gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
الغرب والحرب وحقوق الانسان
د.سعيد الشهابي

2011-12-20

ليس من المبالغة في شيء القول بان الغرب يعيش هذه الايام واحدة من اشد الازمات التي واجهته منذ الحرب العالمية الثانية.
فبالاضافة للازمة المالية المتواصلة التي لا تبدو نهاية لها في الافق المنظور، هناك ازمات تتعلق بالسياسات الغربية تجاه قضايا العالم، ودور حلف الناتو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وازاء الحرب ضد الارهاب، والعلاقات مع المسلمين والعالم الاسلامي، والموقف من الربيع العربي، وايران. والواضح ان ادارة اوباما عاجزة عن قيادة العالم الغربي في القضايا الاساسية، كما حدث في ازمة ليبيا عندما تراجعت الولايات المتحدة عن قيادة العمليات. ولا تنحصر الاختلافات ضمن الحدود السياسية والعملية، بل تمتد لتشمل المفاهيم الانسانية وأسس العلاقات الدولية، وحقوق الانسان. وحتى الحديث عن الغرب اصبح مشوشا في مصطلحاته. فما هو هذا الغرب؟ أهو الدول التي كانت قائمة قبل الحرب الباردة؟ وهل ستعيد الازمات المالية الحالية رسم الحدود داخل اوروبا؟ وهل ستؤدي المغامرات العسكرية الامريكية الى تجاوز الحرب الباردة لتضع العالم مجددا على اعتاب حرب عالمية ثالثة خصوصا مع تصاعد التوتر مع روسيا والصين؟
ربما لا يشعر الكثيرون بهذا التوتر، ولكن لا شك ان استمرار الكساد الاقتصادي في الغرب، واستمرار نموه في الصين من جهة، وسعي روسيا مجددا لاستعادة موقعها الاستراتيجي على السياسة الدولية (سوريا، ايران، كوريا الشمالية) عوامل تتفاعل لتؤسس لواقع عسكري سياسي جديد لا يختلف كثيرا عما كان سائدا في النصف الاول من القرن الماضي، الذي شهد حربين عالميتين عملاقتين. ولا بد من الاشارة الى ان الحرب العالمية الثانية سبقها كساد اقتصادي واسع في الولايات المتحدة، بموازاة النمو الاقتصادي والصناعي في المانيا واليابان. كما سبقها ايضا حالة استقطاب فكري وسياسي بين الشيوعية والرأسمالية اللتين قسمتا اوروبا في المنتصف. انه تاريخ معاصر يفرض نفسه على الواقع وان تغيرت الظروف ومواقع الفرقاء في مضامير السباق نحو الاستقرار وبناء الدولة الاوروبية الحديثة المستقلة حقا. فكل دولة من دول الاتحاد تشعر برغبة في حماية 'هويتها' وترى في التحالف مع الدول الاخرى تمييعا لتلك الهوية. والصراع على الهوية يعكس ازمات اخرى ترتبط بالانتماء الثقافي او الفكري او الديني. ثلاثة محاور تضمنها عنوان هذه المقالة، لكل منها واقعه وحدوده وخطوط التماس على تلك الحدود، وانعكاساته على واقع المجموع الغربي المشوش حتى في تعريفه الجغرافي والتاريخي والقيمي.
