إذا ما تمّ إخراج الأمر تحت مظلّة الأمم المتحدة.
 
بمجرد أن ألقى بوش خطابه ضد العراق في الأمم المتحدة صارت بيد عدد من الأنظمة العربية ذريعة للضغط على العراق كي يقبل عودة فرق التفتيش دون قيد أو شرط، وهو ما حدث بالفعل، ومن جهة ثانية أكد النظام العربي الرسمي تهديده بأنه لن يستطيع الدفاع عن الموقف العراقي إذا لم يقبل بعودة المفتشين، وبالنسبة للمملكة فإنها زادت في الأمر بالقول أنها قد تنخرط في الحملة العسكرية مباشرة (بالطبع سيكون ذلك عبر استخدام أراضيها وأجوائها وربما نفطها وأموالها وسياساتها وإعلامها). مصر عبر تصريحات رئيسها ووزير خارجيتها تغيّرت، وقطر قالت بأنها ستدرس طلباً أميركياً باستخدام قواعدها، وحصل أيضاً انحناءً في المواقف العربية الأخرى بل في الأعلام العربي الرسمي بمجمله.
 
السؤال رغم تحوّل الموقف السعودي يدور حول انعكاسات تغيير الوضع العراقي مستقبلاً على المملكة والآثار السلبية المحتملة في حال اشتركت في الحملة على الوضع السعودي الداخلي وعلى سياساتها الإقليمية، وما إذا كانت المشاركة السعودية الفاعلة والمحتملة سترضي واشنطن بالتخلّي عن التغيير شبه الجذري الذي تطلب من القيادة السعودية التجاوب معه.
 
من المؤكد أن وقوف المملكة الى جانب الولايات المتحدة سيؤدي الى تآكل سريع في شرعية النظام السياسي خاصة بين قاعدته الإجتماعية المفضلة (أي بين التيار السلفي الديني) وكذلك بين النخب السعودية المتعلمة. هذا التآكل والتراجع في الرصيد المعنوي لا تستطيع العائلة المالكة تعويضه من خلال علاقات حميمة مع واشنطن يراهن على تطويرها أو إعادة الدفء اليها من جديد، بل على العكس من ذلك. كما أن القيادة في المملكة لا تميل الى إحداث تغيير هيكلي وحتى سطحي ربما في نظامها السياسي بالشكل الذي يؤدي الى توحيد الجبهة الداخلية خلف العائلة المالكة وفق أسس وطنيّة. كما أن هذه القيادة غير قادرة في المدى المنظور على تحقيق إنجاز اقتصادي يمكنها من خلاله امتصاص النقمة السياسية أو تلطيف الشعور بالسخط. على العكس من ذلك، من شبه المؤكد أن تتفاقم الأزمة الإقتصادية في المملكة لتصعّد من الإحتقان السياسي الداخلي.
 
أيضاً من شبه المؤكد أن المملكة لن تفلت هذه المرّة من آثار الأزمة العراقية، حتى وإن خرج النظام في العراق سليماً معافى، ذلك أن أي تطور لا يؤدي الى سقوط النظام في العراق يعني أنه خرج من الناحية المعنوية منتصراً متضخّماً مرات ومرات، كما سيعني الخروج من أزمته الإقتصادية والسياسية بقدر كبير. في هذه الحالة سيلازم دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العبء الأمني والسياسي للعراق. أما في حال تمّ تغيير النظام العراقي، فإن ذلك سيكون بوابة لتحولات كبرى في المنطقة العربية، طالما حرص النظام العربي الرسمي على التخويف من نتائجها، ومثل هذه التحولات ستكون بعيدة الأثر سريعة الوقوع.
 
ستحاول المملكة ـ ضمن تحليل لاستشراف المستقبل ـ الحدّ من تأثيرات التغيير في العراق ولكن بوسائل تقليدية شديدة: من بينها إصلاح علاقاتها مع النظام الجديد ورموزه، وستحاول الإلتصاق أكثر بالولايات المتحدة الأميركية وسياساتها على أمل أن لا تتوجه الإدارة الأميركية بضغوطها على القادة السعوديين لإصلاح أنظمتهم السياسية والتعليمية والقضائية وغيرها، وهي بهذا قد تستطيع في أحسن الفروض الحدّ من الضغط الأميركي ولكنها لن تستطيع الإنفلات منه بشكل كامل.
 
