gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
الاسلاميون بين عداء امريكا واسترضائها
د. سعيد الشهابي
06-07-2011

شيئا فشيئا يزداد الوضع العربي تعقيدا على مستويين اساسيين: السياسي والايديولوجي. فبعد ستة شهور على اندلاع الثورات العربية لا يبدو ان ايا منها قد حقق الهدف الاساسي من تلك الثورات، حتى في مصر وتونس، لاسباب عديدة في مقدمتها 'الفيتو' الذي تمارسه القوى المضادة للثورة، وهي قوى اكثر اصرارا مما يتصوره البعض، وما يزال تحديدها يستعصي على البعض. ويمكن القول ان القوى الفاعلة في الثورات تدرك وجود تلك القوى المضادة ولكنها تختلف في تحديدها، فهي لدى البعض 'التيارات العلمانية' او 'المجموعات المحسوبة على النظام السابق'.
قد يكون لكل من هذه الفئات دور، ولكنها لا تملك القوة القادرة على وقف حركة الجماهير. بل هناك قوى كبيرة مدعومة بالمال النفطي هي التي تحرك هذه الفئة او تلك، وهي التي تتبنى مشروع الثورة المضادة باساليبها المعقدة. الامر المقلق جدا ان تتمكن هذه القوى من اعادة تسويق نفسها بانها 'البوابة' التي يجب ان يلج الثوار من خلالها اما لانجاح الثورة او استمرارها او تحقيق اهدافها. وثمة مشكلة كبيرة تعترض محاولات فهم طبيعة هذه القوى واساليب التعامل معها، تتمثل بالتفاوت بين الاجيال. فالثوار اطلقها جيل الشباب في اغلب البلدان، وليس قوى المعارضة التقليدية. ويحتدم الصراع في الخفاء تارة والعلن اخرى بين هاتين الفئتين. فالقوى التقليدية المتمثلة بالحركات والاحزاب والتحالفات السياسية تخلت عن مشروع الثورة في عملها السياسي لاسباب عديدة من بينها القمع المتواصل والمعاناة والتشتت وتمزيق الاوصال من قبل انظمة القمع، بينما القوى الشابة اكثر وضوحا في اهدافها ومنهجها، ولكنها اقل خبرة ودراية باساليب المراوغة التي تروج عبر مصطلحات 'العقلنة' و'الواقعية' و'اللعب السياسي'. اما شباب الثورة فلا يتقنون هذه الفنون بل يتقدمون بصدورهم العارية امام الجنود والدبابات ويضحون بارواحهم لانجاح الثورة. وما اكثر الحالات التي حدثت فيها احتكاكات بين الثوار الذين يرفضون مبدأ الحوار مع الانظمة والقوى التقليدية التي 'امتهنت السياسة' فاصبحت تتجاوب مع 'المبادرات' وتشارك في 'الحوار' الذي تطرحه الانظمة لكسب الوقت وضمان البقاء وعدم السقوط.
اما الجانب الايديولوجي فهو الاخطر في الوقت الراهن، اذ يفرض نفسه في شكل خيارات لا يمكن حسمها بسهولة، وقد تمثل امتحانات صعبة امام قوى الثورة التي تطالب بتغيير شامل للنظام السياسي على اساس حق تقرير المصير والشراكة السياسية المؤسسة دستوريا بتوافق شعبي. فما الذي منع تحقق ذلك على مدى نصف القرن الماضي؟ الحراك الشعبي قبل ذلك كان يرفع شعار التحرر من الاستعمار الذي كان يتمثل بالوجود العسكري والسياسي البريطاني والفرنسي بشكل خاص. قوى الثورة آنذاك كانت تقاوم ذلك الاستعمار ببسالة ووضوح في الهدف، وقدر من الوحدة الوطنية. ولكن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تحقق الاهداف المنشودة، بل استبدل الوجود البريطاني بالهيمنة الامريكية التي تعمقت تدريجيا خصوصا خلال العشرين عاما الماضية اي بعد أزمة الكويت. وعانت الشعوب العربية خلال الحقبة الامريكية من الاضطهاد والتهميش الشيء الكثير، وما تزال تعاني حتى الآن. وفي اللاشعور الشعبي اصبح الوجود الامريكي مرتبطا بدعم انظمة الاستبداد، سياسيا وامنيا وايديولوجيا. ولذلك اصبح العداء لامريكا شعورا