الغرب مفردة تتسع تارة وتضيق اخرى. فمن هو الغرب السياسي؟ اهو اوروبا وامريكا فحسب، وما هي اوروبا المعنية؟ أهي التي تضم 27 بلدا عضوا، نصفهم التحق بها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟ وما الذي يجمع هذا الغرب؟ أهو لونه الابيض؟ ام ثقافته المسيحية؟ ام نموه الصناعي؟ ولكن ماذا عن البلدان التي تشهد اقتصاداتها انهيارات واسعة هذه الايام مثل اليونان واسبانيا وربما ايطاليا، بل ان فرنسا بدأت تئن تحت وطأة الضغوط الاقتصادية مؤخرا. وماذا يعني هذا التأرجح ازاء الاتفاقية الاقتصادية التي فشلت قمة بروكسيل الاسبوع الماضي في بلورتها وتحقيق الاجماع بشأنها؟
البريطانيون منقسمون على انفسهم، بعد فشلهم في اقرار تلك الاتفاقية، بعد ان عجز رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، عن الحصول على تنازلات تضمن ممارسة بريطانيا سيادة على نظمها الضريبية وسياسات الانفاق العام. ولكن كاميرون نفسه يواجه تحديا داخليا لانه اصبح على طرف نقيض لشريكه في التحالف الحكومي. فحزب الاحرار الديمقراطيين اكثر ميلا لاوروبا، ويعتبر توقيع الاتفاقية امرا يصب لصالح بريطانيا. ولكن ما جدوى هذه الاتفاقية في ظروف تتغير يوميا مع دقات اجراس الانذار بشأن تداعي اقتصادات العديد من دول الاتحاد. قبل سبعين عاما كانت اوروبا شكلا آخر من الوجود السياسي والجغرافي، فالحرب قد دمرت بلدانها الكبيرة الثلاثة: المانيا وبريطانيا وفرنسا، بينما كان نصف اعضاء الاتحاد الاوروبي الحالي منحازا للشرق، ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي. ذلك الغرب الذي خاض اكبر حربين شهدهما العالم في القرون الاخيرة، اصطلح على تسميتهما بـ 'العالميتين' مع انهما كانتا حربين ضمن الاطر الاوروبية والامريكية، هو نفسه الذي مارس تجربة التقارب السياسي والوحدة الاقتصادية، وضم اليه كافة الدول التي استقلت عن روسيا ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي. المشوار الطويل من الحرب الى التحالف محفوف بالمخاطر، وينطوي على الكثير من المطبات والتحديات.
فاذا كان 'التحدي' الاسلامي قد وحد مواقف حكومات دول الغرب فترة من الزمن، بالاضافة للحماس لتأسيس 'ثقافة اوروبية' مشتركة، وأضعف دور الحدود الجغرافية في تقسيم الدول، فان عوامل الاقتصاد اليوم لا تقل اثرا في احداث مفاصلة بين مكونات هذا الاتحاد، خصوصا مع تصاعد الصيحات لوقف تدفق الاموال من البلدان الاوربية الكبرى خصوصا المانيا وبريطانيا للدول الصغرى، لمنع تداعي انظمتها. وهناك ترقب كبير لما سيحدث في اليونان، ذات الاقتصاد المتداعي، واسبانيا التي لا تقل معاناتها الاقتصادية عن بقية الدول التي تواجه كسادا هو الاقوى منذ كساد الثلاثينات. ويتابع المسؤولون الغربيون هذه التطورات بقلق بالغ ويأملون ان يؤدي اقرار الاتفاقية الاقتصادية لواقع جديد يمنع هذا التداعي في المستقبل. ولكن هناك حقائق تفرض نفسها وتحرك الامور بغير ما يشتهيه ربابنة السياسة والاقتصاد. ومهما قيل عن الماضي الدموي الذي ساد اوروبا حتى وقت قريب، فانه يفرض نفسه على الواقع ويتحدى الجميع بشكل يومي، فلا تستطيع وسائل الاعلام خصوصا في عصر الانترنت، تجاوز هذا التاريخ الموثق بالصورة المتحركة، بدمويته ووحشيته ومآسيه.
ذلك الماضي الذي هيمنت عليه الصراعات المسلحة هو الحاضر الغائب في سجالات الدول والافراد والثقافات. ومن اهم تركاته عقلية الحرب والقتل وثقافة تصفية الآخر كشرط للبقاء واثبات الوجود. ولذلك تحظى مؤسسات الحرب الرسمية بحصة الاسد من موازنات الدول. ولكي يتم ابعاد شبح الحرب عن الفضاء الاوروبي اصبح استهداف العالم الثالث وسيلة لذلك. فالاستعمار كان واحدا من اساليب تصدير الحروب الى خارج الحدود الغربية. وخلال الحرب الباردة وفر الشرق الشيوعي هدفا مشروعا لعقلية الحرب الغربية، وتم التركيز على 'شرقية' الشيوعية، و'غربية' الرأسمالية. ولذلك فما ان تخلت روسيا عن شيوعيتها، حتى اصبحت، لفترة ما، جزءا من هذا الغرب، وبلغ التفاؤل بالدول الغربية الى حد اجراء مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا، ولكن ذلك لم يقض على عقلية التصنيف الغربية التي تقسم البشر الى اصناف قلما تكون ذات رسالة انسانية. فالغرب وقف مع نظام الفصل العنصري روديسيا اولا (ريمبابوي) ثم في جنوب افريقيا، ولم يغير موقفه الا بعد ان بلغ النضال الشعبي ذروته واصبح النظامان على وشك السقوط.