اما على الصعيد الداخلي، فإن العائلة المالكة عوّدت الرأي العام السعودي على عدم تقديم أيّ تنازلات حقيقية. بعيد أزمة احتلال الكويت التفّت القيادة في المملكة على مطالب الإصلاح بوسائلها الخاصة: تأسيس مجلس شورى معيّن لا قيمة له تذكر حتى الآن، وإصدار نظام أساسي للحكم ـ دستور لم يتضح حتى اليوم أن له موقعاً من الإعراب السياسي، ومجالس مناطق لم تقلّص شيئاً من مركزية الحكم الشديدة. في هذه المرة، أي في حال تمّ تغيير نظام الحكم في العراق، فإن الأوراق التي بيد القيادة السعودية قليلة جداً، فاستمرار منهجية إغلاق أبواب التغيير السياسي المترادف مع إحكام النوافذ الإقتصادية (أي عدم القدرة على تحقيق منجزات إقتصادية للشارع) تنذر بانفجار غير محسوب النتائج.
 
لكي تتخلص من بعض الضغوط، يرجح أن تقدّم العائلة المالكة بعضاً من التنازلات للتيار السلفي من أجل مواجهة دعوات الإصلاح المؤسسة على قاعدة وطنية من جهة، ومن جهة أخرى لضمان كبح جماح التيار الأكثر خطراً وعنفاً من وجهة نظرها، حتى وإن كانت مثل هذه الخطوة لا تلق قبولاً من القوى المحلية والدولية (الأميركية). الأكثر احتمالاً هنا، هو أن يتمّ استبدال الدور (السلفي) على الصعيد الداخلي عبر وضعه في مواجهة القوى المجتمعية الفاعلة الأخرى وتجريده في نفس الوقت من بعض قواه الحيّة من خلال الإستحواذ على مؤسساته الأكثر إثارة للرأي العام المحلي والدولي. من الممكن جداً، أن تطلق اليد (السلفية) لتمارس دورها في أمور تبدو للبعض هامشية، وهي في ذات الوقت من المطالب المركزية لدى التيار في ما يتعلق بالدعوة المذهبية وقسر الآخر عليها، وتدمير ما يعتبر تراثاً إسلامياً (مقبرة آل البيت وقبر السيد علي العريضي في المدينة، وإخراج قبر الرسول من المسجد النبوي) وربما إعطاء بعض الصلاحيات لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.
 
لا يتوقع النجاح لهذه الوسائل القائمة على التلاعب بالقوى الإجتماعية الداخلية ووضع بعضها مقابل البعض الآخر في تأخير الإصلاح الداخلي، إن لم تنقلب بالفعل وتشكّل محفّزاً إضافياً لتحقيقه. وربما أيضاً لا تمرّ الإصلاحات إلاّ بعد وقوع تحوّل خطير في الشارع السعودي، وحدوث شغب ينذر بعدم السيطرة عليه، مترافقاً مع كسر النخب السعودية لحواجز التهميش والصمت بحيث تتعالى الأصوات الداعية والدافعة باتجاه الإصلاح.
 
هنا يمكن توقّع ـ في مرحلة ما بعد تغيير نظام الحكم في العراق ـ إتخاذ طاقم الحكم قراراً بتوسيع هامش حرية التعبير في الصحافة المحلية، لن يكون على الأرجح كافياً لتنفيس الغضب الداخلي، ولا كافياً لإرضاء الحليف الأميركي. وقد يفرض الوضع الداخلي بنخبه ومثقفيه نفسه ويوسّع هامش الحرية عبر الممارسة قبل أن تكون عبر القرار الرسمي.
 
ويحتمل أن تتضافر الضغوط الداخلية الشعبية والنخبوية، بالتزامن مع الضغوط الأميركية المرفقة بتهديد النظام السعودي نفسه أو بتقسيم المملكة بحجة عدم قدرته على الإيفاء بمتطلبات السياسة الأميركية المتعلقة بضبط الإرهاب القادم من السعودية نفسها، أن تتضافر في خرق احتكار السلطة وإشراك الجمهور فيها عبر انتخاب مجلس شورى جديد، وتحسين وضع حقوق الإنسان وبالذات حقوق المرأة، إضافة الى إصلاحات في القضاء وتوسيع هامش حرية التعبير.
 
هذا أحد السيناريوهات المتوقعة. أما أسوؤها، فهو الوقوف بوجه التيار المحلي، ومقاومة الضغوط الخارجية، والسير عكس المناخ الإقليمي، وبالتالي فإن حدود اللعبة ستكون مفتوحة على كل الإحتمالات.
 
 
 
عن القدس العربي 18-09-2002
 

copy_r