عاما خصوصا اذا اضيف لسياساتها الداعمة للحكام المستبدين دعمها المطلق للاحتلال الاسرائيلي. ولم ينحصر ذلك الشعور بالشعوب العربية بل ان الولايات المتحدة اصبحت في نظر الشعوب الاخرى خصوصا في امريكا اللاتينية رمزا للشر والعدوان والغطرسة. وتعمقت القطيعة الوجدانية مع الولايات المتحدة بسبب سياساتها في العقدين الاخيرين، حتى اصبحت تلك القطيعة معيارا للوطنية والاستقلال لدى الكثيرين، خصوصا الاسلاميين واليساريين. واعتبر من يتصل بالامريكيين 'عميلا' و'خائنا' وربما 'جاسوسا'. وتمكن الاشارة الى ان الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني عمقت الشعور بضرورة المفاصلة مع 'الشيطان الاكبر' الذي اعتبرته من اهم اسباب تخلف الامة ووقوعها تحت الاستبداد، وخسارتها الحروب مع 'اسرائيل'. ايران الثورة ربطت بين رفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والقطيعة مع الولايات المتحدة، وبقيت سياساتها هذه قائمة حتى الآن. واذا كانت واشنطن قد دعمت المجاهدين في افغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، الا انها لم تحصد كثيرا من ذلك الدعم، وسرعان ما تحولت المجموعات التي دعمتها ماديا وعسكريا الى قوى مقاتلة ضدها يساورها الشعور بالقدرة على دحرها كما دحرت القوات السوفييتية.
بلغت القطيعة مع الولايات المتحدة ذروتها في السنوات العشر الماضية، وذلك بعد حوادث 11 سبتمبر، واعلان واشنطن ما اسمته 'الحرب ضد الارهاب'، وهكذا تحولت المشاعر السلبية تجاه واشنطن الى حرب ساخنة مفتوحة على الزمان والمكان. وهنا يلاحظ حالة الجمود التي هيمنت على توازن القوى بين امريكا واعدائها السائرين في فلك تنظيم 'القاعدة'. ويمكن القول ان مقتل اسامة بن لادن قبل شهرين احدث تغيرا كبيرا على ذلك التوازن لصالح الولايات المتحدة. 'القاعدة' مارست سياسات احدثت خللا في ذلك التوازن، بدأ ذلك في العراق عندما تمكنت الولايات المتحدة من اختراق دائرة نفوذ المجموعات المسلحة السائرة في فضاء 'القاعدة' وتشكيل مجموعات 'الصحوة' التي كسرت مقولة عدم جواز التعامل مع 'الاحتلال الامريكي'. ولا شك ان تطرف تنظيم 'القاعدة' في العراق ساهم في تشرذم الفكر السياسي والانتماءات الايديولوجية الى حد 'التطبيع' مع واشنطن. هذا التطبيع ادى الى تخفيف الضغط على امريكا في العراق والى انحسار القوى المقاومة للسياسة الامريكية في الشرق الاوسط خصوصا في اوساط التيار الاسلامي السني. وبرغم ما بدا من مسايرة للسياسات الامريكية من قبل بعض القوى الشيعية، لوحظ استمرار بعض المجموعات الاسلامية 'الشيعية' في مقاومة النفوذ الامريكي في العراق ورفض 'التطبيع' مع سياسات واشنطن في الشرق الاوسط. ولكن ثمة حقيقة بدأت تتجلى تدريجيا وتكشف مفارقة خطيرة على مستوى الفكر والممارسة لدى النخب العربية والاسلامية، وتطرح تساؤلا محوريا: من الذي يرفض التواصل مع الآخر؟ اهي واشنطن ام الحركات الاسلامية' وشيئا فشيئا تتكشف هذه الحقيقة المرة ومفادها ان التمنع يأتي من الجانب الامريكي، وان واشنطن هي التي تقرر ما اذا كانت تريد الاتصال بهذه المجموعة او تلك. فما ان تقرر واشنطن بدء اتصال او حوار مع طرف ما (وان كان محسوبا على الاسلاميين) حتى تبادر تلك الجهة بالقبول، بمعنى ان رفض التعاون مع امريكا ليس قرارا ذاتيا من جانب هذه الحركات، وانما هو رد الفعل الذي يحفظ ماء الوجه للافراد او المجموعات عندما ترفض واشنطن طلب لقاء مسؤوليها او الاتصال معها.