وبعد الحرب العالمية الثانية كان هذا الغرب يسعى لتأسيس ثقافة مشتركة على ارضية الانتماء الديني، ولكن التنافر الايديولوجي حال دون ذلك، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي قبل عشرين عاما. وبعد الحرب الباردة سعى الغرب لتوحيد صفه باحتضان روسيا، ولكن الامر لم يكن سهلا، لان لدى هذا الغرب طبيعة لا تستسيغها الشعوب، تتلخص بالرغبة الدائمة لاحتواء الآخر والهيمنة عليه واستغلاله، واستضعافه وعدم التعاون معه على قدم المساواة. وقد شعرت روسيا انها بسياساتها التي تهدف لاسترضاء الغرب، بدأ يخسر ارضيته ومنطلقاته لضمان الاستقلال واقامة النظام السياسي الحديث. وكرس هذا الانطباع لدى الروس استمرار الولايات المتحدة في سياسات ثلاث: اولها الاستمرار في قضم مناطق النفوذ السوفياتية السابقة بكافة الاساليب، ثانيها: شن الحروب ضد البلدان التي كانت محسوبة على الفلك السوفياتي مثل افغانستان والعراق، وتهديد كوريا الشمالية، وسوريا، ثالثها: قرار نصب الدرع الصاروخية في بولندا بدعوى الاستعداد لاعتراض الصواريخ الايرانية المحملة برؤوس نووية مستقبلا. وفي مؤتمر عقد الشهر الماضي في بروكسل حول التحديات المستقبلية للناتو قال الخبير السوفياتي: لماذا تضحكون علينا؟ اتريدون ان تقنعونا بان المنظومة الصاروخية العملاقة التي ستنصبونها في بولندا هدفها اعتراض قنبلة نووية ايرانية لم يتم صنعها بعد وما يزال اللغط دائرا بشأنها، وليس ضد الصواريخ والرؤوس النووية السوفياتية التي يتجاوز عددها 8000؟ لا شك ان عقلية الحرب التي تعشش في اذهان الساسة الغربيين واحدة من اهم اسباب التداعي الاقتصادي في العالم الغربي. وعندما قامت القوات الامريكية بانزال العلم الامريكي في القاعدة الامريكية ببغداد كان ذلك طيا لصفحة سوداء، وقرارا بلعته الادارة الامريكية بمرارة كبيرة. وتقول التقارير ان كلفة الحرب الامريكية في العراق بلغت اكثر من تريليون دولار (الف مليار). ووفقا لمقالة كتبها البروفيسور جيمس بيتراس، في صحيفة 'غلوبال ريسيرج'، فسوف تبلغ التكلفة النهائية اربعة اضعاف ذلك على مدى نصف القرن المقبل. وفقد نحو 4500 جندي أمريكي وعشرات الالاف من العراقيين أرواحهم في حرب بدأت بحملة 'الصدمة والرعب' من قصف بغداد بالصواريخ والقنابل وأدت لاحقا الى صراع طائفي دموي لم تتوقف بشكل كامل بعد.