وتتضح هذه الحقيقة من خلال تطورات عديدة، آخرها اعلان واشنطن عن استعدادها للتحاور السياسي مع حركة طالبان في افغانستان والاخوان المسلمين في مصر، كبرى الحركات الاسلامية في العالم. وكانت واشنطن قد فتحت 'حوارات' مع حركات معارضة اخرى في تونس وليبيا والبحرين. هذه الاتصالات تمت في الاعم الاغلب مع الحركات الاسلامية التقليدية. ومن المؤكد ان واشنطن مدت الجسور مع بعض قطاعات الشباب الثائرة، ولكنها ما تزال تعول على الحركات التقليدية التي تعتبرها 'غير متطرفة'. بل ان مفهوم 'التطرف' اصبح نسبيا في المنظور الامريكي. فمن يقبل بالانضواء تحت الانظمة السياسية الحليفة للولايات المتحدة يعتبر 'معتدلا' ومن يطالب بتغييرها 'متطرفا'. وبعد ربيع الثورات العربية وسعت واشنطن شروط التعامل او التحاور مع الحركات الاسلامية. فهي مستعدة الآن للتحاور مع المجموعات غير العنيفة (وان كانت في المعيار الامريكي متطرفة). وينطبق هذا التوصيف على جماعة الاخوان المسلمين التي رفعت في السابق شعار 'الاسلام هو الحل'، واعتبرت من قبل الولايات المتحدة انها 'متطرفة' ورفضت التحاور معها في عهد مبارك. وكانت الحركة في العقدين الاخيرين من معارضي السياسات الامريكية في المنطقة، ورفضت الاعتراف بـ 'اسرائيل' ودعمت حركة 'حماس' و'حزب الله' في صمودهما امام العدوان الاسرائيلي. وقد تعرض كوادرها وزعماؤها للاضطهاد بشكل متواصل، في ما عدا بضع سنوات في مطلع عهد انور السادات. وبعد اسقاط حسني مبارك، اصبحت تمثل القوة السياسية الكبرى الاكثر تنظيما والأقدر على كسب الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في وقت لاحق من هذا العام. وقد فاجأت واشنطن العالم باعلانها الاسبوع الماضي الرغبة في فتح قنوات حوار مع الجماعة. ومن جانبها قالت الجماعة على لسان المتحدث باسمها: 'اننا نرحب بأي من العلاقات مع الجميع، وان تكون هذه العلاقات لتوضيح الرؤى ولكن لا تكون ولا تقوم على التدخل في الامور الداخلية للبلاد'. وفي الاسابيع الاخيرة اجتمع أعضاء زائرون من الكونغرس الامريكي مع مسؤولين من الاخوان كما اجتمع دبلوماسيون مع اعضاء بصفة غير رسمية في مناسبات كان يحضرها الاخوان واخرون. ومع ان موقف الاخوان من الاوضاع في مصر ومستقبلها امر يهم الامريكيين، ولكن همهم الاكبر موقف الاخوان من أربعة امور اساسية: مشروع الحكم الاسلامي والاعتراف بـ 'اسرائيل'، والموقف من اتفاقات 'كامب ديفيد' ودعم حركة 'حماس' التي ما تزال تصنف في القاموس الامريكي ضمن حركات التطرف والارهاب.