اما قضايا حقوق الانسان التي اصبحت شعارا غربيا براقا بعد الحرب العالمية الثانية فقد انطلقت في الاساس لعلاج الفظاعات التي ارتكبت في الحربين في ما بين الغربيين انفسهم. وبسبب ذلك بدأ الوعي الحقوقي الحديث يفرض نفسه ليضغط باتجاه وضع شرائع اممية لمنع تكرر ما حدث، بلحاظ ان تتحول الى مواثيق دولية تقلل من الانتهاكات التي تهبط بالانسان الى مستوى دون الحيوان. وقد اصبحت هذه الحقوق هي الاخرى 'عبئا' على السياسيين، وكثيرا ما اقترح بعضهم التملص من املاءات المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان التي تسعى لضمان لتنفيذ بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وبالاضافة الى ذلك، يعاني الغرب من ازدواجية المعايير في تطبيق هذه البنود. وما تصريحات مايكل بوزينر، نائب وزيرة الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الانسان والعمل، لدى زيارته البحرين الاسبوع الماضي الا تأكيد لازدواجية المعايير ازاء موضوعة حقوق الانسان. فبرغم الحماس الذي ابداه الغربيون لهذه المسألة وتطويرها الا ان تطبيقاتها تعاني من تشوش ذهني تارة وانتهازية سياسية ثانيا، واعتبارات مصلحية ثالثا. فالحروب التي شنها الغربيون ضد دول في العالم الاسلامي كانت تنضح بالانتهاكات وقتل الابرياء، والاستعمال المفرط للقوة ضد المجموعات الاخرى التي لا تنسجم في اطرها الفكرية والسياسية مع الادارة الامريكية. وستظل قضية حقوق الانسان تحديا كبيرا للمشروع الغربي الذي اصبح يتراجع بشكل مضطرد، خصوصا مع تقدم الدور الصيني والروسي في المنطقة العربية.
الغربيون معنيون بحقوق الانسان في العالم، كما هم الامريكيون. وهم جميعا مطالبون بسياسات منصفة مع الحكومات والشعوب، لمنع استمرار التعذيب وسوء المعاملة لذوي المواقف والسياسات المخالفة للقناعات العامة، وما يطرحه الساسة هنا وهناك. وفي الوقت نفسه فان الانتقائية في تطبيق معايير حقوق الانسان والديمقراطية، والصمت على الانتهاكات الفظيعة لتلك الحقوق على ايدي الانظمة الحليفة للغرب، يعكس هبوطا اخلاقيا ويضغط على الغربيين للمزيد من توضيح الموقف ازاء هذه المسألة. فاما ان تكون هناك حقوق تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية ولا تختص بنظام دون آخر، او ان يكون الامر محصورا بتصريحات يطلقها الاوروبيون لهدف واحد: تخدير الضحايا لضمان موتهم ببطء، وهذا ما يجري الآن في العديد من البلدان العربية حيث يطالب النشطاء بالتكيف مع الاوضاع الجديدة في ظل سلطات القمع. ان المسألة لم تكن بهذه الدرجة من الحدة، بل تخضع للاخذ والنقاش، بشرط تحقق عامل واحد، ان تكون هنالك رغبة صادقة في التخلي عن الانتهاكات والحقوق السياسية والمدنية.
وهكذا بدا الغرب مع تصرم عام الثورات العربية محاصرا بمشاكله الاقتصادية والسياسية، ومشغولا بمحاولات التخلص من الشباك التي ادخل نفسها فيها بغير علم او هدى، ومضطربا في موقفه ازاء حركات التغيير الديمقراطي التي تعم المنطقة العربية، بدون ان يكون محركو تلك الثورات منطلقين بايحاءات من الخارج، او عاملين من اجل تحقيق مصلحة اعلامية هنا او هناك. فبرغم مرور اكثر من ستين عاما على الحرب الكونية، ما يزال الغربيون غير قادرين على استيعاب رسالة حقوق الانسان كمشروع يهدف لحماية المواطنين والمناضلين لتأهيلهم لخوض معركة التغيير الكبرى في المنطقة. الغرب مطالب بقدر من الجدية في طرحه، والموضوعية في تقييمه، والانسانية في تعاطيه مع الثورات السلمية وبدون ذلك التقييم قد تتغير الاوضاع لتصل الى التمرد على النظام العالمي من داخله، وعندها لن يكون في مأمن من السقوط، كما حدث للاتحاد السوفياتي. اذا لم تدرك امريكا هذه الحقيقة الآن ولديها شيء من الوقت، فلن يتوفر لها ذلك عندما يداهمها الخطر فتصبح هي الأخرى موقعا لثورة من داخل الكيان، أخطر كثيرا من اعمال الارهاب التي ارتكبها تنظيم 'القاعدة'، والتداعي الاقتصادي المروع هذه الايام.

القدس العربي

copy_r