وبغض النظر عما يدور في اللقاءات بين الطرفين، فالعنوان المهم هنا هو مد الجسور بين كبرى الحركات الاسلامية والولايات المتحدة الامريكية. وبهذا يترسخ الاعتقاد بان الممانعة الظاهرة من قبل المجموعات السياسية العربية والاسلامية ليست مؤسسة على ايديولوجية راسخة بمقاطعة امريكا، بل انها رد فعل غير اختياري بسبب الرفض الامريكي وليس العكس. والامر نفسه يتكرر مع حركة طالبان الافغانية. فهذه الحركة التي اعتبرت يوما حليفا لتنظيم 'القاعدة' وكانت مستعدة للتضحية بنظامها السياسي من اجل الحفاظ على العلاقة مع ذلك التنظيم، تبدو انها اصبحت الآن في حل من ذلك، بعد مقتل اسامة بن لادن. وبالتالي فالموقف من الامريكيين يتحول مما كان يبدو 'استراتيجية' الى تكتيك سياسي للمناورة. وقد اتضح الآن ان الاتصال بين طالبان وواشنطن ليس جديدا بل ان اتصالات عديدة حدثت في السابق بهدف تهيئة ارضية للحوار بين الطرفين. وحيث ان الحوار المفضي الى علاقات عملية ما يزال بعيدا، فان كلا الطرفين يسعيان لتسجيل نقاط اكبر لترجيح كفته وقت التفاوض. ومن المؤكد ان هذه الاطراف التي لم تعد تمانع في مد الجسور مع الولايات المتحدة تطرح اسبابا منطقية، ولكنها في الوقت نفسه مطالبة بمراجعة ملفاتها السابقة التي سعت لاقناع الجماهير بخطأ التواصل مع واشنطن، اما لانها شريك في الاحتلال الاسرائيلي او داعم لانظمة الاستبداد، ام انه اللاعب السياسي الاكبر المناوىء للمشروع الاسلامي. وقد لا يكون التواصل مع الولايات المتحدة في ذاته امرا مرفوضا، ولكن لدى واشنطن مشروعها في المنطقة الذي يسعى لفرض التطبيع مع الكيان الاسرائيلي بشكل واضح. المثير للامر تكرار الحديث عن 'التجربة التركية' في الممارسة السياسية، وهي تجربة واعدة، ولكنها ما تزال غير واضحة ازاء قضية المسلمين المحورية: تحرير فلسطين وما يستتبع ذلك خصوصا العلاقات والتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. وكانت انقرة قد سعت مرارا للتوسط بين 'اسرائيل' وسورية، الامر الذي شجعته الولايات المتحدة، ولم تؤد تلك الجهود الى نتائج تذكر، حتى تدهورت العلاقات بين انقرة ودمشق بعد اندلاع الاحتجاجات ضد نظام بشار الاسد.
ومن المؤكد ان الولايات المتحدة لن تواصل الاتصال والتحاور مع الاخوان المسلمين او غيرها اذا تشبثت الحركة برفض اتفاقات كامب ديفيد وعدم الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. والخشية ان تكون الجهود المبذولة حاليا تهدف للقضاء على القوى الرافضة للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، بما في ذلك تصعيد الضغوط على المقاومة المتمثلة بحزب الله وحماس، وايران. الامر المؤكد ان العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية، لا تنفصل عن مواقف الدول والمجموعات السياسية ازاء عدد من الامور اهمها الموقف من الاحتلال الاسرائيلي ودعم المقاومة لذلك الاحتلال، والعلاقات مع ايران وترويج المشروع الاسلامي السياسي. هذه قضايا لا تساوم امريكا مع احد بشأنها، ولذلك فهي التي تقرر الاطراف التي ترغب في مد الجسور معها، وتلك التي تحاربها. وبعد انطلاق الربيع العربي، اصبحت واشنطن، التي طالما رفضت التحول الديمقراطي في العالم العربي ودعمت انظمة الاستبداد، البوابة للمشروع الديمقراطي في الشرق الاوسط، وبدونها، في نظر البعض، يستحيل ذلك التحول. وما لم يتم تصحيح هذا التحول الفكري، الذي يعتبر واحدا من اهم انجازات قوى الثورة المضادة، فسوف يمثل ذلك انزلاقا خطيرا في مشروع التغيير الثوري، يؤدي الى اجهاض الثورات او تطويعها او احتواء آثارها. ومن النتائج المحتملة لتلك النتائج ان تعود امريكا من الشباك بعد ان تطرد من الباب. لقد اصبح من الضروري وضع النقاط على الحروف لاستشراف خريطة المنطقة في ضوء التطبيع السياسي والايديولوجي مع الولايات المتحدة الامريكية التي ما يزال رئيسها يؤكد التزام بلاده بالحفاظ على التفوق الاستراتيجي للكيان الصهيوني.
 
 

copy_r